قال محمد الساسي، القيادي في فيدرالية اليسار الديمقراطي، إن فهم الانتخابات المقبلة يقتضي العودة إلى تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في المغرب منذ الستينات، مذكرا بأن انتخابات 1960 كانت التجربة الوحيدة التي يمكن اعتبارها نزيهة، وأن كل ما تلاها جرى داخل مسلسل له ثوابت ومتغيرات بدأت منذ انتخابات 1963. وأكد الساسي أن الاقتراع ظل مرتبطا بضبط مسبق للنتائج، وفقا لمداخلته المطولة خلال ندوة سياسية نظمتها مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد مساء الخميس 9 أكتوبر 2025 تحت عنوان "الانتخابات المقبلة.. أية جدوى؟". بنبرة تحليلية مباشرة، قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، إنه "يقال أحيانا إننا في المغرب لم نعش قط تجربة انتخابية نزيهة، والحال أن انتخابات 1960 كانت نزيهة، لنقل إنها الانتخابات الوحيدة التي كانت نزيهة"، مشيرا إلى أن تلك التجربة كانت مرتبطة حتى بتفاصيل صغيرة مثل "وضع المداد على الأصابع"، قبل أن يتم التخلي عن ذلك الطقس البسيط الذي كان، حسب تعبيره، "دليلا على أن حتى الأشياء الصغيرة في الطقس الانتخابي لها معناها". وأوضح الساسي أن ما جرى ابتداء من سنة 1963 كان بداية "مسلسل له ثوابت وعرف متغيرات"، وأن قراءة كل محطة انتخابية تكشف أن التوازنات التي ظهرت في أول الاقتراعات لم تكن مرغوبا فيها، وهو ما جعل اللعبة تُدار بطريقة مستمرة للحفاظ على هندسة لا تسمح بولادة أغلبيات مستقلة.
من انتخابات 1963 إلى 2021: سردية التوازنات المصنوعة أشار الساسي إلى أن انتخابات 1963 أفرزت نوعا من التوازن بين كتلتين؛ من جهة حزب الاستقلال وجبهة الدفاع عن المؤسسة الدستورية، ومن جهة أخرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو ما خلق حالة لم تكن مرغوبة. ثم جاءت انتخابات 1970 التي قال عنها إنها كانت "انتخابات بلا رهان، فكان النظام يصوّت على نفسه، فهي انتخابات أشخاص، أعيان بلا أفكار أو برامج سياسية حقيقية". واستعاد الساسي ما وقع سنة 1977 واصفا تلك المرحلة بأنها شهدت "أقوى صراع سياسي عرفته الانتخابات المغربية" بين ما سماه "حزب وزارة الداخلية" من جهة، وبين الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من جهة أخرى، حيث تحولت الاستحقاقات آنذاك إلى مواجهة مباشرة بين طرف يعتبر جزءا من الجهاز الإداري وآخر يمثل المعارضة الجذرية. وأكد أن انتخابات 1984 جاءت في سياق ما وصفه بنوع من "الإجهاد" الذي وقع للمسلسل الديمقراطي الذي كان قد بدأ في منتصف السبعينات، ملاحظا الفرق حتى في "المذاق" بين انتخابات 1983 الجماعية و1984 التشريعية. ثم جاءت انتخابات 1993 التي ارتبطت بمسألة الدستور، قائلا إن "ابتداء من أكتوبر 1991 ارتبط النقاش حول الانتخابات بمسألة دستورية وبناء كتلة ديمقراطية تمتد إلى المجال الشبابي والمجال النسائي والمجال النقابي وغير ذلك". وتابع بأن انتخابات 1997 جاءت في سياق التحضير لحكومة التناوب، في حين أن انتخابات 2002 كانت اختبارا لما سماه "نوايا العهد الجديد"، حيث لم يكن دخول الفاعل الإسلامي إلى الانتخابات لأول مرة، بل إن "2002 دخل، إن شئنا، لعبة الكبار"، مبرزا أن حضور الإسلاميين في تلك المرحلة كان إشارة إلى تغير في توازنات اللعبة الانتخابية. واعتبر الساسي أن انتخابات 2007 كانت عنوانا على "قمة العزوف وبداية الخوف من موت السياسة"، مشيرا إلى أن انتخابات 2011 جاءت في سياق الربيع العربي، حيث كان هناك "ورقة ضمان الاستمرارية ولاطفاء الحريق" عبر إشراك الفاعل الإسلامي في رئاسة الحكومة. لكن انتخابات 2016، حسب تعبيره، عرفت "لحظة صراعات لا تحضر فيها أحزاب الحركة الوطنية كما في السابق"، مضيفا أن "الشعبوية الدينية في مواجهة الحداثة المبتورة أو المعطوبة" كانت من سمات تلك المرحلة، وأن النقد الذي يُوجّه إلى تلك الشعبوية الدينية ينطلق من كونها "لا تقترح برنامجا خاصا بل نفس برامج اليمين ولكن ببهارات دينية"، بينما الحداثة بدورها "معطوبة لأنها تقبل الحداثة في مختلف الأوجه إلا في وجهها السياسي". وأضاف أن انتخابات 2021 جاءت في سياق "مخلفات كوفيد"، وأن ما وقع بعد الجائحة أثّر حتى على اللقاءات المفتوحة التي "انخفض عدد الحاضرين فيها"، مشيرا إلى أن بعض الأنشطة السياسية أصبحت تتم عن بعد، مثلما حدث مع التعليم الجامعي. وأكد أن برلمان 2021 كان برلمانا "بلا معارضة" لأن وجود ثلاثي في الحكومة لم يترك للساحة قوة ذات وزن، وأن الاتحاد الاشتراكي فقد جزءا من قوته التي تمكنه من تشكيل معارضة، في حين أن الإسلاميين كانوا يعانون من "سقطة 2021" التي جعلتهم "لا يتوصلون حتى لتكوين فريق فما بالك بتشكيل معارضة". الثوابت البنيوية التي حكمت اللعبة الانتخابية انتقل محمد الساسي بعد استعراضه للمحطات الانتخابية إلى ما وصفه ب"ثوابت الانتخابات المغربية"، معتبرا أن الثابت الأول هو أن المغرب "لم يعرف انتخابات مؤسسة"، موضحا أن المقصود بالانتخابات المؤسسة هو تلك التي تنتج هيئة تشريعية تكون في الوقت نفسه "هيئة تأسيسية لوضع الدستور"، وهو ما لم يحدث منذ الاستقلال. أما الثابت الثاني، في نظره، فهو ما سماه "التجريب القانوني المثير"، حيث قال إنه "في كل استحقاق يكون هناك جديد قانوني"، وأن المغرب لم يصل بعد إلى "صياغة نهائية متوافق عليها للأنظمة الانتخابية"، مشيرا إلى أن العقوبات تُشدد في كل مرة على المخالفات الانتخابية بينما تستمر التجاوزات، قائلا إن التعامل مع الانتخابات لا ينبغي أن يكون فقط بمنطق القانون الجنائي، بل يجب البحث عن "عوامل الجريمة" مثلما يقول في نقاشاته مع الطلبة: "عندما تقع جريمة يجب أن نبحث عن عوامل الجريمة، أي نخرج من القانون الجنائي إلى علم الإجرام". وأضاف أن الثابت الثالث هو أن الانتخابات المغربية "لا تحقق الهدف من الانتخابات"، لأن الناس يصوّتون على أشخاص لا يحكمون، بينما الذين يحكمون لا يتم انتخابهم، في إشارة إلى أن النخبة الحاكمة لا تُفرز من صناديق الاقتراع، مشيرا إلى أن "الأصل أن الانتخابات تفرز لنا النخبة الحاكمة، والأصل أن تلك النخبة نحاسبها"، وأن من أدوات المحاسبة الأساسية هي الانتخابات نفسها عند نهاية الولاية، لكن ما يحدث في المغرب هو أن المنتخبين "يعتبرون مستشارين مساعدين" مثلما قال الملك الحسن الثاني سابقا، حين وضع النواب والوزراء وقادة الأحزاب في مستوى واحد، بوصفهم جميعا "مساعدين" وليس أصحاب قرار. وأوضح الساسي أن المغرب، رغم ذلك، عرف تطورا جزئيا في دور البرلمان، مشيرا إلى أن التجربة الاستثنائية لسنة 1963 لا يمكن القياس عليها، لكنه قال إنه "لم نصل إلى طموح برلمان 1963، لكن اتسع الهامش قليلا وتطورت الاحترافية في التسعينات"، مستشهدا بتقديم "مئات التعديلات" على مشاريع القوانين من طرف الفرق البرلمانية، ومرور القوانين المهيكلة عبر البرلمان، خلافا لما كان يحدث سابقا حين كانت الدولة تُهندس نفسها أولا ثم تأتي الدساتير لاحقا، مذكرا بأن "بعد دستور 2011 نظريا لم يعد الملك مشرعا بواسطة الظهائر التي كانت تخرج من القصر الملكي إلى المطبعة الرسمية"، وأن بعض مشاريع القوانين التي كان يهيئها البرلمان كانت تُنشر في الجريدة الرسمية بصيغة مختلفة عما تم تحضيره، في إشارة إلى استمرار التحكم في الصياغات النهائية. وتوقف عند ما اعتبره تحولا مهما، يتمثل في أن "هناك فئات تدافع باستقلالية عن مصالحها"، مثل كبار الفلاحين، وأرباب الشركات، وبعض المحامين الذين أصبحوا، بحسب تعبيره، "يديرون لوبياتهم الخاصة"، ما يدل على أن "ليس كل شيء خاضع بنسبة مائة في المائة لتوجيه النواة الصلبة في مربع القرار". إلا أن الساسي عاد ليشدد على أن الانتخابات في المغرب كانت دائما "موضع شبهة"، وأن هناك "شكايات من كل الأطراف ضد بعضها البعض، وشكايات ضد الإدارة الترابية، وشكايات الإدارة الترابية من سلوك المشاركين"، ما يعني أن الجو العام المحيط بالعملية الانتخابية ظل مشوبا بعدم الثقة. ومن الثوابت التي ذكرها أيضا "الاختلاف بين الانتخابات في البادية والمدينة"، حيث اعتبر أن البادية "عالم والمدينة عالم آخر"، سواء من حيث طبيعة المرشحين، أو نسبة المشاركة، أو الأجواء العامة، مؤكدا أن ما سماه "تمدُّن الثقافة" بدأ يدخل حتى إلى المدن لكنه لم يُلغ الفوارق. واعتبر أن من الثوابت كذلك "التأطير الملكي للانتخابات عبر الخطابات الرسمية"، قائلا إنه "عندما تحل الانتخابات يخرج الملك بخطاب، وأحيانا بتوجهات برنامجية مُرقمة"، في حين أن البرلمان هو الذي من المفترض أن يضع البرامج وفقا لتوجهات الأحزاب. ثم انتقل الساسي إلى "الضبط الانتخابي" معتبرا إياه ثابتا مركزيا في كل العمليات الانتخابية، قائلا إن علاقة جهاز الدولة بالانتخابات "ليست علاقة محايدة"، وأن "لا شيء متروك للصدفة". واعتبر أن هناك احتياطا لكل المفاجآت، وأن النظام مضطر بحكم صورته الخارجية إلى تنظيم الانتخابات، لكنه في الوقت نفسه يخشى أن تُفرز تلك الانتخابات "أغلبية ذات برنامج مخالف لبرنامج الدولة القار وتصر على تطبيقه"، مستحضرا ما سماه "الرباعي" الذي يتحدث عنه نجيب أقصبي: "الأوراش الكبرى، المخططات القطاعية، الاندماج، التزامات الدولة مع المؤسسات المالية الدولية"، متسائلا: "ماذا يتبقى من هامش لبرنامج مستقل؟". واعتبر الساسي أن النظام لا يقبل بأغلبية قد "تستقوي عليه غدا بشرعية انتخابية تنافس أو تنال الشرعية التاريخية والدينية للنظام"، مضيفا أن هذه "الشرعية في ذهن النظام يجب أن توضع فوق كل الشرعيات"، مستحضرا تجربة حكومة عبد الله إبراهيم التي قال عنها إنها مثلت "حالة شاذة" لأن الحكومة آنذاك بدا أنها تحمل توجها مخالفا لتوجه القصر، وهو ما أدى إلى أن يتحدث المهدي بن بركة عن "صراع خفي" بين توجهين. ومن هنا خلص الساسي إلى أن الانتخابات في المغرب "ليست مفتوحة على كل الاحتمالات"، وأن هناك "حرصا دائما على الإخضاع لهندسة مسبقة تجعل النتائج تفضي في النهاية إلى خريطة تضمن تمثيل العائلات الكبرى، والتنوع الإثني والثقافي والاجتماعي، وحضور رؤساء الأحزاب في البرلمان بأي وجه من الوجوه". وأشار إلى أن رؤساء الأحزاب "يتم إسكانهم" في البرلمان "لأنهم معاون يجب أن يكون قريبا من مطبخ القرار"، وأن البرلمانيين مفروض أن يكونوا قريبين من مركز القرار، وهو ما يبرر الحرص على أن يتم "تحقيق نوع من القرب بشكل مضبوط". وهنا وصف الساسي الضبط الانتخابي بأنه "ثابت من الثوابت"، يصل أحيانا إلى درجة "صناعة الخرائط" بكل ما يلزم من تدخلات ناعمة أو قسرية. أدوات الضبط الانتخابي: من تأسيس الأحزاب إلى لحظة إغلاق الصناديق أوضح محمد الساسي وهو يسترسل في تشريح آليات الضبط الانتخابي أن هذه الهندسة المسبقة تتم عبر مراحل تبدأ بما سماه "الضبط الحزبي"، من خلال عرقلة تأسيس بعض الأحزاب أو المبادرة إلى تأسيس أخرى، بحيث تتحكم السلطة منذ البداية في من يدخل إلى الحقل الحزبي ومن يُمنع، وهي نقطة قال إنها تندرج ضمن الضبط العام الذي يسبق العملية الانتخابية. ثم يأتي "الضبط الزمني"، الذي قد يبدو، حسب قوله، بلا أهمية لأول وهلة، لكنه في الواقع كان يُستخدم كأداة دقيقة للتأثير، مذكرا بأن السلطات كانت أحيانا تعمد إلى تنظيم الانتخابات في فترات الامتحانات الجامعية "لأن الشبيبة الاتحادية كانت هي الأداة الأساسية لتنشيط الحملات الانتخابية للاتحاد الاشتراكي"، فكان توقيت الاقتراع يُضبط بحيث يُحرم المرشحون من الكتلة الشبابية التي تحرك الحملات. وأشار إلى أن عدم انتظام الاستحقاقات كان جزءا من هذا الضبط الزمني، ملاحظا أنه "في عهد محمد السادس، يمكن القول إننا عشنا انتخابات أكثر مما كان مفروضا، لأن بعضها كان مبكرا"، بينما في عهد الحسن الثاني كان يُنظر إلى الانتخابات بنوع من الريبة لأنها كانت تشكل لحظة إزعاج للسلطوية، على حد تعبيره، إذ كانت الانتخابات تُفتح فيها الأبواب للنقاش، وكان من نتائجها أن "ترتفع حرارة الشارع"، وتظهر انتفاضات بعد عام أو عامين من كل اقتراع، تُرفع فيها نفس الشعارات التي رُدّدت في التجمعات الانتخابية. واعتبر أن "الضبط الإعلامي" بدوره كان جزءا من هذا التحكم البنيوي في اللعبة الانتخابية، إذ كان يُسمح للأحزاب المعارضة بأن تملك جرائد ورقية، بينما تُترك وسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية لجهة واحدة، بما يجعل الصورة مختلة حكائيا. ثم تحدث عن "ضبط الترشيحات" مستحضرا انتخابات 1977 التي قال إنه "تم الاعتماد فيها على ما سُمّي آنذاك المحايدين"، موضحا أن كلمة "المحايدين" كانت تعني "الأعيان الذين لا ينتمون شكليا إلى صراع حزبي"، وذلك بهدف خلق واجهة تبدو بلا صدام، لكن في انتخابات 1984 "مُنع المستقلون بجميع الوسائل خوفا من العدل والإحسان"، في إشارة إلى التخوف من أن تجد الحركة الإسلامية غير المرخصة منفذا عبر الترشيحات المستقلة. وأضاف أن حتى الأحزاب التي حاولت التمدد إلى البادية مثل البيجيدي "وجدت أن الوسطاء التقليديين تم ترتيبهم مسبقا"، مستحضرا قوله: "يذهبون إلى هناك فيقول لهم الشخص الذي سيستقبلهم: أنا آسف، سأذهب للحج"، في إشارة ساخرة إلى أن الردود تكون جاهزة بشكل يُظهر أن المجال مُحكم قبل وصول المرشح السياسي. أما "الضبط المالي"، فهو وفق الساسي، جزء صامت لكنه فعّال، إذ قال: "هناك دعم تحت الطاولة، أموال باهضة تُصرف، والملايير تنفق، والقضاء لا يسأل من أين جاءت"، مشيرا إلى أن المال أصبح أداة موازية للتأثير تفوق في فاعليتها الكثير من العمليات الإدارية الرسمية، وأن هذا الجانب المالي لا يثير المساءلة القضائية الجدية. وأشار إلى "ضبط التقطيع الانتخابي" الذي قال عنه إنه "عبارة شهيرة لا حاجة للخوض فيها"، لأن الجميع يفهم كيف تُرسم الدوائر بطريقة تجعل نتائج معينة أكثر ترجيحا، وأن من بين أدوات الضبط أيضا "ضبط اللوائح" وما سماه "الإنزال"، موضحا أنه كان هناك ما يشبه "السكان السريين في الحي"، في إشارة إلى عمليات نقل وتسجيل الأشخاص في مناطق لا يسكنونها، بما يعيد تشكيل الخريطة الانتخابية بشكل اصطناعي. وتحدث كذلك عن "ضبط الوثائق"، مستحضرا اعتراف بعض الاتحاديين بأنهم أنفسهم مارسوا ذلك حين كانوا في موقع قوة تنظيمية، بما يعني أن الضبط لم يكن حكرا على جهة واحدة بل أصبح أسلوبا عاما. أما في يوم الاقتراع، فتحدث الساسي عن ما سماه "ضبط المكاتب" من خلال "تكثيرها وطرد المراقبين"، ثم يأتي ما سماه "الردم"، وهو "حالة جلبة وفوضى عند الساعة الخامسة حين يُقترب من إغلاق الصندوق"، حيث يدخل مجموعة كبيرة من الأشخاص دفعة واحدة مما يجعل التحقق من الهوية أمرا صعبا أو مستحيلا، ويتم التصويت بسرعة في ظل الفوضى. واعتبر أن القضاء يتعامل مع المخالفات الانتخابية بمنطق شكلي، حيث لا يُعتد بالشهادات أو الفيديوهات أو المعاينات، بل فقط بالمحضر، وهذا ما يجعل "تغيير النتائج" ممكنا، لكنه أوضح أن "التزوير ليس هو المادة الحامضية النووية للنظام"، بل هو "تعبير عن عدم فعالية أدوات الضبط الأخرى"، إذ لو كانت كل أدوات الضبط فعالة لما كانت هناك حاجة للانتقال إلى التزوير المباشر. وبعد استنفاد الحديث عن الثوابت، انتقل الساسي إلى المتغيرات التي طرأت على المشهد الانتخابي، معتبرا أن "الانتخابات أصبحت حدثا عاديا"، وأن من بين مظاهر ذلك "تراجع العنف"، قائلا إن الانتخابات الأولى كان يموت فيها الناس، في إشارة إلى المواجهات العنيفة بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني، بينما اليوم "العنف تراجع"، لكن بالمقابل "تراجعت الحماسة"، وصار كل من المرشحين والمناضلين يجرّون إلى الانتخابات كما لو أنهم ذاهبون إلى شيء غير مرغوب فيه، بل إنه قال لأحد المناضلين الذين اشتكوا من عدم استقبال الناس لهم: "أنتم محظوظون لأنهم لم يضربوكم ولم يستعملوا العصا ضدكم كما حدث من قبل"، في إشارة إلى أن اللامبالاة أصبحت تحل محل الصدام. ومن المتغيرات التي أشار إليها أيضا "الدور المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي" وتراجع الاتصال الجماهيري المباشر، حيث أصبحت الحملات أقل ظهورا في الشارع وأكثر اعتمادا على المسارات الفردية والافتراضية. كما اعتبر أن الأحزاب الإدارية التي كانت تعتمد سابقا على أشخاص أكثر من الأفكار، أصبحت اليوم "تستحضر الحزب وتستعمل رمزه وبرنامجه"، في نوع من محاولة تقليد الأحزاب الكلاسيكية، قائلا إن "رمز الحزب أصبح معروفا، ورئيسه يُسوّق، وهناك بحث عن الكفاءة والحلول الاقتصادية". انتخابات 2026: بين رهان المونديال وقلق العزوف عند انتقاله إلى الحديث عن انتخابات 2026، شدد محمد الساسي على أن "السياق هو الجدوى"، وأن أول ما يجب ملاحظته هو أن "المونديال حاضر"، حيث يحاول النظام، حسب تعبيره، أن يجعل الانتخابات المقبلة "تقدم صورة بلد يستحق تنظيم كأس العالم"، باعتبار أن المونديال "رهان سياسي ودبلوماسي واقتصادي"، وأن حضور هذا الحدث في البداية جعل الجميع يقول "أنا الذي سأكون رئيس حكومة المونديال"، لكن، حسب قوله، "فجأة حين جاءت حركة جيل زد، عاد المونديال إلى الساحة ولكن من وجهة نقدية"، وهو ما يعني أن هذا الملف لن يكون فقط ورقة تفاخر انتخابية بل ورقة مساءلة أيضا. وأضاف أن هناك "تخوفا من حصول مزيد من العزوف"، قائلا إن السؤال في المغرب عند انتهاء الانتخابات لا يكون "من فاز؟" بل "كم شارك؟"، معتبرا أن من يصوت حاليا هو الذي "له اعتبار شخصي"، وليس من يصوت لجهة سياسية بعينها. وأشار إلى أن حزب العدالة والتنمية كان استثناء في لحظة معينة لأنه بنى شبكة من الجمعيات الدعوية واستند عليها الحزب لاحقا كقاعدة انتخابية جاهزة، لكنه قال إن "العزوف أثّر حتى على نتائج 2021 بالنسبة للبيجيدي"، ما يعني أن حتى الشبكات المنظمة لم تستطع الصمود أمام موجة اللامشاركة. ثم استحضر العامل الخارجي، معتبرا أنه "مؤكد أن انتخابات 2026 ستستحضر غزة وإسرائيل وأمريكا وفرنسا"، ومشيرا إلى أن جريدة "لوموند" بدأت تقدم سلسلة تحركات من أجل "تسخين السجال الانتخابي"، على حد تعبيره. واعتبر أن "السجال السياسي تحول إلى تبادل شتائم"، قائلا: "ما عمرنا وصلنا لهذا الحضيض"، وهو تعبير ينقل حالة من القلق من انحدار الخطاب السياسي إلى مستويات حادة وشخصانية. وأشار إلى أن وزارة الداخلية استرجعت جزءا من هيمنتها على المشهد، مذكرا بأن الاجتماع الذي عقدته مع الأحزاب ركز على ثلاثة نقاط قالت فيها الداخلية للأحزاب: "يجب أن تساعدوني على عودة الناس إلى صناديق الاقتراع، وهذا مشكلتكم أنتم"، ويجب أن يتم "تقديم مرشحين جيدين ونزهاء"، وأنه ينبغي "تنظيم نوع من العقلنة الحزبية وتكوين الأقطاب". واعتبر الساسي أن "العقلنة" في فهم الداخلية تعني عمليا "التضييق على الصغار، عقلنة الخريطة الحالية، وعدم السماح بدخول لاعبين جدد"، مستحضرا ما وقع لمسعى تأسيس حزب جديد من طرف ماسية سلامة الناجي، التي حاولت التأسيس ولم تتمكن لأن "القوانين لم تُصنع لها هي بل لجهات أخرى مثل العدل والإحسان أو أطراف أخرى"، لكنها أصبحت "ضحية لهذه القوانين نفسها". وذكر أنه ليس من حق أحد أن يتدخل في ما تفعله حركة "جيل زد"، لكن في رأيه أن "مثل هذه الحركات من الممكن أن تنتقل إلى الحقل الانتخابي"، وأنه "من حقها أن تؤسس حزبا سياسيا"، مستشهدا ببعض الأرقام التي تفيد أن المنصّات الرقمية لبعض هذه المبادرات "وصلت إلى 150 ألف أو 170 أو 180 ألف"، قائلا إنه "لا يوجد أي حزب سياسي يملك هذا العدد من الأعضاء"، وأنه حتى حزب العدالة والتنمية حين كان في أوجه كان يملك 40 ألف، ثم وصل إلى 200 ألف، لكنه أشار إلى أن هذه الأرقام تحتاج إلى تدقيق من داخل الحزب نفسه. وذكر أن الاتحاد الاشتراكي وصل في فترة إلى 54 ألف عضو ثم نزل إلى 38 ألف في آخر انتخابات. وتابع الساسي أن من عناصر السياق أيضا "تنزيل الأوراش الكبرى كما لو أنه مُجمع على جدواها"، قائلا إن في الجماعات، مثلما قال عمر حياني، حين يريدون مناقشة هذه الأوراش يقال لهم "هذه أوراش ملكية خاضعة للقداسة، لا يمكن مناقشتها"، وهو ما يجعله يطرح السؤال: "هل صفة الأوراش الملكية تعفي من البحث في الجدوى والنجاعة؟". واعتبر أن الانتخابات المقبلة تجري في ظل "تجريف ظل تجربة"، في إشارة إلى فترة انتخابية أو ولاية كانت، حسب تصوره، "عمليا بدون معارضة"، قائلا إن الحماسة التي يبديها اليوم حزب العدالة والتنمية في نقد الأغلبية "هي في الواقع أقرب إلى معارضة شخص"، في إشارة إلى عودة عبد الإله بن كيران إلى الواجهة، وأن "هذا النوع من المعارضة ليس بالضرورة في مصلحة الحزب"، لأن الخطاب، حسب قوله، أصبح مركزا على "حيدوني، رجعوني"، أي على ما يصفه بأنه "حسابات شخصية وليست معارضة حزبية مؤسساتية". وأضاف أن "العلاقة بين السلطة والمال ستكون حاضرة بقوة"، إلى جانب ملفات الفساد التي ستطفو على السطح، مشيرا إلى أن "مجال القول والتعبير ضُيّق"، وأن المغرب كان يعيش "دورات انفتاح ودورات تشدد"، حيث كانت "دورات التشدد تنتهي"، لكن ما يراه حاليا هو أن هذه الدورة "بدأت مع البلوكاج ولم تنته"، مستشهدا بمثال الصحفيين الذين لم يعودوا يستفيدون من الإفراج بعد قضاء جزء من العقوبة كما كان يحدث سابقا، قائلا: "الآن الصحفي يقضي عقوبته كاملة". وانتهى الساسي إلى الحديث عن "سقوط ورقة الاستقرار السياسي"، قائلا إنه كان من بين من يتمنون أن يكون هناك "تحول سلمي نحو الديمقراطية في ظل النظام الملكي الحالي"، لكنه اليوم يرى أن ما يحدث في "الملاعب، والمقاطعة، والريف، وزاكورة، وجرادة، وآيت بوكماز"، يعكس "تمردات متعددة"، وأن الناس صاروا "يجيبون مباشرة من المدرجات على التطبيع"، وأن المقاطعة لم يُعرف من يقف وراءها حتى الآن، حيث قال إنه لم يتمكن من "الجلوس مع أي من الأشخاص الذين بدأوا تلك الحملات. وختم بالقول إن "الجدوى من أي انتخابات في بلد مثل المغرب هي أن تُحدث الانتخابات ديناميكية داخل العملية الانتخابية نفسها"، بحيث يصبح الاقتراع "ميدانا للجري السياسي"، يؤثر على المسار السياسي العام، ويجعل من الممكن "التقدم في مسلسل واعد بالانتقال الديمقراطي"، قائلا إن النقاش حول "هل ندخل أم لا ندخل" إلى الانتخابات "تقريبا لم يعد مطروحا"، لأن الدخول أصبح "ضروريا رغم كل شيء".