توطئة: يعد حسن محمد الحسني من أهم الروائيين المتميزين فنيا وجماليا بمنطقة الريف، وذلك إلى جانب محمد شكري، وعبد الحكيم معيوة، وبشير القمري، وميمون كبداني، وحسين الطاهري، وإسماعيل العثماني، وميمون الحسني، ومصطفى الحسني، وأحمد أبابري، وخالد قدومي، وسمية البوغافرية، ومحمد أرغم، وعمر والقاضي، وأشهبار المتقي، وفوزية القادري، وعبد السلام فزازي، ومصطفى الحمداوي… هذا، وقد أصدر حسن محمد الحسني روايته الأولى :(المجذوب والفرس الأزرق) سنة 2012م1 ، وذلك بعد مجموعته القصصية (الصيحة الخضراء) التي تتخذ بعدا قصصيا وحكائيا، وهي عبارة عن قصص موجهة إلى الأطفال، و تحمل في طياتها أطروحة إيكولوجية(بيئية)، تهدف إلى تحسيس الأطفال بالبيئة، وما تتعرض لها من سموم خطيرة من قبل الإنسان المعاصر2. وتعد هذه المجموعة امتدادا لكتابه العلمي:(نحن وتسميم البيئة) الذي نشره سنة 2005م3. إذاً، ماهي السمات الدلالية والفنية لهذه الرواية؟ وماهي أبعادها المرجعية؟هذاما سوف نحاول رصده في هذه الدراسة. D المعطى الدلالي: تسرد الرواية محكيين متعاضدين ومتناوبين فنيا وجماليا، محكي الشيخ عبد السلام المجذوب، ومحكي الشريف سيدي محمد أمزيان.ويعني هذا تداخل التخييل الفني مع التوثيق التاريخي؛ مما يجعل هذه الرواية أقرب من الناحية الفنية والجمالية إلى روايات جورجي زيدان التي تندرج ضمن الرواية التاريخية الفنية؛ لأنها تجمع بين التوثيق التاريخي والتخييل الفني والجمالي.أي: إن رواية (المجذوب والفرس الأزرق) تسجل لنا مقاومة الشريف أمزيان للعدو الإسباني من جهة، ومقاومته لبوحمارة من جهة ثانية، مع الإشارة بشكل من الأشكال إلى مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي من جهة ثالثة.لذا، فقد اعتمد الكاتب على وثائق تاريخية في هذا المجال، حيث راجع كتابي: (الكشف والبيان عن سيرة بطل الريف الأول سيدي محمد أمزيان) للحاج العربي الورياشي، و (أسد الريف: محمد عبد الكريم الخطابي، مذكرات عن حرب الريف) لمحمد محمد عمر القاضي، فضلا عن الروايات الشفوية المتداولة على الصعيد المحلي حول تاريخ المنطقة. هذا، وقد كان الكاتب أمينا في نقله لأحداث التاريخ المحلي، باستقراء فترة الشريف أمزيان استقراء علميا موثقا، وطرح ماكانت تعج به المنطقة من تناقضات سياسية ومادية وروحية. ومن ثم، فقد صور لنا الكاتب مقاومة الشريف أمزيان بصدق فني ، متتبعا معاركه التي انتصر فيها على عدوه الإسباني، مع الإشارة إلى ما بذل من جهود جبارة للقضاء على فتنة بوحمارة، وطرده ذليلا من منطقة الريف. ومن ناحية أخرى، يستعرض الكاتب تصدي الشريف للمحتل الإسباني الذي أراد استغلال ثروات الريف وخيراته ، وإذلال ساكنته مسخا وتشويها وإهانة. بيد أن الشريف أمزيان لايرضى بالضيم والظلم والجور، فقد استطاع أن يكبد العدو خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد.لكن أبناء جلدته سيبيعونه بثمن بخس للعدو، بعد أن يحاصروه في المسجد مع مجموعة من مقاوميه، فيردونه قتيلا. ومن ناحية أخرى، كان هناك الشيخ سلام المجذوب الذي كان يحرض الريفيين لمقاتلة العدو الجائر، بضرورة انضمامهم إلى أتباع الشريف أمزيان، فكان المجذوب يستحثهم باستمرار على الجهاد، دون تعب أو كلل أو وهن، وكان ينصحهم بمحاربة الخونة من الريفيين، والتنديد بأهل الفساد من القياد وأتباع الإسبان بكل جرأة وشجاعة. ومن ثم، سينتفض سلام المجذوب كالمجنون، مخاطبا الإنس والجن والجماد، حينما تقاعس أبناء الريف عن الجهاد، وذلك مباشرة بعد وفاة الشريف أمزيان غدرا ومكرا واحتيالا. وبعد ذلك، سيختار أهل الريف سياسة المهادنة مع المستعمر المحتل، والارتضاء بحل التكيف والتأقلم مع الأوضاع السائدة. وكان سلام المجذوب ، وذلك في أقواله الظاهرة والباطنة ، وخطبه الصارخة المجلجلة، ونصائحه المحققة الثابتة، إماما خبيرا وحكيما، وشيخا عارفا بعلم الأحوال، يسعى دائما إلى الخير، نابذا الشر والفرقة والفتنة، مخاطبا الناس في الأسواق بحكمة وجدل حسن، واعظا إياهم بأمور الدنيا والآخرة، وينبههم إلى مكائد المستعمر، ويفضح دسائسه الجهنمية الخطيرة، ويدعوهم إلى استرخاص الأرواح والأموال من أجل نصرة الدين والوطن.ولم يكتف المجذوب، الذي كان يتهم بالمجنون والملهوف الطماع، بنصح الأحياء الحاضرين، بل كان يخطب في أحفاد المستقبل، ينصحهم بالتشبث بالأرض، والتمسك بالهوية المحلية، والدفاع عن الحرية والاستقلال ، بدلا من الانسلاخ عن الجذور، والارتماء في أحضان الغرب اندماجا، وتجنيسا، واستلابا، وامتساخا. D المعطى الفني والجمالي: يبدو أن رواية(المجذوب والفرس الأزرق) لحسن محمد الحسني رواية جديدة من حيث البناء الفني والمعماري. فهي رواية فانطاستيكية، ترد في شكل رحلة خارقة، تعتمد على خرق الزمان، باسترجاع أحداث الماضي.ومن ثم، فالرواية استرجاعية في مسارها الزمني، تعود إلى الماضي لتلتصق بالحاضر، وتستشرف المستقبل:” انظر إلى زرقة السماء أولا ، ثم اغمض عينيك، وانس الحاضر، شد حزامك بإحكام، تمسك بي جيدا، وعطل ساعتك اليدوية ؛ لأن عقاربها ألفت الدوران في اتجاه المستقبل، ونحن سنرجع إلى الماضي. سننتقل إلى زمن غريب لم تعش فيه، سيكون الانبهار شديدا، وقد يؤذي عينيك إن فتحتهما مرة واحدة. لم أمانع ولم أبد أية مقاومة ضد مشروع الرحلة الغريبة، ولا أي حرص على التشبث بأمن الحاضر ، فقد كنت دائما تواقا إلى عيش مغامرة الانتقال من الحاضر إلى الماضي، بعد أن عشت دائما رتابة الانتقال من الحاضر إلى المستقبل، حتى كاد يصيبني الملل، لأن هذا المستقبل بات مجهولا وغامضا.امتطى الشيخ صهوة الفرس الأزرق، ثم ركبت خلفه، وأمسكت به جيدا، مخافة السقوط نحو الأرض.طفق الفرس يتحرر شيئا فشيئا من الجاذبية ، ورحت أعيش أغرب رحلة في حياتي.وقد حرصت على وضع قلم أزرق وعدة أوراق في جيبي، حتى أتمكن من تدوين وقائع وتفاصيل الرحلة الزمنية الخارقة، ولولا خوفي من إغضاب الشيخ لحملت آلة تسجيل الصوت وآلة تصوير رقمية أيضا. ومنذ الوهلة الأولى أدركت من خلال نظرات الشيخ الغريب أنه قد يكون من أقاربي الهالكين منذ وقت طويل، وخامرني ظن في أن يكون من أجدادي. ولهذا السبب، كان نسيم الطمأنينة يهب على قلبي المرتجف من وقت لآخر.”4 وهكذا، يبدو لنا بأن هذه الرواية عبارة عن رحلة عرفانية خارقة في عوالم الماضي، لاسترجاع تاريخ الريف في ظل الاحتلال الإسباني، وتجسيد معالم المقاومة، وذكر مآسي الخيانة المحلية.ومن ثم، تنبني البنية السردية على تحبيك الصراع الجدلي والحضاري القائم بين أهل الريف والعدو المحتل الذي أراد استغلال الريفيين، واستنزاف ثرواتهم، وتركيعهم ذلا وإهانة وضيما. ومن ثم، تتخذ المقاومة في الرواية طابعا جهاديا وعرفانيا ومعنويا، وذلك بتحريض أهل الريف على المقاومة والاستبسال، والتفاني في نصرة الدين والوطن.وتنتهي الرواية بموت المجذوب، وامتداد رسالته الجهادية عبر المستقبل. ولا ننسى بأن السارد هو حفيد الشيخ سلام المجذوب، وقد تأثر بجده كثيرا على مستوى القيم والمبادىء، وتمثل بشكل جيد رسالته النضالية النبيلة:” أنهى الحفيد الأصغر لساسنو سرد وقائع وتفاصيل رحلته العجيبة صحبة جده الذي ظل قبره مجرد قبر بسيط من تراب، ولم يتحول إلى ضريح، لأن الناس أصبحوا مفتونين بأصناف جديدة من الأضرحة، وبأنواع معاصرة من السحر، أصبحت لهم اهتمامات شديدة التباين مع اهتمات أجدادهم.تأثر بالغ التأثر بأفكار عمه الشيخ سلام خلال رحلته العجيبة ، ولكنه ظل رهينة لنمط الحياة السائدة الآن في الريف، وظلت الأفكار السائدة تملي عليه سلوكه، بينما ظلت أفكار الشيخ المجذوب مجرد أحلام وخواطر، لاتكاد تخرج عن نطاق مخيلته. ركب الحفيد الأصغر لساسنو سيارته الرباعية الدفع، بعد انطلاقتها، انبعث منها دخان خانق، وموسيقى صاخبة تصم الأذن…عند وصوله إلى منزله الكائن في الطابق الخامس من عمارة مرصعة بالزجاج، جلس قبالة شاشة الحاسوب، وعاد للإبحار من جديد في شبكة الإنترنيت…عاد لينغمس في هذا العالم الافتراضي الهائج والزاخر بكل جديد وغريب. وكان هذا الانغماس الطويل يدفعه إلى نسيان رحلته العجائبية مع شقيق جده الشيخ سلام المجذوب…تلك الرحلة الطويلة الساحرة والغريبة، والتي جعلته يقضي ليالي طويلة فريسة للحيرة والأرق والاندهاش…”5 إذاً، تتضمن الرواية نوعين من الشخصيات: شخصيات تاريخية حقيقية (الشريف أمزيان- بوحمارة…)، وشخصيات خيالية من خلق الكاتب (سلام المجذوب- ساسنو- بوسنان- زهرة- نوارة- عياد –عاشور- الشيخ زهتان- نعمة- بوشموس…). ومن جهة أخرى، تتضمن الرواية شخصيات إيجابية، مثل: سلام المجذوب، والشريف أمزيان، وساسنو، وعياد، وبديع، ونوارة، وسرخيو…، وشخصيات سلبية ، مثل: بوسنان، ومولود، وبوقيضون، وبوزيدان، وضباط الاحتلال … أما على مستوى التفضية، فقد تحدد مكان الرواية في منطقة الريف، كما تحدد زمنها في القرن العشرين، وإن كان هذا الزمان يمتد في الحاضر والمستقبل: “:” تبخر الطيف البشري الغريب دون سابق إنذار، وتركني حائرا. تبخر في الفضاء الأزرق اللانهائي، بعد أن ظل يلازمني مثل ظلي في مطلع القرن العشرين الميلادي، واختفى الفرس الأزرق الذي يتحدى الجاذبية، والذي اتخذه الطيف البشري مطية، يرتقي بواسطته إلى أعالي السماء، دون أدنى أمل في العودة إلى سطح الأرض. هكذا، ألفيت نفسي فجأة مثل أي حفيد من الأحفاد، أتجول في كل أرجاء الريف.أتيه تارة في الغابات والأحراش الكثيفة، وبين تجاويف الوديان، والكهوف الجبلية الموغلة في القدم، وأجد نفسي تارة أخرى ضائعا في أزقة مدن شديدة أشبه بالقرى.”6 هذا، ويستعمل الكاتب الوصف الانتقائي لتعضيد مشاهده السردية، وتقويتها بلوحات تزيينية وتعبيرية، لنقل انطباعات السارد، وانفعالاته، وتأثراته، وإعجابه بالطبيعة الريفية. ومن ناحية أخرى، يستعمل الوصف لتشخيص الشخصيات خارجيا وداخليا ووظيفيا، مع التعبير عن سماتها التكوينية ، سواء أكانت نفسية أم جسدية أم وراثية أم قيمية ، وتحديد دور هذه الشخصيات داخل المجتمع، كما هو حال وصف عاشور:” كان فلاحا بسيطا مؤمنا، محبا للعمل والصدق والقناعة والسخاء.وكان الكثير من المتوافدين من أجل التعزية يكتفون بترديد العبارات المألوفة في هذه المواقف الحزينة، ثم يعودون من حيث جاؤوا، بينما كان ثلة منهم يدلفون إلى بيت الضيوف لتناول كأس شاي ، والاستماع إلى آيات من القرآن الكريم بصوت شجي، ونبرة حزينة.”7 وعلاوة على ذلك، فقد أحسن الكاتب وصف المسكن الأمازيغي ، حيث أضفى عليه أوصافا جغرافية متنوعة، وألبسه حلة إنسانية وأنتروبولوجية متميزة:” كانت منازل أهل الريف ذات هندسة خاصة.كان كل منزل يتشكل من عدة بيوت، يتوسطها فناء رحب هو الفضاء المشترك للأسرة الكبيرة، بينما تحتل كل بيت أسرة نووية واحدة، تضم الرجل وزوجته والأولاد.كان البيت هو المجال الخاص لكل أسرة صغيرة، بينما الفناء هو المكان الذي يجمع أفراد جميع الأسر من أجل الفرح أو الحزن أو الاحتفال، أو لتبادل أخبار القرية والوطن والعالم، أو للتراشق بالألفاظ، واحتدام الخصومات عند توتر الأعصاب. وبداخل كل بيت، كانت تتواجد عدة أجنحة: جناح خاص للعلاقات الحميمة بين الرجل وزوجته، وجناح خاص لنوم الأطفال، ولا يفصل بين الجناحين إلا ستار من قماش، لايسدل إلا في تلك اللحظات التي يشخر فيها الأطفال، ويلتحم فيها الرجل بزوجته.ولئن كان الستار يحول دون رؤيتهما من طرف الأطفال الساهرين، فإنه لم يكن يمنعهم من سماع الأصوات الناجمة عن تلك العلاقة التي يجهلون كنهها. كانت هذه البيوت بسيطة في شكلها، ومتواضعة في بنيتها، ولكنها كانت تتمتع بمواصفات صحية نادرة.كانت تحتفظ بالبرودة صيفا، وبالحرارة شتاء. جدرانها مصنوعة من الأحجار الكلسية والطين الممزوج بالتبن والماء.بينما كان السقف يصنع من أعمدة الأشجار المستقيمة، مغطاة بصفائح من قصب، يربط بعضها بالبعض الآخر بالخيوط، ثم يوضع فوقها مزيج من التراب والطين ، وكان مبعث القلق الدائم لدى القاطنين فيها هو الأرضة التي لاشغل لها إلا قضم أعمدة السقوف. وكان صوتها كصفارة إنذار، تنبه النائم بأن السقف قد ينهار في أية لحظة. كانت الأخطار تزداد في فصل الشتاء ، حين تنهمر مياه الأمطار الغزيرة، فيمتصها الطين الموضوع فوق السطوح، فيزداد وزنها بشكل يؤدي بسرعة إلى تقويض الأعمدة المنخورة.هكذا، كانت المآسي المؤلمة تتجدد عند حلول كل شتاء، نتيجة انهيار المباني الهشة، فتعلو صرخات النساء وبكاء الأطفال، ويقوم الرجال بدفن من كان نصيبه الموت تحت الأنقاض.”8 ومن حيث البناء المعماري، فقد انبنت الرواية على الاستهلال الوصفي، والعرض الحكائي المتقطع إلى محكيين سرديين متناوبين: محكي سلام المجذوب، ومحكي الشرف أمزيان، ثم خاتمة فانطاستيكية تتمثل في عودة السارد إلى موطنه الحالي في زمنه الحاضر. وهكذا، نجد الكاتب يستفتح روايته بمقطع وصفي بانورامي خارجي، يصف فيها جبل أزروهمار الذي يطل على بلدة أزغنغان، حيث يسكن الشريف، أو يوجد قبره:” كان جبل أزروهمار منتصبا بشموخ، كما كان دأبه منذ ملايين السنين. وكان يبدو للناظر إليه من بعيد، مثل أسد جبار منحوت في الصخر، وهو منهمك في استراحة أبدية، وسهر الليالي ليحرس بعين لاتنام قرية أزغنغان المشيدة على سفوحه، ويرنو إلى بحيرة مارشيكا وإلى ماورائها، حيث البحر الأبيض المتوسط والقارة الأوروبية. وظل هكذا راسخا في شموخه على مر العصور، وصامدا في وجه الأعاصير، مجسدا وعاكسا لمقاومة السكان وصمودهم في وجه كل الأخطار القادمة من وراء البحار. وكان يحاول محاكاة الأبطال الذين عاشوا هنا، ودفنوا هنا ، بعد أن استبسلوا في صد كل الغزاة الذين سولت لهم أنفسهم التعدي على أراضيهم، وكل الطغاة الذين سوغت لهم أنفسهم إهدار كرامتهم.وعند استسلام الناس وخوفهم من المعتدين، كان الغضب يجتاح جبل أزرو همار، كما بركان كوروكو يثور ويقذف بحممه الجهنمية للتنفيس عن هذا الغضب.”9 وبعد سرد مقاومة الشريف أمزيان، ونضال سلام المجذوب في مواجهة الواقع المنحط، ومقاومة العدو المحتل، ينتقل السارد إلى إتمام الرواية بعودة فانطاستيكية خارقة إلى الواقع الأصل:” تبخر الطيف البشري الغريب دون سابق إنذار، وتركني حائرا. تبخر في الفضاء الأزرق اللانهائي، بعد أن ظل يلازمني مثل ظلي في مطلع القرن العشرين الميلادي، واختفى الفرس الأزرق الذي يتحدى الجاذبية، والذي اتخذه الطيف البشري مطية، يرتقي بواسطته إلى أعالي السماء، دون أدنى أمل في العودة إلى سطح الأرض. هكذا، ألفيت نفسي فجأة مثل أي حفيد من الأحفاد، أتجول في كل أرجاء الريف.أتيه تارة في الغابات والأحراش الكثيفة، وبين تجاويف الوديان، والكهوف الجبلية الموغلة في القدم، وأجد نفسي تارة أخرى ضائعا في أزقة مدن شديدة أشبه بالقرى.”10 وعلى مستوى المنظور السردي، ينتقل الكاتب من رؤية إلى أخرى، فهناك رؤية مؤطرة ، هي الرؤية مع ، أو الرؤية الداخلية التي تدل على حضور السارد، ومشاركته داخل القصة، ورؤية مأطرة هي الرؤية من الخلف ، ويستعملها الكاتب لنقل الأحداث المتعلقة بمقاومة الشريف أمزيان، ونضال سلام المجذوب. ويدل هذا التعدد في المنظور السردي على النزعة التجديدية التي يميل إليها الكاتب في بناء روايته الأولى. وعلى الرغم من تسلسل الرواية زمانيا، إلا أن الزمن السائد هو الزمن الفانطاستيكي الذي يمتزج بالزمن الواقعي التاريخي.بمعنى أن هناك تناوبا بين التوثيق التاريخي والتخيل الفانطاستيكي.وهذا من سمات الرواية الحداثية. ويلاحظ أن خاصية التناوب هي التي تتحكم في بناء الزمن السردي، فهناك قصة السارد، وقصة الشريف أمزيان، وقصة سلام المجذوب، وهناك قصص أخرى فرعية، كقصة ساسنو، وغيرها…بمعنى أن الكاتب يلتجىء إلى التضمين والتوليد، وتفريع القصة الرئيسة إلى مجموعة من القصص والحكيات النووية الأخرى. وينضاف إلى ذلك، أن الزمن هابط، ينطلق من الحاضر نحو الماضي، في شكل محكي استرجاعي فانطازي، يتأرجح بين السرعة والبطء، بتوظيف الوقفة الوصفية، والمشاهد الدرامية، والميل بشكل من الأشكال إلى الإيجاز والتلخيص في الأحداث الأخرى، وخاصة فيما يتعلق بطرد بوحمارة من الريف. كما ينحرف الكاتب زمنيا ، إذ ينطلق من الحاضر نحو الماضي، ثم يستشرف المستقبل، كما يتجلى ذلك واضحا في هذا المقطع السردي الذي يحمل تسويفات بوسنان: ” وقد جلس القرفصاء ذات يوم في باحة منزله ، وبدأ يخطط للمستقبل: حين ستضع الحرب أوزارها، بعد أن تكون قد شبعت من حصد الأرواح، وبعد أن تكون قد استهلكت الآلاف من الجثث، سأنتظر نيل نصيبي من الغنائم…انتظر طويلا، فأنا أتقن الانتظار، فما خاب من انتظر…إذا لم تنصفني إسبانيا، وتعينني في منصب قائد على قرية أبقوق التي ولدت فيها، سأحمل حقيبتي، وأتوجه إلى الجزائر، وهنالك سأعمل في ضيعة أحد المعمرين الفرنسيين لمدة عشر سنوات، ثم أعود إلى أرض الريف بثروة طائلة، سأشتري بعد ذلك مساحات شاسعة من الأرض، وسأبحث عن ألف مسكين للعمل عندي، والقيام بالأشغال الفلاحية الشاقة بأجور زهيدة، عدا ذلك سأبحث عن أجمل فتاة في القرية لأتخذها زوجة لي؛ لأن زوجتي نوارة ستكون حينئذ قد فقدت عصارة الشباب، ومحا الشيب سواد رأسها، وأضحى وجهها يذكرني صباحا ومساء بموعدي المحتوم مع الموت… وبينما كان غارقا في أحلام اليقظة، كان ساسنو يتأهب لتنفيذ مخططه السري القديم: الثأر لخطيبته زهرة ووالدها عياد.”11 هذا، وينتقل الكاتب من أسلوب السرد إلى أسلوبي الحوار والمنولوج ، مع استعمال لغات متنوعة: لغة فانطاستيكية كما في هذا المقطع:” عند انتهاء عملية الدفن، بدأ الناس يقفلون عائدين إلى قرية تسراخت، تاركين وحيدا مع الموت وبقية الموتى.وقبل تخطيهم لعتبة باب المقبرة لاح رأس حيوان غريب، وهو يخرج من قبر موغل في القدم، فإذا بالهلع الشديد يدب في أوصال المشيعين.لاذ أغلبهم بالفرار.انتفض الحيوان الغريب خارجا من القبر، فإذا هو حية رقطاء ذات جسم ضخم، ويربو طولها على خمسة أمتار ، وعرضها على ربع متر! بدأت تجري تارة في اتجاه الجنوب، وفي اتجاه الشمال تارة أخرى، وينبعث مع فحيحها المخيف شيء يشبه اللهب.12″ وهناك لغة تاريخية موثقة كما في هذا الشاهد:” وبعد ذلك، شرع الضباط الإسبان الكبار يخططون لبسط نفوذهم على المناطق المحيطة بمدينة مليلية، غير آبهين بأية مقاومة محتملة، قد يبديها سكان هذه القرى الصغيرة المنتشرة حول المدينةالمحتلة.13 ” وثمة لغة واقعية كما في هذا المقتبس النصي:” كان الجد الأكبر لساسنو يكثر من تناول زيت الزيتون صباحا ومساء…وكانت شجرة الزيتون أحب الأشجار إلى قلبه..وبدافع هذا الحب النبيل، قام بغرس ألف منها، وتعهدها بالسقي والرعاية، حتى أضحت غزيرة الإنتاج .”14 ومن جانب آخر، فقد ظف لغة حلمية خيالية، كما في هذا المثال:” وفي الليلة الموالية، وأنا غارق في نوم عميق، رأيت الفرس الأزرق يحملني، ويحلق بي في اتجاه عالم الموت…فياله من عالم غريب، يعجز الخيال البشري عن تخيله!!15″ واستعمل الكاتب كذلك لغة سحرية وأسطورية تحيلنا على عالم الشعوذة والتبريك الزائف، كقطع المرأة لأذن الحمار أو الاستعانة بالضبع لتوظيفهما في السحر والشعوذة ، بغية التحكم في الزوج، وخير مثال على ذلك هذا المقطع السردي الذي يبين مدى انتشار الخرافة لدى المرأة الريفية:” حين هم الشيخ سلام بتخطي عتبة باب الضريح خارجا، لمح ثلة من النساء قادمات للزيارة والتبرك، فقال لهن: -عجبا!!…كيف تلتمس الشفاء ممن هلك بسبب المرض؟ بل كيف ينتظر الجسد الحي الرحمة والخلاص من هيكل عظمي، فارقته الروح ، كما يفارق العصفور الحبيس القفص؟ وكيف تنتظرن البركة ممن فقد أية قدرة على الحركة؟ يا نساء أرض القلاع لاتطلبن شيئا، ولا تنتظرن شيئا إلا من الحي الذي لايموت…هذا هو الحق وغيره الباطل.”16 ولا ننسى بأن الكاتب قد شغل لغة صوفية عرفانية:” – هل أنت حقا رجل مجذوب أم مجرد مجنون من مجانين أرض القلاع؟ - الجذب والجنون وجهان لعملة واحدة…أقصد عملة الاستخفاف بالدنيا، وعدم منحها قيمة أكثر مما تستحق…”17 بله عن توظيف الكاتب للغات شعبية مهجنة طبقيا وحضاريا (اللغة العربية، واللغة الأمازيغية، واللغة الأجنبية، ولغة العامة والخاصة…). وعليه، فهذه الرواية بوليفونية من حيث تعدد اللغات والأساليب والخطابات، فقد وظف الكاتب الخطاب السردي، والخطاب الدرامي، والخطاب التاريخي، والخطاب الفانطاستيكي، والخطاب الحلمي، والخطاب الرسائلي، والخطاب الديني، والخطاب العرفاني الصوفي، والخطاب الأسطوري، والخطاب البيئي، وخطاب الخطبة… خلاصة تركيبية: تعد رواية: ( المجذوب والفرس الأزرق) لحسن محمد الحسني من أهم الروايات التجديدية بمنطقة الريف؛ نظرا لما تمتاز بها من سمات متميزة، كتعددة اللغات والأساليب والخطابات، وتمثلها لمواصفات الفانطازيا، واعتمادها على اللغة الصوفية العرفانية، وتشغيل منطق التناوب في سرد المحكيات، وتعدد الرؤى السردية، والانتقال من التوثيق التاريخي إلى التخييل الفانطاستيكي الخارق. ويعني هذا أنها رواية متعددة الأصوات، وتحمل رؤى مرجعية وإيديولوجية متنوعة: رؤية استعمارية، ورؤية صوفية عرفانية، ورؤية فقهية معتدلة، ورؤية مهادنة ومتصالحة مع المستعمر، ورؤية مقاومة ومناضلة، ورؤية استسلامية خائنة… وعلى الرغم من تعدد الرؤى المرجعية، فهناك رؤية واحدة تتحكم في بنية الرواية من البداية حتى النهاية ، وهي الرؤية الهوياتية التي تدافع عن الأرض ، وتناصر الإنسان الأمازيغي الريفي الذي يناضل ببسالة من أجل دحر العدو المحتل ، بغية نصرة الدين والوطن . ومن هنا، فقد أحسن حسن محمد الحسني بناء روايته تحبيكا وتخطيبا وأدلجة. وقد توفق أيضا في كتابة نص روائي جديد ، وذلك من خلال اختيار تقنية المزج والتوليد والتركيب بين اللوحات السردية والمشهدية والوصفية، واستعمال لغات وأساليب وخطابات متعددة ومتنوعة. 1 – حسن محمد الحسني: المجذوب والفرس الأزرق، شركة مطابع الأنوار المغاربية، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م، 259 صفحة. 2000م. 2 – حسن محمد الحسني: الصيحة الخضراء، مطبعة تريفة ببركان،الطبعة الأولى 2008م، 103 صفحة. 3 – حسن محمد الحسني: نحن وتسمم البيئة، مطبعة تريفة، بركان، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2005م. 4 – حسن محمد الحسني: المجذوب والفرس الأزرق، ص:9-10. 5 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:258-259. 6 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:253. 7 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:12. 8 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:13-14. 9 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:5. 10 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:253. 11 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:139-140. 12 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:17. 13 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:29. 14 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:175. 15 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:136. 16 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:142. 17 – حسن محمد الحسني: نفسه، ص:174.