يطفئ مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الابيض المتوسط الخامسة والعشرون وفي ذلك إصرار واضح على ركوب مغامرة جديدة وعلى وضع لبنة أخرى في مسار فعل ثقافي وسينمائي أتبت حضوره الفاعل ضمن خريطة المهرجانات السينمائية التي تقام في ربوع الوطن. لعل ما يميز مهرجان تطوان السينمائي هو كونه من بين المهرجانات القليلة التي يتأسس فعلها على السينيفيليا وعلى خلفية ثقافية رصينة، وهي الخلفية التي تجد ترجمتها الفعلية من خلال التنوع والغنى الذي عادة ما يميز برنامجه العام. إن هذه الخلفية الثقافية يعكسها أيضا التصور العام الذي يحكم المشروع السينمائي للمهرجان عبر صيرورته الممتدة لعقود من الزمن، كما تتجلى بالأساس من خلال جودة الأنشطة والفقرات والفعاليات التي تتشكل منها البنية العضوية لبرنامج كل دورة. على امتداد دوراته السابقة، ظل المهرجان محافظا على «خط تحريري» يجعل من الانتصار لثقافة البحر الأبيض المتوسط أفقا مركزيا للتفكير وسببا ثقافيا للوجود والاستمرار. لقد اختار منظموا مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الابيض المتوسط الانتماء إلى هويه أصيلة، كما اختاروا النضال من موقع الثقافة وعبر بوابة الصورة السينمائية، وهم في ذلك يدركون أن الفعل الثقافي ليس ترفا، بل هو آلية حقيقية لنشر قيم الحب والتعايش والسلام ولمقاومة الابتذال «وفلسفته» التي أضحت نموذجا يتم الترويج له عبر عدة وسائط. ببعده المتوسطي، يصبح المهرجان سياقا حضاريا للتلاقح الثقافي و للمحاورة الإبداعية بين المكونات الثقافية للشعوب المنتمية لحوض البحر الأبيض المتوسط بامتداداتها الأوروبية والشمال إفريقية. في كل دورة جديدة، يقترح المهرجان برمجة قوية وذلك من خلال الانفتاح على تجارب سينمائية متنوعة من حوض البحر الأبيض المتوسط ، وهي التجارب التي قد تختلف موضوعاتيا وجماليا إلا أنها تشترك في مبدأ أساس هو السينيفيليا. في جغرافيا تعج بصور التدجين، والقبح، والتسطيح، والابتذال، يسعى المهرجان إلى البحث عن صور سينمائية بديلة ترصد آمال الشعوب المتوسطية في التحرر من آليات الاستغلال الجديدة التي أفرزها النظام العالمي «الجديد». لقد تحتفظ ذاكرة المهرجان بمجموعة من النماذج الفيلمية- خاصة منها القادمة من أوروبا الشرقية- التي قدمت فرجة حقيقية نظرا لاستنادها على خلفية فكرية عميقة و كتابة سينمائية مبهرة و تشخيص متماهي ومقنع. تبقى اللقاءات الفكرية والنقدية من بين النقط القوية في مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الابيض المتوسط، وهي اللقاءات التي غالبا ما تتمحور حول قضايا راهنة وتحضرها شخصيات مشهود لها بالكفاءة العلمية. يختار المنظمون أن يقتربوا من قضايا غير مطروقة تشكل هواجس حقيقية لمواطني الضفة المتوسطية وذلك بهدف تجسير العلاقة بين مختلف الهويات المشكلة لهذا الفضاء المتوسطي. تكمن قيمة هذه اللقاءات في أنها تفتح نقاشا ثقافيا حول السينما وأسئلتها وأساليب تعبيرها الإبداعية والجمالية، وتدمج الضيوف والمشاركين في تفاعل سينيفيلي حول قضايا مرتبطة بالثقافة السينمائية. هذا المنحى السينيفيلي تعكسه بجلاء مجلة «وشمة» التي يصدرها المهرجان والتي غالبا ما تشكل مداخلات الندوات واللقاءات النقدية محاورها الأساسية. لقد كان مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط سباقا لتجربة النشر السينمائي من خلال مجلة «وشمة» وهو التقليد الذي تتقاسمه معه مهرجانات أخرى مثل مهرجان إيموزار لسينما الشعوب ومهرجان الراشدية السينمائي وذلك من خلال إصدارهما السنوي لكتاب يجمع مداخلات النقاد والباحثين المشاركين في ندوات المهرجان. إن تمايز مهرجان تطوان يتجلى من خلال ملصقه الذي يصممه الفنان التشكيلي المبدع عبد الكريم الوزاني، وهو الملصق الذي يشكل هوية بصرية لا تنفصل عن هوية المهرجان المتوسطية والتي يعتبر البحر أحد مكوناتها الأساسيين. رغم توالي الدوارات واختلاف مواضيعها، ظل ملصق المهرجان إبداعا أصيلا يعبر بشكل وتيق عن المضمون الثقافي لكل دورة وهو ما يجعله من الخصوصيات الأساسية للمهرجان. إن التجديد الذي يلحق الملصق عند كل دورة يشمل فقط الألوان والصيغ التعبيرية والرموز، فيما تحافظ بنيته البصرية على ثباتها، حيث أن قوة ملصق مهرجان تطوان السينمائي تكمن أساسا في مضمونه الفكري وفي خطابه البصري الذي يعتمد لغة تجريدية توظف الرموز كألية للتعبير. ما يميز أيضا مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط هو الظروف العامة للتنظيم والتي تجعل البرمجة العامة تسير وفق انسيابية تساهم فيها بالأساس بنيات العرض و الحرارة الإنسانية التي تعم فضاءات المهرجان. لقد تتوفر مدينة تطوان على قاعتين سينمائيتين جميلتين (أبينيدا وإسبانيول) تساهمان بشكل كبير في توفير الظروف اللائقة للعرض السينمائي كما يتميز منظموا المهرجان بالجدية في الاشتغال والأناقة في التواصل والترحيب والاستقبال، وهذه الصفات تغذيها مرجعياتهم الثقافية التي تجد امتداداتها في التشكيل والأدب والشعر والنقد والترجمة. لهذه الأسباب وغيرها، يستحق هذا المهرجان كل الاعتبار كما يستحق مناضلوه الثقافيين كل الاحترام على إصرارهم الجميل في أن يجعلوا مدينة تطوان الجميلة قبلة للسينفيليا ولعشق الصورة السينمائية البديعة.