كثيرا ما يعتقد أصحاب القرار الإداري والسياسي أن الإنفاق على الصحة مكلف للميزانية، ويعتقدون أن الحل في ترشيد النفقات والإلتجاء إلى القطاع الخاص، وتوزيع الصلاحيات والاختصاصات بين الإدارة المركزية والمصالح الخارجية، وعقد لقاءات لعرض توصيات تقارير مكاتب الدراسات، والبحث عن التمويل لدى الأطراف الأخرى كالجماعات الترابية والمانحين الدوليين وفاعلي الخير، والشراكة مع جمعيات المجتمع المدني، وشراكة العام والخاص PPP. إنها وصفة معروفة وعصب الرحى فيها هي توصية شد الحزام في أفق تراجع القطاع العام لفائدة الخاص. ينطلق هؤلاء من القول أن الموارد قليلة ويجب تخصيصها لأولويات أخرى مثل الأمن، ومحاربة الفقر وتحفيز النمو الاقتصادي بما يمكن من توفير فرص عمل، وحين تتوفر فرص العمل سيتمكن الناس من تأدية اشتراكهم في التأمين الصحي الخاص، وبالتالي أن ينفقوا على صحتهم. باختصار، إنهم يقولون بكل ثقة أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى تحسين الصحة. فهل سيكون صحيحا إذا عكسنا هذه الفرضية؟ هل تمكن أن يؤدي تحسين الصحة إلى زيادة النمو لاقتصادي؟ لا ينتبه هؤلاء إلى كلفة المرض؛ فالملاريا مثلا تسببت في البلدان الإفريقية الموبوءة بتأخر النمو الاقتصادي بنسبة 1,3% سنويا، وأن توفير الولوج المادي والجغرافي لخدمات صحية جيدة ومقبولة للفئات الأكثر احتياجا هي من الاستراتيجيات الأكثر فاعلية لمحاربة الفقر. من جهة أخرى، فالأوطان تحتاج كذالك لأفراد أصحاء حتى يساهموا في الإنتاج أطول مدة ممكنة. في سنة 2000، أنشأت المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية اللجنة المعنية بالاقتصاد الكلي والصحة لتقييم موقع الصحة في التنمية الاقتصادية الشاملة. باختصار، يقدم تقرير اللجنة قرائن مؤكدة على أن تحسين صحة الفقراء في العالم ليست فقط هدفا في حد ذاته، بل يمكن أن يضطلع بدور تحفيزي رئيسي في التنمية الاقتصادية والحد من الفقر، وكذا تعزيز الأمن العالمي . وفي مارس 2016، أنشأ الأمين العام لمنظمة الأممالمتحدة الهيئة الرفيعة المستوى المعنية بالعمالة (الموارد البشرية) في مجال الصحة والنمو الاقتصادي، برئاسة الرئيس فرانسوا هولاند والرئيس جاكوب زوما، وقدمت تقريرها النهائي وتوصياتها النهائية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. هذه اللجنة تعترف بأن الاستثمار في فرص عمل في الميدان الصحي والاجتماعي يحفز النمو الاقتصادي ويدفع قدما في اتجاه تحقيق أهداف التنمية المستدامة في أفق سنة 2030. كما تحدثت الدكتورة مارغريت تشان المديرة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية في هذا السياق قائلة “لقد نظرت البلدان لفترة طويلة جداً إلى العاملين الصحيين على أنهم مجرد عبء آخر من التكاليف التي يتعين إدارتها عوضاً عن أنهم استثمار يحقق عائدات ثلاثية فيما يخص قطاع الصحة والنمو الاقتصادي والأمن الصحي العالمي. في أكتوبر 2016 بانجلترا، قامت المجموعة البرلمانية المتعددة الأطراف حول الصحة العالمية APPG بإطلاق تقرير Triple Impact برهنت من خلاله كيف أن زيادة أعداد الممرضين وتنمية التمريض له تأثير ثلاثي إيجابي بخصوص تحسين الصحة، تعزيز المساواة بين الجنسين، ودعم النمو الاقتصادي. بتاريخ يونيو 2018، أصدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تقريرا بعنوان “المغرب: تقوية النزاهة في قطاعات الطاقة والصحة والنقل” يقر بكون الصحة هي واحدة من القطاعات التي لها أكبر تأثير طويل المدى على الأداء الاقتصادي للبلاد. إذن، لقد أثبتت الوقائع والدراسات أن العلاقة السببية العكسية بين الصحة والنمو الاقتصادي حقيقة ممكنة لا غبار عليها. كخلاصة، إن النخبة التي تتحكم في القرار المالي والإداري والسياسي ذو العلاقة بالصحة تدربت في الإدارة المغربية على تطبيق برنامج التقويم الهيكلي منذ الثمانينات وأبدعت فيه أكثر من واضعيه، بل إن واضعيه –وأساسا البنك الدولي- هو أكثر رأفة بالمغاربة منهم. هذه النخبة النافذة ترى الصحة كتطلع ASPIRATION مرتبط باجتهاد الفرد وقدرته على تمويل احتياجاته، لا حقا من حقوق الإنسان تفرض واجبات على حامليها وحقوقا لأصحابها، وتتمثل قطاع الصحة كقطاع اجتماعي يستنزف المالية العمومية فقط، لا كقطاع حيوي ضرورية لرفاهية الناس وتنشيط الاقتصاد وتعزيز الأمن كما اتفق عليه العالم عبر منظماته العالمية وتقاريره العلمية.