بحلول 18 نوفمبر 2014 تكون قد مرت على استرجاع المغرب لاستقلاله تسعة وخمسون عاما، ويكون الشعب المغربي قد أحيى الذكرى التاسعة والخمسين لهذه المناسبة، وهو إذ يفعل ذلك لم يفته وهو في نشوة الفرح والابتهاج والاعتزاز بهذه الذكرى وما ترمز إليه، أن يستحضر جملة من المحطات المجيدة في تاريخ جهاد أجداده وآبائه من أجل الحفاظ على استقلال وطنه، قبل أن تفرض عليه «الحماية» عام 1912 ومن أجل استرجاع هذا الاستقلال بعد ذلك. ومن أهم المحطات التي يركز على استحضارها تلك التي أعلنت فيها الحركة الوطنية عن انتقالها من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة باسترجاع الاستقلال التام، ضمن وثيقة عرفت بعريضة 11 يناير 1944 والتي سيحتفي بذكراها السبعين يوم 11 يناير 2015 إنشاء الله. وهي الوثيقة التي تضمنت طموح الحركة الوطنية والخطوط العريضة لما ينتظر إنجازه بعد تحرير البلاد من الهيمنة الاستعمارية، والتي تجسد الآمال التي استشهد من أجلها عدد لا يحصى من خيرة أبناء الوطن رجالا ونساء، من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية والنخب الفكرية والتوجهات السياسية والمذهبية، كما ضحى من أجلها عدد من هذه الشرائح بحرياتهم الشخصية، وبأعمالهم ووظائفهم، وحرفهم ومقاعدهم الدراسية. غاية الجميع تخليص البلاد من السيطرة الاستعمارية واسترجاع السيادة الوطنية التي لم تكن تعني وفق بنود عريضة 11 يناير 1944 سوى إتاحة الفرصة للشعب المغربي في أن يتولى تدبير شؤونه الداخلية والخارجية بنفسه، أي عن طريق إقامة مؤسسات ديموقراطية في إطارها وبواسطتها يتم تدارك ما فوتته حقب الحماية على المغرب من نهوض وتقدم. كان رواد الحركة الوطنية لاسيما المتنورون منهم على إدراك تام بأن الاستقلال ليس سوى وسيلة لهدف أسمى، وهو بناء البلاد بناء يستجيب لرغبات المواطنين، والطبقة المحرومة بصفة خاصة، كما كانوا مقتنعين بأن هذه العملية لن يتأتى إنجازها بنجاح إلا في إطار مجتمع مؤسساتي حديث ضمن ملكية دستورية تترسخ في ظلها دعائم دولة الحق والقانون. وبقراءة الوثيقة قراءة متأنية متمعنة يتجلى هذا الإدراك، وإن حاول محرروها تجنب الدخول في تفصيلات جانبية بخصوص القضايا المتعلقة بالمطالب الحساسة مثل الحريات الديموقراطية فقد نصت الوثيقة على ما يلي: «وحيث أن الأمة المغربية التي تكون الوحدة متناسقة الأجزاء تشعر بما لها وما عليها من واجبات داخل البلاد وخارجها تحت رعاية ملكها المحبوب، وتقدر حق قدرها الحريات الديموقراطية التي يوافق جوهرها مبادئ ديننا الحنيف والتي كانت الأساس في وضع نظام الحكم بالبلاد الإسلامية الشقيقة» وأما ما يتعلق بالاستقلال والوحدة الترابية فقد تضمنتها الوثيقة في البندين التاليين: - أولا: أن يطالب باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد المفدى سيدنا محمد بن مولانا يوسف نصره الله وأيده. - ثانيا: أن يلتمس من جلالته السعي لدى الدول التي يهمها الأمر، الاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه ولتوقيع اتفاقيات تحدد ضمن السيادة المغربية ما للأجانب من مصالح مشروعة. وبخصوص نظام الحكم جاء في الوثيقة: - ثالثا: أن يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حكومة الإصلاح التي يتوقف عليها المغرب في داخله ويكن لنظره السديد إحداث نظام شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية بالشرق، تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع... إذن واضح أن الوثيقة بقطع النظر عما أثير بشأنها من جدل ومناقشات, فإن حمولاتها المتعلقة بالاستقلال والوحدة الترابية والنظام السياسي، لا تسمح بأكثر من مدلول لكل حمولة، فالاستقلال لا يختلف في أنه عودة السيادة التامة للشعب المغربي بما تنطوي عليه هذه السيادة من امتلاك المواطنين حق التمتع بثروة البلاد المادية والطبيعية والتصرف فيها بكامل الحرية، بعيدا عن كل استغلال غير مشروع سواء من لدن فئة داخلية أو جهة أجنبية، كما أن الاستقلال المتعارف عليه دوليا هو عدم خضوع البلاد لأي سيطرة خارجية كيفما كان مجالها، ومن ثم عدم خضوع حكامها وتبعيتهم لأي سياسة أجنبية من شأنها أن تضر بمصلحة البلاد وترهن مصيرها لأطماع هيمنية من شأنها إعاقة نهضتها وتقدمها. ثم أن لا أحد يجادل في أن الاستقلال حق لا يتجزأ، فهو يشمل كل المناطق التي كانت خاضعة للسيادة الوطنية قبل فرض الحماية، ولا يمكن التذرع ببعض المتغيرات التي طرأت في ظل الاحتلال تحت أي مسمى فهي تذرعات لا يجوز اعتبارها سندا لاقتطاع جزء من الوطن، ولأنها من تدبير سلطات غير شرعية على كل حال... وكذا الأمر بالنسبة لمصطلح الديموقراطية، فإن أريد بها الديموقراطية الاجتماعية فمدلولها واحد واضح لا غبار عليه، وإن أريد بها الديموقراطية السياسية فلا يختلف اثنان في كونها حكم الشعب نفسه بنفسه، أي حقه في ممارسة وتدبير شؤونه بنفسه وبكل حرية: حرية اختيار ممثليه المحليين والوطنيين ومراقبتهم ومساءلتهم عند الضرورة. أما النظام السياسي، فمن غير شك، إما أن يكون استبداديا وإما ديموقراطيا، فالاستبدادي قد يكون ملكيا أو جمهوريا، وكذا الأمر بالنسبة للنظام الديموقراطي فالملكية الاستبدادية القائمة على الحكم الفردي غير مقبولة من الوجهة الدينية، ولا في المنظور العلماني، وكذا النظام الجمهوري. إذن فالمقبول هو إما جمهورية ديموقراطية، وإما ملكية دستورية نيابية. ومن هنا لا تتصور المواطنة الكاملة في كل نظام ملكي قائم على أساس حكم مطلق، ولا في ظل جمهورية مستبدة مؤسسة على القهر وهضم الحقوق وخنق الحريات الفردية والعامة. وفي هذا الصدد يجدر التذكير بأن فصائل الحركة الوطنية بمختلف توجهاتها السياسية والإيديولوجية، لم تكن تستند في مطالبتها على اعتبارات مستوحاة من متغيرات طارئة، وإنما إلى شعور وطني بضرورة وضع حد للوضعية غير الطبيعية التي آلت إليها البلاد منذ فرض الحماية وتحولها إلى احتلال استعماري بكل ما في المصطلح من معنى. وهذا خلاف ما ذهب إليه البعض من كون «الوعي بضرورة المطالبة بالاستقلال والحرية، يعود إلى أحداث... كان لها الأثر في انبعاث وعي الوطنيين بالتحرر» ومنها هزيمة فرنسا في الحرب وما نتج عنها من رفع الروح المعنوية للمواطنين، ودخول عوامل جديدة في توجيه الفكر الوطني، وتشجيعهم على المطالبة بالاستقلال، وضمنها المقابلة التي تمت بين عاهل المغرب والرئيس روزفلت في مؤتمر أنفا بالدار البيضاء في 5 يوليوز 1943، و»حث هذا الرئيس الملك على عدم السماح للأجانب بأن يمتصوا ثروة البلاد... وأن حكومة ذات سيادة يجب أن يكون لها إشراف كبير على موارد الثروة في بلادها» مما يعني حسب أصحاب هذا القول بأن فكرة المطالبة بالاستقلال في تلك الفترة ما كانت لتخطر على بال زعماء الحركة الوطنية لولا إيعاز من الرئيس الأمريكي روزفلت، وأنها نابعة من مبادرة الملك محمد بن يوسف رحمه الله قبل أن تكون الحركة الوطنية مهيأة لطرحها وإذا كان جائزا الاتفاق على أن هذه العوامل شجعت على القيام بهذه الخطوة، فمن المؤكد أنها ليست هي الحاسمة في الموضوع، فالمتتبع لمسيرة العمل الوطني بدءا من مرحلة المطالبة بالإصلاح وما تخللها من محاولات لدفع سلطات الحماية للوفاء بما التزمت به في «معاهدة الحماية» دون جدوى، وكيف لاحظ الوطنيون بالملموس تحول تصرفات فرنسا في شؤون البلاد من مجرد العمل على «رقيه وإدخال الإصلاحات اللازمة لتطويره وتقديم خبرتها وإمكانياتها للحكومة المغربية»، إلى الاستحواذ الشامل والتعسفي على كل الشؤون الداخلية والخارجية. وبهذا تحولت حماية فرنسا للمغرب من «حماية اتفاقية» إلى «حماية استعمارية» بل إلى احتلال استعماري استغلالي، في ظله صدرت قوانين ومراسيم تكرس وضعيات سياسية وإدارية واقتصادية هي في خدمة المصالح الفرنسية أكثر مما هي في اتجاه «رقي المغرب وإدخال الإصلاحات اللازمة لتقدمه وتطويره»، ويتجلى من رصد تطور الحركة الوطنية، وفحص مشاريعها وقراءة أدبياتها ووثائقها، أن رواد هذه الحركة كانوا منذ انطلاق عملهم المبكر، أي منذ بداية عقد ثلاثينيات القرن العشرين، مصممين على إخراج البلاد من السيطرة الأجنبية، ولكنهم أيضا كانوا واعين بأن هذا لن يتأتى قبل استكمال حركتهم للآليات التنظيمية والقوة البشرية المنظمة، وهو شرط ضروري لمواجهة مشروع أجنبي فرض بمعاهدة حماية، وتكرس بالقوة وتجاوز المجالات التي حددتها هذه المعاهدة. ومما يجدر استحضاره في مثل هذه المهام، أن أي حركة وطنية تحريرية، لا تنطلق عادة إلا وهي خليط من أفراد لا يوحد موقفهم إلا حدث قد يكون بشأن قضية محلية أو جهوية، وقد يكون من أجل قضية جزئية في مجال محدود، كما قد يتسع الموقف فيكون بشأن قضية وطنية شاملة. وهذا سيتبين من خلال رصد ولو وجيز لنشوء الحركة الوطنية شعورا من الشعب المغربي بأن معاهدة الحماية قد فرضت من لدن فرنسا على السلطان المغربي مولاي عبد الحفيظ، فإنه لم يتوقف على الاحتجاج والمقاومة المسلحة، وهذا ما سجلته المرحلة ما بين 1912-1936 في كل من جبال الأطلس والريف والصحراء، وفي بعض المدن كالرباط وسلا, مما يعني أن الروح الوطنية لدى المغاربة لم تخب، وأن المغاربة لم يستسلموا. ففي الجبال والسهول والصحراء والريف مقاومة مسلحة، وفي المدن احتجاجات واضطرابات ومظاهرات كما حدث مثلا عام 1920 في كل من سلا والرباط ضد محاولة اليوطي سن ضريبة الأرباح حيث نظم إضراب تبعته مظاهرة السكان الذين كانوا يهتفون «لا ضريبة بدون مراقبة». ولكن ما كان يميز هذه المحاولات هو انعدام التنسيق بين فصائل المقاومة المسلحة، ولم يكن حال الحركات الاحتجاجية بأفضل في هذا المجال علاوة على غلبة طابع العفوية والارتجال على الجميع. وهذا ما مكن السلطات الاستعمارية من الحد من اتساعها وتطورها إن لم يكن التغلب عليها بصفة نهائية، وهكذا إلى عام 1930 حين صدر ما أطلق عليه «الظهير البربري» الذي شكل أهم محطة في تاريخ الحركة الوطنية الحديثة وتطورها، أي الحركة المكونة من الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، وتنظيمات المجتمع المدني في حالاتها العصرية. ومن المعلوم أن هذه الحركة لم تستكمل ما يلزم من الشروط الذاتية والموضوعية ما يمكنها من اكتساب صفة «حزب سياسي» بالمفهوم العصري لهذا المصطلح إلا بعد مجهودات جبارة بدءا من تعبئة المواطنين ضد «الظهير البربري» وتأسيس كتلة العمل والمطالبة بتطبيق الإصلاحات المنصوص عليها في «معاهدة الحماية» وصولا إلى طرح قضايا تتعلق بالإصلاحات السياسية وبالحريات العامة دون إغفال مواجهة ما كانت الإقامة العامة تسنه من قوانين مجحفة لصالح الأجانب وضد حقوق المواطنين. وبموازاة هذه المبادرات الإصلاحية اهتم قادة الحركة بجانب التنظيم وتنسيق العمل بين مناطق البلاد والتركيز خاصة على كبريات المدن. وقد اعتمدت الجماعات الأولى للحركة الوطنية أسلوب قراءة اللطيف في المساجد، والتظاهر وشن إضرابات، كخطة تحسيسية الغرض منها بلورة الوعي الوطني، وإشعار الرأي العام الداخلي والخارجي بأن الإدارة الفرنسية تتصرف في المغرب لا كدولة حامية وإنما كسلطة استعمارية. ولما استنفدت كتلة العمل الوطني كل هذه الوسائل العفوية والتي ووجهت بالقمع والاعتقالات والنفي، أيقنت بأن المطالب الإصلاحية لم تعمل سوى على تمادي السلطات الفرنسية في تكريس الآليات المادية والمعنوية للسير بالبلاد نحو استعمار استيطاني، وإلحاقها بفرنسا على غرار ما ترتبه في مستعمراتها الأخرى... ولم يكن أمام قادة كتلة العمل الوطني إلا الانتقال من تجزئ المطالبة وجهويتها إلى شموليتها ووطنيتها، مما طرح عليهم العمل على توسيع مجال الحركة الوطنية ليتجاوز كبريات المدن إلى باقي المناطق المغربية انطلاقا من هيكلة الكتلة والتنسيق بين مكوناتها محليا وجهويا ووطنيا، وإنشاء قنوات التكوين والإعلام وتأسيس الآليات الموازية وربط حركة الجنوب «المنطقة السلطانية» بحركة الشمال «المنطقة الخليفية». لم يمض على تأسيس كتلة العمل الوطني سوى فترة وجيزة حتى استطاعت أن تحظى بمشروعية أغلبية الشعب المغربي، لاسيما بعد إبداء عاهل البلاد تأييده، واستقطاب شخصيات من حاشيته وانضمام نخبة من علماء القرويين ومراكش وخريجي المعاهد الفرنسية وغيرها، وكذا طلبة الثانويات المغربية المشهورة إذاك ممن كانوا لا يخامرهم أدى شك في أن لا إصلاح ولا تغيير ما دامت البلاد رازحة تحت السيطرة الأجنبية، وأن الحل الوحيد هو: استعادة البلاد لاستقلالها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت هذه الفعاليات خاصة من حظي منها بالالتحاق بالجامعات والمعاهد العصرية، على اطلاع بالأنظمة السياسية، ومدركة تمام الإدراك ما في الاستبداد من مثالب، وما في الديموقراطية من إيجابيات، ومن ثم كانت قناعتها راسخة في أن الاستقلال بدون حكم ديموقراطي استقلال شكلي لا يتيح للبلاد الخلاص من رواسب الاستعمار السياسية والاقتصادية والثقافية... لهذه الاعتبارات كلها أصبح الرهان على خوض المعركة من أجل الاستقلال من أولويات الكفاح الوطني خاصة وأن دولا شقيقة أحرزت على الاستقلال رغم أن احتلال المغرب سابق على احتلالها، مثل العراق ولبنان, إذ نال الأول استقلاله عام 1932 رغم أن احتلاله كان بعد الحرب العالمية الأولى، بينما نال الثاني استقلال عام 1943 وهو الذي لم يحتل إلا بعد الحرب الأولى كذلك. مما سبق يتضح أن القول بكون تقديم عريضة 11 يناير 1944 مرتبط بعوامل طارئة قول خال من الموضوعية، فالحركة الوطنية المغربية جزء من الحركات الاستقلالية العالمية، والمرحلة التي قدمت فيها العريضة كانت مرحلة كثرت فيها مطالبة هذه الحركات بالاستقلال وفيها حصل بعضها عليه كما تقدمت الإشارة إليه. ثم إن فكرة المطالبة بالاستقلال ليست جديدة في المغرب, بل إنها مترسخة في الشعب قبل وأثناء عهد الاستعمار الفرنسي، فقد وقف ضد الغزو الأجنبي في كثير من المحاولات وتصدى للمحاولات الفرنسية قبيل فرض «عقد الحماية» واستمر في المقاومة المسلحة حتى 1936، هذا بالإضافة إلى أن فكرة الاستقلال كانت تخامر رواد الحركة الوطنية المغربية منذ نشأة «نجم الشمال الإفريقي» 1927 حيث كان المغاربة المقيمون في فرنسا من أبرز نشطائه. ولو أن أغلبية مكوناته جزائريون، فقد كانت مطالبته بالاستقلال غير مقتصرة على القطر الجزائري, بل على سائر أقطار المغرب العربي، وهذا ما تبين عندما شارك نجم الشمال الإفريقي في مؤتمر بروكسيل الذي انعقد ما بين 10 و15 فبراير 1927، إذ قدم برنامجا من 15 بندا كان من أهمها المطالبة بالاستقلال وبحرية الصحافة والاجتماع والتجمع والحقوق السياسية والنقابية وبمجلس وطني منتخب بطريقة التصويت، وبمجالس بلدية منتخبة كذلك. وإذا كان مصالي الحاج هو الذي مثل النجم في المؤتمر المذكور, فإنه بمجرد رجوعه إلى باريس دعا إلى عقد اجتماع مهاجري شمال إفريقيا، وقدم لهم تقريرا عن أشغال المؤتمر، وفي أعقاب هذا الاجتماع صدر نداء إلى كل جماهير إفريقيا الشمالية أن تنضم إلى حزب نجم الشمال الإفريقي للمطالبة بالاستقلال، كما صدر منشور تحت عنوان «إلى إخوتنا في المغرب والجزائر وتونس» يدعو فيه إلى استئناف النضال ضد فرنسا وإسبانيا لتحرير المغرب العربي، وفي عام 1928 أصدر النجم بيانا عنوانه: «من أجل استقلال إفريقيا الشمالية»، وفي ماي 1933 أعلن حزب «نجم الشمال الإفريقي» عن برنامج تأكيدي لما سبق أن نادى به عام 1927، (المطالبة بالاستقلال وبالإصلاحات السياسية). ومما سبق يتجلى أن فكرة المطالبة بالاستقلال كانت الهدف المركزي لعمل الحركة الوطنية, سواء في مرحلة المواجهة العفوية، أو في فترة المقاومة الوطنية بأسلوبيها المسلح والسلمي، وما تريثها في المطالبة بالاستقلال سوى خطة أريد بها هيكلة الحركة من جهة، وتهيئ الرأي العام الوطني والخارجي من جهة أخرى، حتى إذا توفرت الشروط الموضوعية والذاتية واقتنع الجميع بأن أي إصلاح لن يتم في ظل السيطرة الاستعمارية، تم الإفصاح عن الهدف الحقيقي للحركة الوطنية ألا وهو الاستقلال التام. فكانت عريضة «حزب الاستقلال» بتاريخ 1944 وعريضة «الحزب القومي» حزب الشورى بعدها بثلاثة أيام وهي نفس العريضة الأولى صيغة ومحتوى. (أنظر تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب لعبد الكريم غلاب، الجزء الأول ص227، ومذكرات حياة وجهاد لمحمد حسن الوزاني ص120). والخلاصة هي أن إقبال المواطنين المغاربة على الانخراط في العمل الوطني في إطار الحركة الوطنية من أجل تحقيق هدفين مركزيين: - أولهما: استرجاع استقلال البلاد وهذا أمر طبيعي. - ثانيا: بناء دولة عصرية في ظل ملكية دستورية قائمة على مؤسسات ديموقراطية يتاح فيها للشعب المغربي المساهمة في إدارة الشؤون العامة والمحلية والوطنية بكامل الحرية. ومن أجل هذين الهدفين استشهد الكثير، ونكل بعدد ممن لم تكتب لهم الشهادة، وحصل المغرب على استقلاله، وانتظر الكل الوفاء بما من أجله ضحى المواطنون: الاستقلال التام (سياسيا، اقتصاديا وثقافيا) قيام نظام ديموقراطي ينعم فيه المغاربة بالعدالة الاجتماعية وبسيادة القانون. وها هي 59 سنة قد مرت على استقلال المغرب، وها هو الشعب المغربي يحتفل بالذكرى 71 قريبا لتقديم العريضة، فماذا عن تنفيذ ما تضمنته هذه العريضة؟ إن إلقاء نظرة على ما آلت إليه الوضعية في مجال الشغل والتعليم والصحة والأخلاق العامة والفساد الإداري والرشوة والمحسوبية والزبونية وما إلى ذلك من مظاهر الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذا بخصوص الديموقراطية والوحدة الترابية، كاف لتأكيد ما اختير لهذا المقال من عنوان: «عريضة 11 يناير 1944 من بريق الآمال إلى سراب المآل». إن المهتم سيكون مجانبا للموضوعية، إذا أنكر أن المغرب عرف إنجازات إيجابية في مختلف المجالات: في التمدرس، والتعمير.. والفلاحة خاصة بناء السدود... والقطاع العسكري والأمني.. كما خطا خطوات لا تنكر في مجال التخطيط وتشييد المؤسسات الاستراتيجية ولاسيما في عهد حكومة المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم، وفي حقل الحريات العامة وحقوق الإنسان تحت ظل جلالة الملك محمد السادس وبقيادة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وفي ذات الوقت لا يكون مجحفا في حق أحد، إذا خلص من خلال تقييمه لنفس المرحلة إلى أن هناك اختلالات وانفلاتات فوتت على البلاد فرصا كان يمكن الاستفادة منها في القيام بإنجازات أكثر، بلادنا في أمس الحاجة لتدارك ما نجم عن الوجود الاستعماري طيلة ثلاثة وأربعين سنة من جوانب النقص والتخلف، من جهة، والعمل على الدفع بالبلاد في اتجاه التقدم والاصطفاف إلى جانب البلدان ذات المكانة المعتبرة في المنتظم الدولي المعاصر من جهة أخرى. إذن أفلا يكون من حق أي مغربي غيور على وطنه أن يغتنم فرصة إحياء ذكرى محطة من أعز ما تفخر به الحركة الوطنية من محطاتها ليساهموا في إثارة بعض القضايا التي لا يجب التفريط فيها، وعلى من يهمهم الأمر الانكباب عليها وأن يعملوا على تحويل هذه الذكرى مناسبة للاحتفال باليوم ما باعتباره ليس حدثا عظيما سواء تعلق ب11 يناير أو باسترجاع البلاد لسيادتها واستقلالها وحسب، بل لتثمين ما حقق على أرض الواقع من منجزات، وما قطعته البلاد من أشواط في مجالات التنمية وما تبوأته في مراتب التقدم والنمو، وعند ذلك نهتف جميعا أو نكتب «مطالب الحركة الوطنية من مجرد تحبير العرائض وشحنها بالوعود والآمال إلى تجسيدها على أرض الواقع بإنجاز جلائل الأعمال. فهل ستحل الذكريات المقبلة ويحتفل بها وقد حقق ولو جزء من هذه الآمال والوعود؟ عسى يكون ذلك تحت شعار «المطالب من بريق الآمال إلى تجسيد هذه الآمال والوعود على أرض الواقع فيما يحقق من جليل المنجزات والأعمال» وإنا لمنتظرون...