ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت. فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية... لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام... ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة. توقفت الشاحنات. كانت الشمس قد طلعت. وكان الجو عليلاً، وهمني خاصة أننا قد انتهينا من ذلك الطواف العصيب. فكان بمقدورنا أن نستمتع بفيض تلك اللحظة، كما يستمرئ المعذبون لحظة الاستراحة؛ حين يخف عنهم نير الجلاد. أمسكت بي أذرع قوية، وأنزلتني من العربة. لكن استحال عليَّ أن أنتصب على قدمي، أو أسير لوحدي. فجعل أحد الحراس ساعده تحت إبطي، وسحبني نحو مأواي الجديد. فمشينا متئدين، وكنت لا أزال لم أتخلص من آلامي وانفعالاتي. اجتزنا حواجز من ردهات وأدراج، ثم انتهينا إلى المكان المراد. فأزال عني الدركي قيودي، ونبهني إلى أننا سنجتاز باباً. ثم قادني إلى الداخل، وقال لي : - انتبه، فستجلس فوق سرير. ثم أطلقني. وقد أحسست حينها بالحشية تحت عجيزتي، لكني سقطت، فجأة، في الفراغ. فصعدت أحشائي إلى بطني، وأوشك قلبي يتوقف، كمثل المظلي الذي يقذف بنفسه لأول مرة من الطائرة. ثم توقفت السقطة، وبدأت أصعد إلى السطح. فأزال الحارس عني عصابتي، فإذا بي في قاعة كبيرة مضاءة، نقية بيضاء. كنت أقتعد سريراً، سريراً حقيقياً، ليِّن المفرش، من شدة ليونته حتى لقد خيل إليَّ أنني أسقط في الفراغ. عندما انصرف الحراس، لبثت في ذلك القصر، وأنا أتميز من التعب والإجهاد، لكن حواسي كانت متنبهة، وكنت أرتوي من النور، وأتشبع من الأوكسجين، وأتقلب في النقاء، ويغمى عليَّ في سريري، فأتأمل الزاوية حيث يقوم المرحاض ومغسلته وكرسيه النقي، وتلك النوافذ الكبيرة الخالية من قضبان. قدمت لنا وجبة لم تكن....، بل كانت بفتيك مقلياً، وقليل من المرق، وحساء مركز، وخبزة مذهبة، وتفاحة وياوورت، لم تكن بالوجبة الباذخة، لكن لم يكن ليعادل في تلك اللحظة، يعادل تلك الوليمة. وكان لنا الحق، كذلك، في دش ساخن بالصابون، وعلى الرغم من أنه كان قصيراً، فلقد كان نفعه علينا أكبر من شتى الأدوية التي كان الحق فيها. فأحسستني كالإنسان الجديد، قد اغتسلت من كل ما نابني من تلك السنوات، بما حفلت من أهوال وعذاب ودموع. وأحاطت بنا مجموعة كبيرة من الأطباء من مختلف التخصصات. وما جاؤوا ليعالجونا. وإنما جاؤوا ليرمموا شروخنا، ويجعلونا في هيأة لائقة إذا وقعت علينا الأنظار حينما يفرج عنا، وليتداركوا المظاهر، في بلد كل ما فيه مظاهر في مظاهر. كان لنا الحق، كذلك، في العرض على طبيب للأسنان؛ وقد كنا فقدنا معظم أسناننا، وبعضنا فقد أسنانه كلها. فكانت فرصة لي للخروج من غرفتي. كانت عيادة الطبيب توجد في سيارة تقف أمام بنايتنا، وسط ساحة تشرف على الجرف الهائل المحاذي للمدرسة. وقد جعلوا سياراتهم المدنية والعسكرية من حول تلك الساحة، لتكون ستاراً يحجب عنا المنظر الطبيعي، ويمنعنا أن نتعرف على المكان الذي كنا فيه، وكذلك لدفع النظرات المتطفلة التي يحتمل أن تأتي من الخارج. ولأول مرة أخرج منذ أن كان اعتقالي، من غير عصابة ولا أصفاد. فتملكني انفعال شديد وأنا أرى في الخلفية جبل بويبلان تغمره الثلوج، وينيره شمس الربيع الحارة، فكأنه ينبثق من الفراغ الهائل الذي كنت أخمنه خلف حاجز السيارات ذات الأشكال المستقبلية؛ وأخالني أنظر إلى عربات فضائية، وخيل إلي لبرهة أنني في كوكب غير الكوكب. لكني سرعان ما عدت إلى الواقع، لدى رؤيتي رجال الدرك المسلحين، وهم يفحصونني بفضول، كأنما ينظرون إلى حيوان غريب، أو ينظرون إلى بقايا إنسان من عهد ما قبل التاريخ. دخلت عيادة يغمرها الضوء، نقية، وطاهرة، ومنظمة. كان الطبيب يلتمع بمثل ما تلتمع سيارته. فنظرت كالمسحور إلى أصابعه النظيفة، وأظافرة المقلمة القصيرة، وجلده الأشبه بالشفاف، من شدة النقاء. كان يتحدث، ولم أكن أسمعه. فقد تجمعت حواسي كلها في عينيَّ، المائجتين بجماع تلك الحياة. وإذا أيد تمسك بي في رقة، وترفعني. آه! نعم! لقد انتهت الحصة. فنهضت بطريقة آلية، وفجأة توقف الزمن. فإذا كل شيء من حولي قد تجمد. كنت أقلب بصري مرآة، مسحوراً، مبهوراً بتلك النظرة القادمة من الغيب، وتينك العينين الزائغتين اللتين كانتا تتفرَّسان فيَّ. فلمنْ كانت تانك العينان؟ ومن أين جاءتا؟ فكرت لبرهة في نظرة فان غوغ، لا وألف لا، فما كان جنوناً؛ لقد كان شيئاً آخر، شيء أبعد من الجنون. ثم تحررت من تينك العينين، لأحدق في وجه شيخ لاقيت عنتاً كبيراً في التعرف عليه، وتقبله. ذلك كان أنا. دخلت غرفتي، وأنا لا أقدر أن أطرد عني صورة ذلك الزاهد الأشبه بالمجنون، الذي كنت رأيته في المرآة. وقد ظلت نظرته تلاحقني سنين بعد، وما زلت، إلى اليوم، لا أعرف كيف أتخلص منها. بقيت، طوال تلك الفترة الانتقالية، أكتفي بالنظر والإنصات. كنت أرفض التحدث مع مسؤولين يطمعون في تبرئة ذمتهم بمجرد التظاهر لي بالاهتمام لأمري، أو أجلاف وقحين يتظاهرون لي بالتعاطف والتسامح. فقد كنت أكتفي بالتحديق في أعينهم، ولا أحري جواباً. فأبث الرعب في أنفسهم. فما كان أغناني عن شفقتهم. وحل اليوم المقدَّر. وقد كان أفرج قبله بأسبوع من رفاقنا عن أولئك الذين كانت تحرص الإدراة على التكتم عنهم بشدة. وعلم المسؤولون أن الصحافة ستكون في انتظارنا عند خروجنا من المعتقل، فقرروا أن يفرجوا عنا في مجموعات صغيرة، وكان ابتداؤهم بأحسننا هيأة. فلما حان دوري، جاءني فضول ومعه طبيب، وأخبراني أن الملك قد شملني بعطفه الكبير، وعفا عني، فينبغي لي أن أظل ممتناً له إلى الأبد. ولذلك، فلا ينبغي لي أن أتحدث إلى أي صحافي، أو أدلي بأي تصريح... فأطرقت أنصت إليه، في خشوع، وتواضع، وخضوع، وكأني أشد رعايا جلالته طاعة. وكان كل تفكيري في أمر واحد؛ وهو أنني لا أريد، بأي ثمن، أن أعود لأتجرع العذاب الذي تكبدته أثناء نقلي من تازمامرت. فلما انتهى من كلامه، قلت له : - سيدي العقيد، لا يمكنني أن أتحمل السفر على متن الشاحنة. فسأكون عند الوصول في أسوإ حال. فكيف سأقدر أن أقف على قدميَّ بمحضر أسرتي والأشخاص الذين من المحتمل أن يأتوا لاستقبالي؟ كانت حجة دامغة. فاستدار نحو الطبيب، وسأله رأيه. فوجد منه موافقة. فجعلا يقلبان التفكير في حل للأمر. لكن لم يكن أمامهما متسع من الوقت. وكنت أمتلك الجواب الجاهز، بعد أن أمضيت شهرين كاملين أقلب فيه الفكر. ثم التفتُّ نحو الطبيب، وقلت له : - هل لي في حشية على متن الشاحنة؟ فصاح العقيد باسم، طلع علينا صاحبه كما لو بسحر ساحر. وقال له : - اجعل له حشية في الشاحنة! - أوامرك سيدي العقيد! وبذلك جنبني فضول الجلاد ستمائة كيلومتر من المحن والعذابات الزائدة. مرت الرحلة على نحو ما كنت أتوقع لها. وقد كان معي رفيقان آخران، شاركاني محنة ذلك السفر. وواتاني أن أكون معصب العينين ومقيد اليدين، فقد كنت أضطجع على أحد جنبي، ثم على الآخر، أو أقتعد حشيتي. فكنت مستريحاً، حين سلموني إلى قيادة أركان الدرك في مراكش. أقلتني سيارة إلى إدارة أخرى في الحي حيث كانت تقطن والدتي. وهناك وجدت السلطات الأمنية، عن بكرة أبيها، قد احتشدت في مكتب القايد، رئيس الدائرة. فكلمني هذا الأخير كما كان يخاطبني العقيد فضول، لكني في تلك المرة لم أكن قيد الاعتقال. فاكتفيت بالتحديق في عينيه، في صمت، من دون أن يرف لي جفن. وشعر هو بالانزعاج، فجعل يتلوى في كرسيه. كنت أتصور حالته في مواجهة تلك النظرة الزائغة، الأشبه بنظرة معتوه، تلك النظرة التي لطالما هزت كياني أنا أيضاً. وأدرك مفوض المقاطعة مبلغ حيرته، فهب لنجدته، قائلاً : - أعتقد أن علينا أن نترك السيد يعود إلى ذويه. والتقف القايد الأمر التقافاً، أومأ إلى مساعد له، فأدخل شخصين. تعرفت في الأول على أخي عبد الله، ولم أتعرف في الثاني على أختي الصغيرة إلهام، التي كانت في الخامسة عشرة وقت أن تعرضت للاعتقال. وعندما هممت بمغادرة المكتب، لمحت دركياً يقف هناك. فنضوت عني المعطف العسكري الذي كنت أرتديه، وسلمته له، قائلاً : - هذا يخصكم.