العرض الذي قدّمه وضّاح خنفر، الإعلامي الفلسطيني المعروف، في شريط الفيديو بعنوان «حرب غزة تقود العالم نحو وعي حضاري جديد» هو قراءة فكرية معمّقة لموقع غزة في التاريخ الحديث، وفي مسار الأمة الإسلامية عبر العصور. تحدّث فيه عن أن ما يجري اليوم ليس مجرد مواجهة عسكرية بين مقاومة محاصَرة واحتلال غاشم، بل هو منعطف حضاري يعيد تشكيل وعي الأمة، بل ووعي الإنسانية جمعاء. يرى خنفر أن كل محنة مرّت بها أمة الإسلام كانت بداية دورة حضارية جديدة. فسقوط القدس في الحروب الصليبية أيقظ الضمائر وأنتج نهضة أخرجت صلاح الدين. وسقوط بغداد على يد المغول كان أشدّ وأنكى، فأحيا الوعي الحضاري من جديد، بل حمله معه الغزاة أنفسهم حين عادوا بالإسلام إلى بلادهم. ثم جاء الاستعمار الحديث، فانتهى هو الآخر بانبعاث الأمة وتحرّرها من جديد. واليوم تأتي غزة لتعلن يقظة حضارية جديدة تتجاوز الجغرافيا لتشمل الإنسانية بأسرها. وفي نظره، يعيش الغرب أفولًا حضاريًا بعد ثلاثة قرون من الهيمنة، بسبب انكشاف زيف قيمه المادية، بينما تقف الأمة الإسلامية على أعتاب نهوض جديد عنوانه الإرادة والصمود والحق، لا القوة المادية. غير أن هذا التحليل، على عمقه واتزانه، ينقصه المهم والأهم: الإرادة الربانية التي من أجلها وُجد الإنسان في الأرض. فالأحداث لا تجري وحدها، والتاريخ لا يتحرك بقوانين داخلية بلا خالقٍ يسوقه، قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: 30]. تحليل خنفر، وإن لامس جوهر الصراع الحضاري، بقي في حدود الأسباب البشرية، وغاب عنه السبب الأول الذي منه تبدأ الحركة وإليه تنتهي. ولا أشك لحظةً في أنه مؤمنٌ بذلك كل الإيمان، غير أن المقام التحليلي غلب فيه على المقام الإيماني، ولعله سهواً لا جهلاً، بل تغليبًا لطبيعة المقام الفكري الذي اختاره. فما يجري للأمة الإسلامية ليس مجرد تكرارٍ لدوراتٍ حضارية كما في تاريخ الأمم الأخرى، بل تذكيرٌ إلهي لأمةٍ مميَّزة عن سائر الأمم، حاملةٍ للرسالة الأخيرة للبشرية جمعاء إلى يوم الدين، إذ لا نبيَّ بعدها. قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]. فإن فنيت الأمة انتفى معها وجود الرسالة وانتفى الغرض من بقاء البشرية من ورائها، إذ لا معنى للابتلاء بلا رسالة. قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]. وما يحدث اليوم هو تمامًا ما حدث للنبي يونس عليه السلام حين أعرض عن مهمّته بعد أن ضاق صدره من إصرار قومه على الكفر وعدم استجابتهم لدعوته قبل أن يُؤمر بذلك، فابتُلي ثم عاد مستغفرًا. كذلك الأمة الإسلامية في التاريخ: كلما تركت رسالتها للبشرية لتغرق في شؤونها، أدّبها الله حتى تعود إلى حملها بالقدوة قبل القول. إن الرسالة التي خُتم بها الوحي ليست ملكًا للمسلمين، بل أمانة في أعناقهم، وإرثٌ دائم من خاتم النبيين للبشرية كلها. فإذا تخلّوا عن تبليغها قولًا وفعلاً، فقدوا سبب وجودهم في التاريخ. فالذل الذي يصيب الأمة ليس إذلالًا سياسيًا، بل نداء رحمة يردّها إلى وظيفتها الأولى: الشهادة على الناس بالحق والعدل والرحمة. البشرية تعرف بفطرتها الخير من الشر، لكنها تفقد البوصلة حين تفصل فطرتها عن خالقها. فكل قيمةٍ نبيلةٍ تُبنى على الفطرة دون وعيٍ بالخالق سرعان ما تنقلب إلى ضدّها. وقد رأينا ذلك في الغرب، الذي نادى بالحرية فاستعبد الشعوب، ورفع شعار العدالة فمارس الظلم، وتحدّث عن الكرامة فحوّل الإنسان إلى سلعة. لأن القيم النبيلة حين تُفصل عن أصلها الرباني تفقد التقوى التي تحفظها، فتتحول إلى أدواتٍ للطغيان. العدل لا يقوم بذاته، ولا الحرية تصمد بذاتها، إلا حين يُدرك الإنسان أنها هبةٌ من الخالق، ومسؤولية أمامه، لا اختراعٌ بشريّ ولا ترفٌ يجود به على غيره ويمنّ عليه. الغرب جرّب غير ذلك ثلاثة قرون، فانتهى إلى حضارةٍ مادية أفرغت الإنسان من إنسانيته. ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 2-3]. الأمة الإسلامية لا تنهض لأنها قوية مثل باقي الأمم، بل لأنها تتحمّل مسؤولية تبليغ الرسالة الربانية عمليًا. وكل مرةٍ تضعف فيها، فذلك لأنها قصّرت في أداء الأمانة. فالذل والهوان ابتلاءٌ من الله يعيدها إلى حقيقتها كأمةٍ شاهدةٍ على الناس. ومن هنا، فإن ما يجري اليوم في غزة ليس مجرد يقظة حضارية كما قال خنفر، بل يقظة إيمانية، تعيد الأمة إلى ربّها حتى تعود إلى دورها الحضاري المقرون بالإيمان في التاريخ. وكما نشاهد ذلك اليوم، الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، لا لأنهم انبهروا بالنصر العسكري، بل لأنهم رأوا ثبات المؤمنين على الحق من ربهم رغم القهر والعجز. ورأوا أن القوة ليست في الحديد، بل في الإيمان. إن حرب غزة ليست فقط بداية دورة حضارية جديدة، بل بداية يقظةٍ ربانية سبقتها عبر التاريخ أخرى، تذكّر الأمة والعالم بأن الله حيٌّ قيّوم لا يغيب عمّا خلق، وأنه لم يخلق عباده عبثًا. فحضارة الأمة الحقّة وعزتها لا تُبنى بالعلم وحده، بل بالإيمان الذي يوجّهه الوجهة الصحيحة. ولا تقوم بالقوة وحدها، بل بالحق الرباني الذي يُقيم العدل. ولا تدوم إلا إذا رأت في كل نصرٍ فضلاً من الله، وفي كل محنةٍ نداءَه وتذكيرَه.