فاتحة مرشيد و(الحق في الرحيل) الصادرة عن المركز الثقافي العربي، في طبعتها الأولى للعام 2013م، روائية شاعرة ورواية شاعرية، فكيف لقارئ أو ناقد أو عابر أو شاعر أن يقرأ هذه الرواية دون أن تهزه، أو تستوقفه أمام حسها اللغوي، وأفقها السردي الأكثر إبداعا، وأناقة. اعتمدت الروائية في هذا العمل برأيي على مفاجأة القارئ، والعزف على أوتار أعصاب توقعاته للحدث. إذ تنطلق على هيئة صور سردية في أربعة فصول كفصول العام الشهيرة فكما تفاجأن الأرض والسماء بانتقالهما من صيف إلى شتاء كذلك سيتافجأ قرّاء رواية (الحق في الرحيل) بأحداث، وشخصيات، وحبكات، وسرد يقنعه بأن ما بين يديه عمل يستحق الانضمام لأجمل الروايات العربية. الروائية اعتمدت على نمط أبطال جدد هذه المرة يختلفون كليًا عن أبطال أعمالها القدامى. فبهذه المرة قدمت لنا قصة عشق (شيفية) وعاشق مبدع يرتدي حلّة شبح خفي يكتب الروايات، والسير الذاتية لغيره ويكتفي بمقابل بخس يمحو بموجبه اسمه من ظهور الأغلفة. أبطال الرواية استطاعوا الإمساك بزمام السرد وتحميله رسائلهم الروائية الحوارية الرائعة ومفاجأة الجميع دفعةً واحدةً بكل ما قد يخالف التوقعات القرائية أو الاستنتاجية التي تلد عادةً أثناء سيرك القرائي. برأيي أن الروائية تقدم في عملها هذا شهادة جديدة عن كتّاب الزور المنحرفين إن صح لي هذا الإطلاق عليهم؛ ذلك أنهم وحسب شهادة الرواية ينتمون إلى بطولات ليست من صناعتهم، ولا من نتاجهم، تقول:»لا شك في أنك تعلمين بأن الكثير من المشاهير، رياضيين أو رجال أعمال أو رجال سياسة أو نجومًا أو رؤساء دول..قد أصدروا كتبًا تحكي سيرهم الذاتية. طبعًا، هم لا يمتلكون موهبة الكتابة ولا الوقت الذي يضيعونه في التأليف والتنقيح، لكنهم بالمقابل يملكون المال الذي يجعلهم يحققون حلم إصدار كتاب يحمل اسمهم. ص26» إنها قضية فاحت رائحتها على مر العصور ولكن سردها بطريقة مختلفة وفكرة حمّلتها (الكاتب الشبح) هو الذي لم يفح إلا بهذه الرواية. الجميل في النص الروائي الإبداعي هذا أن الروائية تفتح له مساحة حرة تجعله يبدأ متى أرادت دون تعقيد وتنهي بطولة لتبدأ أخرى في سردٍ روائيٍ خلاّق وكأنك في نزهة ترويحية لا رواية مكتوبة. الكتابة السردية العربية بحاجة إلى المزيد من هذا النوع الروائي لتكسر به روتين الغث والسمين. اعتمدت الروائية على فضاء النص المفتوح بين الحين والآخر وتسليم أدوار البطولة لآخرين يزيدون النص تشويقًا وإمتاعًا.. كالتقاء اسلان ببطل الرواية فؤاد فما إن بدأ يسرد لها خبرته الكتابية وقدرته الفذة في التعايش بدور (الكاتب الشبح) مع أي سيرة يسمعها إلا وتبدأ اسلان بارتداء ثوب البطولة والإمساك بالخيوط الحكائية ?وحدث هذا فجأة- دونما مقدمات هزيلة أو حوار ممل. الانتقال السريع والغير مخل تمامًا كالانتشار السريع. تقول: «سبعة عشر ربيعًا هي كل ما يملك، إن استثنينا قسطًا وفيرًا من الخجل ورثَه عن والدته، وأحلامًا لم تتعلم التحليق، ومع ذلك قرّر أن يهاجر إلى فرنسا..» حين بدأت اسلان بإكمال سيرتها البطولية كان فؤاد يمارس دور الإصغاء فقط، وبهذا الانتقال تدخلنا إلى رواية أخرى داخل حوض الرواية الأصلية مستعينة بالمدن المغربية ذات الخامة الاسمية الجديدة في الأدب المغربي: كأزمور، تافراوت وأخريات. أعود لأقول: إن جودة المفاجأة في الرواية مثمرة لحدود أنها تمنحك لذة الانتظار في كل صفحة فعلى سبيل المثال هذا المشهد الذي تقول فيه:»أجوب أركان البيت.. تستوقفني بصالة الجلوس صور بالأبيض والأسود، ما زالت تحرس الجدار: صورة زفافي بربيعة، صورة لوالدي بجلباب أبيض وطربوش أحمر وصورة لوالدتي وهي تحمل الطاهر بين يديها.. ثم صورة باهتة لي مع صلاح ونحن نصطاد السمك. ص70» فلو قرأنا الرواية حتى وصلنا لهذا المقطع فلن يمكننا توقع زواج البطل مطلقًا ولا إنجابه لطفل اسمه (الطاهر) فالحب الذي مارسه مع اسلان غيّب عنّا مفاجأة احتمالية زواجه، وأبوته. هنا تكمن المفاجأة التي تشعل ذهن القارئ، وتحترم عقليته الواعية. لا يتوقف أمر مفاجأة القارئ مطلقًا، فما إن تنتهي من مفاجأة صورة زفافه بربيعة حتى تلهب لبّك وتسحر عينيك بتفاصيل وظروف زواجه بها.. تقول:»مررت بمحاذاة بيت صلاح.كانت آخر مرة ارتاده، يوم جاء خبر وفاته في أمريكا، وكنت قد جئتُ في زيارة قصيرة لأتفقد أحوال والدتي وربيعة وابنها. نزل خبر موته في أمريكا كصاعقة، خاصة وأن ظروف الوفاة كانت غامضة... ص76» ويستمر إغداق المفاجأت السردية المؤلمة تارةً، والمحزنة أخرى، والوفية ثالثة مما ينم عن علو ذكائها الروائي -وهذا لا شك فيه- تقول:»قالت بأنها لا تستحق العيش، وبأنها مذنبة، وبأنها حامل من شخص غرر بها... ص78». وما هي إلا خطوة سطور وتفاجئنا بما ليس متوقع على الإطلاق لتقول:»وهنا أخبرتني ربيعة بتفاصيل ما حصل بينها وبين صلاح خلال الليلة التي قضياها معًا في مدينة الرباط..إلخ. ص 78» كل المشاهد التي مضت وغيرها الكثير بالرواية درس جديد في (كيفية إحداث المفاجأة بمسيرة النص السردي) ويمكن لكتّاب الرواية العربية المهملين لهذا الجانب التدرب عليه ومجانًا-ولا أظن أن الروائية سوف تطالبهم بمقابل على هذا- فهي وغيرها من المبدعين يعلمون التلاميذ الروائيين مجانًا. لا تخلو الرواية من جمال اللغة، وأناقتها، وبلاغتها، ولا من حاستها الشعرية؛ فالروائية شاعرة في الأصل وهذه متعة أخرى. وأما عنوان الرواية (الحق في الرحيل) فقد تم توظيفه بشكل تطابقي مع السرد إلى حد المواءمة بينهما. تقول:»أريدك أن تطلقني قبل رحيلك. ص83» أو ليس الطلاق حق في الرحيل؟. وقولها: «وتوجد جمعيات في دول أخرى تساعد على الرحيل. ص 174» وقولها:» هذا قرار خاص بهم ويجب أن احترم حقهم في الرحيل.. ص 175» وقولها قبل نهاية الرواية بصفحة:»كان ذلك آخر عناق لنا قبل أن أساعدها على الرحيل في هدوء وسكينة. ص 190» ولمثل هذا يصبح العنوان ذو فائدة وإلا فلا. وأما من حيث تعدد الشخصيات والبطولات المشوقة لكل بطل بدءً: (بفؤاد، ثم اسلان، فصلاح، فربيعة، ثم الدكتور رشيد، ويليهم حميد ويوسف.. وغيرهم.) فقد أبدعت بنقل البطولة من الفرد إلى البطل الروائي ذاته والعكس مع كثافة الأبطال يذكرني هذا الانتقال برواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ حيث كان انتقال البطولة إلى أبطال آخرين غير مؤثر بل ولم يلغ تدخل الذات الساردة وإنما أبقى أدوارها بذات الأهمية. الرواية مليئة بالمشاهد واللافتات السردية المتجددة ولا يمكن لقارئها أن يتجاوز الرائحة ودوافعها النفسية في إعادة الذاكرة للأمكنة، أو إيقاظ حالة الاستذكار إلا أن الرائحة هنا ليست عطرًا كما هي عليه الروايات الأخرى بل رائحة مختلفة، لها خاصية جذب أقوى من العطر نفسه إضافة إلى أنها رائحة توثيق الروابط النفسية بشكل أدق وأعمق، رائحة تتكرر في مجمل مقاطع الرواية تقول: «إنها طريقتها في السفر عبر الرائحة، تسلمها جسدها فتقودها إلى مكان من الذاكرة.. يبدو أن كل قارورة ترتبط بفترة زمنية من فترات حياتها بكل ما تتضمّنه هذه الفترة من أشخاص وأماكن وذكريات. فكما يحتفظ بعضنا بألبوم الصور، تحتفظ هي بألبوم الروائح. روائح التوابل.. كل قارورة هي انعكاس للحظة أو لحظات في حياتها وعبيرها بساط سفر سحري نحو هذه اللحظات، تبعدها نوعًا ما عن الألم. ص 159» فما أجمل التوابل حين تصبح عطرًا. الرواية لم تغفل حادثة العصر العربي الجديد النادرة وهي الثورة بل استحضرتها كحال كل رواية كتبت مع بدء الشرارة بالعام 2011م وحتى تاريخ طباعة عملها هذا؛ فما يزال التاريخ في فترة تدوين شهاداته حول هذه الظاهرة العربية الخرافية والأسطورية.. تقول:»الشاب يدعى محمد البوعزيزي وهو بائع متجول للخضر، عانى من ظلم المجتمع له ومن فقدان كرامته. قتل نفسه لأنه رفض العيش بدون كرامة. وأصبح رمزًا للثورة التونسية التي اشتعلت إثر هذا الحدث. ص172». أخيرًا: أعترف بأنني تألمت لبطل الرواية (فؤاد) وأكثر ما آلمني أنه لم تتم له حياة وإنما كان مستودع للرحيل: في تجربته بل تضحيته مع (ربيعة) ذلل الظروف لمصلحة غيره وحسم الرحيل، وفي حالة معشوقته (اسلان) قرر أن يحفظ كرامتها كما يفعل الموت، ووهبها حقها في الرحيل ...