يحْلف بيمينه البدويّ الغليظ، أن والده المِزْواج كان في حياته يُقْبِرُ زوجاته في البيت، حتى إن عملية قلْع أضراسهنّ، هو من كان يشرف عليها بيديه الباطشتين.حين يشعرن باقتراب عودته، كن يغلقن جميع النوافذ والأبواب، مخافة أن يتسلل الشكّ إلى يقينه وثقته، ويُصوّبَ فوهاتِ نظراته الملتهبة صوبهنّ، خلّف منهنّ ثلاثين ونيّفا. بغضّ الاستفهام و التعجب ممّا قال، كنت أنظر إلى قفّته التي يتأبّطها حينا، وإلى جبْهته البرّاقة أحايينَ أخرى، لا أعرف لِمَ كنت أشعر أن عينيْه جائعتان، كلّما اصطدمتْ نظراتنا في منعرج الحديث، لم يترك لنا فرصة لاستنشاق الهواء البحريّ حين تكلّمَ، كان يتحسّس وجْهه الحليق بين الفينة والأخرى، ويشير بيديه إشاراتٍ لا تقل بلاغةً عن كلامه، أسند قفته قليلا على حاشية الطاولة التي كنا نضع كوبي القهوة فوقها، وقال موجّها أصابع اهتمامه إلى الدارالبيضاء؛ حيث يقيم أخوه : إنه أصغرنا سنّا ، ذهب إلى المدينة ، واشتغل عند أحد البرلمانيين ، كان أخي «جَبْهَة» لا تندى ، يملك الآن- فضلا عن جبهته- أكثر من ستمائة رأس من الغنم و ضيعة فلاحية .. في غمرة حديثه، ورغم شراسته، كان يخفي استسلاما ما في عينيه الغائرتين، يتعاطف بنظراته السّوداء مع أحمر الشّفاه؛ حين ينظر إلى بعض العابرات أمامنا، كنّا كذلك – والحق يقال- نشاطره النّظر؛ الأحْمر بارزٌ كالعناوين، لكن ذلك لم يمنعْه من الحديث عن صهره الذي استدان منه مبلغا من المال، ولم يُوفِ بدَيْنِه..، وعن زوجته التي لا تقدّم رجْلا قبله إسوة بالوالد، يقول ذلك، ويضحك من «أولاد اليوم».. استويت في جِلْستي أكْثر، ورغم حرصي على الانتباه، فاتني الكثير مما قال..، كان كل شيء فيه يتكلم، حتى يداه، صندله الجلديّ، ملابسه البسيطة التي كانت ترفرف مثل راية وطنية وسطنا، وعيناه اللتان أمستا تبحثان عن شيء ما بيننا، وبين كل المارة، ربما وجد قليلا مما كان يفتش عنه، وهو معنا، أو لم يجده.. حين غادرنا، بقي صدى صوته بيننا حتى الساعة، ما فتئت نظراتنا تشيّعه بحنين، إلى أن اختفى رأسه بين تلك الأمواج الشابّة.