الحمد لله رب العالمين حمداً يبلغ رضاه، نحمده حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، والصلاة والسلام على أشرف من اجتباه مبعوثا رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما لا يُدرَك مداه. ..إن عالمنا اليوم في حاجة إلى قيم الدين، لأنها تتضمن الفضائل التي نلتزم بها أمام خالقنا رب العالمين، والتي تقوي فينا قيم التسامح والمحبة والتعاون الإنساني على البر والتقوى، لا في سماحتها وحسب، بل في استمداد طاقتها من أجل البناء المتجدد للإنسان، وقدرتها على التعبئة من أجل حياة خالية من الحروب والجشع، ومن نزعات التطرف والحقد، حيث تتضاءل فيها آلام البشرية وأزماتها، تمهيدا للقضاء على مخاوف الصراع بين الأديان.. أما بعد: قد يتساءل البعض عن الرابط في العنوان بين الإنسان وكورونا والآذان، وما العلاقة بينهم؟ فنقول مُتَّكلين على الله العليم الخبير بأنها علاقة فلسفية مادية وروحية بين الخلق والأمر، بين الغيب والشهادة، بين المادي والروحي، بين البداية والمآل، بين الداء والدواء، بين الماضي في الحاضر للمستقبل، بين الحق والواجب، بين حرية الاختيار وفردية التبعات، بين المسؤولية والمحاسبة، بين السعادة والشقاء. إنها رحلة مع التاريخ الإنساني في الزمان والمكان في رحاب الكون كله، فالتاريخ ممتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو فعل الإنسان وكسبه، ونجاحاته وأخطاؤه، وهو المسؤول في نهاية المطاف عن نتائج أفعاله. فالإنسان هو محور التاريخ، وهو المكلف بأن يحقق إرادة الله في التاريخ. فنطرح تساؤلات عدة حول حقيقة الإنسان، والغاية من خلقه في هذا الكون، وما قيمته الحقيقية وسط الخلق كله، وما هو المآل والخاتمة لهذا الإنسان. وما هي الآثار التي يتركها بأفعاله وتصرفاته على الكون والحياة والإنسان؟ وماهي تصوراته وتوقعاته لسعادته في الحياة الدنيا والآخرة. وسوف نقسم الموضوع إلى أجزاء ثلاث وهي: حقيقة الإنسان، ثم كورونا التي ترمز للابتلاء، وأخيرا الآذان الذي يرمز إلى الحرية والانعتاق من الأسر والتقليد. (حقيقة الإنسان) (1-1) -1حقيقة الإنسان. -2الغاية من خلق الإنسان. 3-رسالة الإنسان. 4-أسس العلاقة بين الله تعالى والإنسان. 5-التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة. (حقيقة الإنسان) (1-1) 1 – حقيقة الإنسان إن الفكر الإسلامي أسس رؤيته الفلسفية لأصل الإنسان على فكرة خلق الله تعالى له على صورته. ويؤكد القرآن أن الإنسان وُهبَ روحا، يُعَرّفُها بأنها من روح الله. يقول الله تعالى:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). (الحجر:28-29). ومن هنا حَلَّل (الفكر الإسلامي) النفس الإنسانية إلى مقوم حيواني يستقي الإنسان منه أحاسيسه وشهواته، ومقوم فكري يستقى منه عقله. وتَحدَّث القرآن عن إنعام الله على الإنسان بحواس، وبقدرة على معرفة الكون، وعلى معرفة الله وإرادته، جديرة بالثقة فيها بدرجة مناظرة للوحي. يقول الله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء :36). ويقول:(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).(السجدة :9). ويقول:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (فصلت: 53). فالعضو الذي يستطيع به الإنسان إدراك وفهم الوحي من جهة هو العقل، وهو بالتالي الملكة التي يستطيع بها أن يعرف ربه من جهة أخرى. وهذه الصورة الإلهية كائنة في كل البشر على السواء، ويستحيل تدميرها أو فقدانها، ومنها يتشكل جوهر إنسانية الإنسان، وهي أنبل وأغلى ما يمتلكه، فهي نفخة من روح الله. ويعد الإنسان في حكم العدم في غيابها، وإذا ضعفت فإن الإنسان يوصف بالخبل أو الجنون، وعندها يرفع عنه التكليف. وتتفق الرؤية الإنسانية الإسلامية في موقفها هذا من العقل مع الرؤية الفلسفية الإغريقية (لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو)، مع وجود فارق بينهما بخصوص سنام العقلانية. فهي عند الإغريق: الثقافة، وعند المسلمين: التقوى. إلا إنه عند التدقيق يتبين أن التقوى الإسلامية تجب الثقافة الإغريقية، لأن الإقرار لله بالربوبية، أي بكونه الخالق والمالك والحكم هو أسمى درجات العقلانية التي عرفها الإنسان. إلا أن الإسلام يختلف جذريا: أولا: مع الرؤية الإنسانية الإغريقية، التي تعترف بإنسانية المواطنين الأحرار، بينما تصنف العبيد في فئة أخرى أدنى من سابقتها. ثانيا: مع الرؤية الإنسانية اليهودية بذات الدرجة، التي تسلم بوجود الصورة الإلهية في كل البشر بالفطرة، ولكنها تفرق بينهم بالمولد والطبع معطية أتباعها وضعية مختارة. ثالثا: مع المسيحية التي تمايز بين البشر من حيث امتلاكهم جميعا ناموسا طبيعيا، وتدعي اختصاص أتباعها بناموس إلهي بحكم إيمانهم وتعميدهم. رابعا وأخيرا: مع الرؤية الإنسانية العلمانية الأوربية، التي تستمد هويتها من الثقافة الأوربية على سبيل الحصر، وتهبط بالآسيويين والأفارقة وغير الأوربيين عامة إلى مستوى أدنى من مستوى البشر. فلم يستطع حتى رائد التنوير المفكر الكبير ايمانويل كانط، المنادي بالعقل الخالص، أن يصل بعقلانيته إلى نهايتها المنطقية، وخصص وضعية أدنى للآسيويين والأفارقة. أما الإسلام فيرى أن كل البشر سواسية، ويُذكّرُ الله تعالى البشرية مرارا في القرآن أن:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات :13). ويقول:(َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ {} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {} وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ). (الروم :20-22). وبعد أن يقرر القرآن أن كل البشر يعودون إلى آدم وحواء، وأنهم من تراب، وأساس التفاضل بينهم هو التقوى، يطرح سؤاله البليغ:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). (الزمر:9). وفى حجة الوداع تنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى إتمام الله الدين. ووجد النبي أن من المناسب في هذا الموقف الجليل، أن يُذَكر المسلمين الذين كان جلهم آنذاك عربا من حيث العرق، وكلهم عرب من حيث اللغة والثقافة أنه: {لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى} (1). فالأمر الأخلاقي التكليفي المخاطب به الإنسان لا يلتفت إلى الماضي، ولا يتعلق بحدث وقع في الماضي، سواء كان هذا الحدث يشير إلى هبوط، أو إلى فداء تَمَّ على يد شخص آخر. ومنبع هذا الأمر ليس مثل تلك الأحداث الماضية، بل هو يتعلق جملة وتفصيلا من حدث حاضر أو مستقبلي. ومن هنا لا يعرف الإسلام أي تبرير بالإيمان، ولا أي تاريخ للخلاص. ولا تنبثق أخلاقية الإنسان في منظور المسلم، من الإيمان بحدث خلاصي ماض، بل بالإيمان بمعية الله تعالى. ويعنى استحضار وجود الله تعالى في هذا المنظور، وجود الحق والقيمة، اللذان يؤسس الإنسان دعوى ولايته وسعيه عليهما. وتتوقف صدقية تلك الدعوى على تحريك الإنسان لمعطيات الزمان والمكان على نحو إيجابي يجعلها مجسدة للإرادة الإلهية في الكون. ويؤكد الإسلام أن الروحانية ذاتها بكل فضائها، تصير في حكم العدم، إذا لم تصبح واقعا ملموسا، متجسدا في رجال ونساء يمشون على الأرض. فأخلاقية المسلم ذات توجه مستقبلي كامل، حتى حين تكون غاية في المحافظة والركود. ومن هذه الإيجابية الأخلاقية يستمد المسلم حيويته. فمع تحريره من إصر الماضي وأغلاله، يصير المسلم نموذجا للنشاط وللإقبال على الحياة، وعدوا لدودا للزهد في الدنيا وللحط من قدر التاريخ. -2الغاية من خلق الإنسان. يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56). لقد جاء خلق الإنسان من الأرض، فكانت الأرض قبل الإنسان، ثم جاء الإنسان ليكون خليفة فيها، ولم تكن حياة الناس على هذه الأرض عبثاً، بل كان خلق الإنسان لغاية محددة هي عبادة الله سبحانه، ولفهم معنى العبادة في سياق الغاية من خلق الإنسان جاءت آيات أخرى (البقرة: 30). فالخلافة في الأرض هي معنى العبادة، وهي إعمار الأرض. ولكي تتحقق الخلافة في الأرض جاء تمكين الإنسان فيها، فهي مُسخّرة له، ولذلك طلب الله منه إعمارها (هود: 61). فالعبادة خلافة في الأرض وتمكين وتسخير واستعمار لها بأمر الله ليعمرها الإنسان بالصلاح والإصلاح. فقيامه بالإعمار إذن هو استجابة لدعوة الله لما فيه حياته الطيبة في الأرض، وحياته في جنات النعيم، وبذلك تظهر العبادة بوصفها التعبير الكلي عن المقصود بالعمران في الأرض. فالغاية إذن من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، وهي طاعة أوامره التكليفية باختيار مسؤول، بتحقيق الجانب الأخلاقي من الإرادة البشرية عبر الفاعل الإنساني، وهي التي تحقق الخير الأسمى وتملأ الحياة بالقيم. وجوهر مفهوم العبادة هو قيام الإنسان بالربط بين الموجودات وتوجيه العلاقة بينها باتجاه تلبية مراد الله تعالى، وإنجاز التكليف الرباني والمشيئة الإلهية. والتكليف الرباني هو أساس إنسانية الإنسان، وجوهر هذا التكليف هو الفعل الإنساني الأخلاقي، الذي هو أساس الوظيفة الكونية للإنسان. فالإنسان كائن عابد حر مسؤول مستطيع بفطرته، وبتلمسه لأسباب الاستطاعة في كون قابل لتلقى فعله فيه. والمشيئة الإلهية تتحقق على نحو لا إرادي في غير عالم الإنسان، وكذا في شق من عالم الإنسان (كما هو الشأن في وظائف الجسد الإنساني العضوية والنفسية)، بينما تتحقق في الشق الآخر المتعلق بالوظائف الأخلاقية على نحو إرادي حر. فللحياة غاية وهدف أسمى هو تحقيق الإرادة الإلهية الخيرة من مستوياتها الأرفع شأناً والأعلى منزلة، دون إهمال صور أخرى من إرادة الله التي تُعدُّ وسائل وأدوات لعمران الكون، من مأكل ومأوى وتزاوج، وعلاقات أسرية واجتماعية وغيرها. 3-رسالة الإنسان. فرسالة الإنسان في هذه الحياة هي ملء الوجود بالقيمة، والقيم على ثلاث درجات: * الدرجة الأولى: القيم الأولية الطبيعية، وهي محكومة بسنن كونية لا دخل للإنسان بها. * الدرجة الثانية: القيم الوسائلية النفعية، وهي محكومة بنفع لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا. * الدرجة الثالثة: القيم الأخلاقية وحدها هي العليا، وهي التي ينفرد الإنسان بالقابلية لتحقيقها، لكونها مبنية وجودا وعدما على إرادته الحرة المسؤولة، وبها يصير الإنسان صاحب رسالة كونية في هذه الحياة. وقد خلق الله تعالى الكون، وسخر الوجود للإنسان بأمره لاستخدامه والتمتع به. والغاية من خلقه للكون أن يملأه الإنسان بالقيمة الأخلاقية، وتلك هي رسالة الإنسان الكونية وسر تكريمه. فالسموات والشمس والقمر والمحيطات والأنهار والجبال والأشجار والنبات، كلها مخلوقة لانتفاع الإنسان بها وزينة له، ووزن الإنسان في الآخرة مرهون بمدى إنجازه لرسالته الكونية في هذه الحياة (عمران الأرض). وقد تأسس الوجود على توازن بيئي مبني على سلسلة من النظم المترابطة بين المخلوقات في مملكة، المُلك فيها على الحقيقة لله وحده، والإنسان فيها خليفة مُؤتَمَن، مأذون له بالانتفاع وفق المنهج الذي شرعه له المالك سبحانه. ومن مقتضى ذلك تكليف الإنسان بتجنب العقوق واتقاء الله فيه (المُلك)، وتَحَرّي الرفق به والإحسان إليه، والاستعمال الأخلاقي له (المُلك). يقول الله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ{} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ{} وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ{} أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{} وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (النحل :10-18). ويقول سبحانه وتعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ، وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). (النحل: 80-81). فرسالة الإنسان تقع ضمن المجال الأخلاقي الذي لا تتحقق فيه إرادة الله إلا بفعل حر مسؤول، وهذا هو مناط القول بأن الإنسان خليفة بأمر الله في الأرض، لأنه هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع تحقيق القيم الأخلاقية العليا، وهو الوحيد الذي بمقدوره أن يجعل تحقيقها في الوجود كله غاية له. فهو شبيه بجسر كوني، يمكن عبره تنفيذ الإرادة الإلهية في شموليتها بوجه عام، وفى شقها الأخلاقي الأعلى بوجه خاص، في معطيات المكان والزمان، وتحويلها إلى واقع فعلي معاش. ولا عجب في ضوء ما سبق أن يعتبر الإنسان في منظور الإسلام أكرم مخلوق وأسمى مقاما من الملائكة، ومرد ذلك على وجه التحديد هو رسالته ومصيره الأخلاقي الفريدَين. (2) 4- أسس العلاقة بين الله تعالى والإنسان. وقد تم تحديد العلاقة بين الله تعالى والإنسان: – أولا بالعهد : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ). (الأعراف:172-173) – ثانيا بالائتمان: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). (الأحزاب:72). وعلى أساس من ذلك تم: – ثالثا الاستخلاف: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون). (البقرة:30 31). – رابعا التكليف والابتلاء: وبعد الاستخلاف جاء دورتحديد المهمة التي لتحقيقها وقع الاستخلاف، وعلى ذلك يتوقف الحساب والجزاء، فكان التكليف والابتلاء (ليبلوكم أيكم أحسن عملا). (الملك:2) 5- التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة: ما من حضارة أو مدنية أو حالة عمرانية يمكن أن تقوم بدون تصور، فالتصور هو أساس تقوم عليه نظرة كلية للكون والإنسان والحياة، فعلى التصور تبنى أركان وتفاصيل ودقائق الرؤية الكلية؛ فإذا كان المنهج وأي منهج يقوم على مسلمات تسبقه يسميها البعض مسلمات ما قبل المنهج، فإن التصور بهذه المثابة للرؤية الكلية هو منطلقها وقاعدتها، والتصور والرؤية التي تقوم عليه يمثلان ما كان يعرف عند الحكماء المتقدمين بالحكمة النظرية، حيث قسم أولئك الحكماء الحكمة إلى نظرية تعني فهم الكون كما هو كائن، وإلى عملية تعني فهم السلوك الحياتي كما ينبغي أن يكون. فالأديان كلها والمذاهب جميعها وسائر التيارات الفلسفية والاجتماعية ترسم أول ما ترسم تصورها، وتحيطه بالخصائص والمقومات اللازمة له، ثم تبني عليه رؤيتها الكلية وتحدد أهدافها، والمناهج والسبل المؤدية إلى تلك الأهداف، ثم تحدد العلاقات الفردية والاجتماعية في ضوء ذلك وعلى مختلف مستوياتها. والتصورات تختلف باختلاف منطلقاتها وتقصرأو تكتمل بحسب تلك المنطلقات، سواء أكانت علمية أو معرفية أو فلسفية أو مادية أو دينية. وقد خص الله تبارك وتعالى التصور الإسلامي بمجموعة من الخصائص والمقومات تبدو في بدايتها وظاهرها تصورا دينيا غير أنه جمع في خصائصه ومقوماته مزايا أهم التصورات التي عرفتها البشرية؛ فالنظر العقلي أول واجب يواجه الإنسان بمسؤلية القيام به ليصل إلى المعرفة. فمعياره الأساس (التصور الإسلامي) من داخله، فهو تصور توحيدي نقي أرسى الله تبارك وتعالى دعائمه، وفَصّل على علم خصائصه، فهو رباني المنشأ لم يخالطه الهوى، تَستمد حقائقه من الحقيقة الإلهية الأزلية صدقها، وثباتها وعلميتها وحكمتها، وعمومها وشمولها، وثباتها وتوازنها وواقعيتها ودقتها، وإيجابيتها وحركتها، وعصمة مصادرها وإطلاقيتها. فالتوحيد يمثل محور العقيدة وأساسها، وعقيدة التوحيد تبين للإنسان أن الوجود له طرفان: * خالق متعال هو الله تعالى. * وكل ما سواه من الموجودات سواء الإنسان أو الكون وما حوى فهو مخلوق. والوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الدائم، والوجود الكوني والإنساني وجود غير قائم بنفسه، ولا معتمد على ذاته، و كلاهما عنصر من عناصرالعالم المخلوق لله تعالى، والسنن والقوانين الإلهية الثابتة تجري عليهما معا: ( إنا كل ّ شيء خلقناه بقدر) (القمر: 49). ومع هذا الاتفاق التام بين الإنسان والكون كله وكما هو ومع بداهة كون الإنسان مولودا ً طبيعيا للكون، فإن القرآن الكريم قد أوضح الصلة العضوية بين الإنسان والكون، وبَيَّن أن الإنسان من هذه الأرض: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) (طه: 55). وهذا الذي قرره القرآن الكريم هو نفس ما توصلت إليه البشرية بعد سائر الأطوار التي مرت بها °فلسفة العلوم الطبيعية° لتقرر أخيرا: أن الإنسان بكل تفاصيله بدنا ونفسا وجسما وعقلا وحواسا إنما هو ابن طبيعي للكون. (3) فالتصور الكوني في الإسلام يستند إلى أنَّ الكون مخلوق صالح ومنظم وغائي، وهو مسخر للإنسان وهبة من الله له لتمكينه من مهمة الاستخلاف. فالنظام والانتظام في الكون هو الذي يمكن الإنسان من الملاحظة المنظمة، التي تعينه في اكتشاف أوامر الله، وهي (القوانين والسنن)، ومن ثم تطوير العلوم الطبيعية. أما الجوانب الاجتماعية والنفسية المختصة بالاجتماع البشري، فهي جزء من هذا الكون، وهي تخضع كذلك لسنن وقوانين تمكن الإنسان أن يكتشفها، فيطور من خلال هذه الاكتشافات العلوم الاجتماعية والإنسانية… أما الرؤية الكونية في الحضارات الأخرى فتختلف تماماً عن الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة: – فالحضارة الإغريقية مثلاً حضارة وثنية، تؤمن بتعدد الآلهة، وقد صوّرت الآلهةَ في صورة خصائص الإنسان المعروفة، ولذلك لم يكن غريباً أن تُظهِر هذه الحضارةُ آلهتَها في صورة كائنات يحارب بعضها بعضاً، وتلجأ إلى الخداع والتآمر، وترتكب الزنى والسرقة، وتمارس الحقد والانتقام؛ تماماً كما هو واقع البشر، ولأنّ هذه هي الآلهة فلا بأس أن يمارس الإنسان بعض ما تمارسه الآلهة، وهكذا يكون تأليه الإنسان. – أما المسيحية في المقابل فقد اعتقدت بالخطيئة الأصلية التي جعلت الجنس البشري ساقطاً، ولا يمكن التخلص من حالة السقوط إلا أن يتجسدَ الإلهُ في المسيح، ويموتَ على الصليب تكفيراً عن خطيئة البشر. – والهندوكية جعلت معظم الناس الهنود في طبقة المنبوذين، ووصفت غير الهنود بالنجاسة، وأبقت الصفة العليا لفئة قليلة من البراهمة، ولا يتم الانتقال من طبقة إلى أخرى إلا بعد الموت بالتقمص والتناسخ، أما العمل الأخلاقي في الحياة فلا قيمة له. – والبوذية ترى أنَّ الحياة الدنيا للإنسان وسائر المخلوقات هي شر وبؤس وشقاء، وينحصر دور الإنسان في التخلص من هذا المصير بالانضباط والتأمل والتفكُّر. والإنسان المسلم يؤمن أنّ الله الواحد هو العلة الوحيدة لكل شيء في الكون، وأنَّ الكون إنما يحدث بإرادة الله عن طريق المسببات الحادثة في الزمان والمكان، وكلها تخضع للبحث التجريبي والاستدلال العقلي. ولا يزال الكثير من علماء الغرب يرفضون فكرة الإله الخالق المدبر، بسبب كراهيتهم لسلطة الكنيسة التي كانت تكرس المقولات الخرافية، وتخنق حركة البحث والاكتشاف العلمي…. لكنَّ حركة العلم هزمت سلطان الكنيسة في نهاية المطاف، وأدت هزيمتها إلى إرساء ما عرف بالعلمانية التي كانت تعني إلغاء هيمنة الدين الكنسي على التقدم العلمي، مما كان أمراً مشروعاً ويستحق التقدير، ولكن هذه العلمانية تجاوزت فيما بعد ومع الأسف رفض سلطان الكنيسة إلى رفض الدين جملة. و القرآن الكريم ربط هذه الصلة بين الإنسان والكون بمفهوم» الخلق«، فالإنسان والكون معا: – يَتَّحدان في صدورهما عن إرادة إله واحد، ومُدبَّرين بتدبير رب واحد:( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) (الفرقان: 2). – كما يتحدان في المبدأ والمآل، وفي كثير من القوانين والسنن الحاكمة لكليهما، لكن للإنسان على الكون درجة هي درجة التكريم الإلهي :(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (الإسراء: 70). ودرجة التكريم هذه أهلت الإنسان للاستخلاف والائتمان والعهد والابتلاء، كما أهلته لأن يكون الكون مسخرا ً له، وجعلت من خلقه حدثا عظيما لم يشبه أي خلق آخر في أهميته بما في ذلك خلق ما هو أكبر منه: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (غافر: 57). وجعله الله تعالى أهلا لأن يقع له الملائكة ساجدين :(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (الحجر: 28 29). فصار الإنسان بهذه الدرجة "قطب الكون ومركز الدائرة فيه" فَلُعن إبليس وطُ ُرد من رحمة الله تعالى بالتكبر على أمره، ورضي الله عن ملائكته وأثنى عليهم لطاعتهم له بالسجود إلى هذا المخلوق المكرم من خلقه. فهيأ الله تعالى لهذا الإنسان من قوى الوعي والإدراك ما يمكنه من أن يستوعب العالم الأكبر. فتمكن بذلك الإنسان أن يرصد تلك الظواهر الكونية فيكشف عن القوانين والسنن الكامنة وراءها، ويطلع على الحقائق العلمية التي تساعده على أداء مهامه وتمكنه من تحقيق الإرادة الإلهية. فكان الكون في حاجة إلى التسخير بالقوانين والسنن، وكان الإنسان فيحاجة إلى التربية والتعليم والتوجيه، فعَلَّمه جل شأنه الأسماء كلها : (وعلم آدم الأسماء كلها…) (البقرة: 31).(4) والحمد لله رب العالمين. (يتبع) —————– * أمين دويدار ، صور من حياة الرسول ،القاهرة :دار المعارف بمصر ،1372ه/1953 ،ص 593 . * أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي. (3) ومن الذين استعملوا (مسلمات ما قبل االمنهج) المرحوم محمود محمد شاكر في كتابه (في الطريق إلى ثقافتنا) طبعة دار الهلال. (4) أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي.