لعل من حسنات تطور عطاء اهتمامات مؤرخي مغرب الزمن الراهن، هذه العودة الجماعية لإعادة تقليب خبايا ذاكرة الحركة الوطنية المغربية بالمنطقة الخليفية. وتكتسي هذه العودة قيمة معرفية كبرى، لعل أهمها مرتبط بسعي نخب الشمال إلى إعادة تصحيح الأحكام التنميطية الكبرى التي تحكمت في تعامل وطنيي المنطقة السلطانية، التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، مع عطاء وطنيي الشمال ومع مبادراتهم ومع مجهودهم الريادي داخل صرح النضال الوطني لعقود مغرب الاستعمار. لقد قيل الشيء الكثير بهذا الخصوص، وارتفعت العديد من الأصوات المطالبة بإعادة تفكيك بنية العطاء الوطني وإنصاف أهله، وصدرت آراء جريئة بهذا الخصوص، سواء من داخل صف الفاعلين المباشرين في الأحداث وفي صنع الوقائع مثلما هو الحال مع الأستاذ عبد الخالق الطريس، أم من داخل مؤرخي المرحلة الراهنة مثلما هو الحال مع المرحوم محمد بن عزوز حكيم. ومع ذلك، فقد ظل مجال البحث المتخصص يصطدم بجحود غير مفهوم ولا مبرر، مرتبط بتبخيس متواصل لقيمة عطاء منطقة الشمال، وذلك على الرغم من رحابة مجال الدراسة الذي يحفل برصيد هائل من الوثائق الغميسة والأعمال التصنيفية والدراسات القطاعية والأبحاث المونوغرافية المنجزة داخل المغرب وخارجه. باختصار، ظل الأمر مثيرا للاستغراب، مع إصرار بعض فاعلي الحركة الوطنية بالمنطقة السلطانية على جعل قطب الوطنية يتمحور حول أبعادها الحضرية الضيقة المختزلة –عن باطل- في قطبي فاس وسلا، مع «التكرم» بإضفاء صيغ تكميلية أو هامشية لباقي جهات البلاد. لقد أثبت البحث التاريخي المغربي المعاصر أن نهر الحركة الوطنية كان شلالا دافقا، اخترق مجمل المجالات الجغرافية للبلاد، بقراها وبمراكزها الحضرية، وأن الكل، نعم الكل، كان له دوره. كل من موقعه، وكل انطلاقا من انتمائه، وكل حسب إمكانياته. وكانت النتيجة، هذه التجربة الخالدة المسماة بالحركة الوطنية. هي تجربة خارج التحنيط، وخارج التقديس، وخارج الاستثمار السياسوي الراهن، وخارج التدافع المصلحي الضيق. هي تجربة قابلة للقراءات المتجددة وللتفكيك العلمي الرصين الكفيل لوحده بإعادة تقييم عطائها وتراكماتها في زمانها وفي مكانها المخصوصين، وكذا من خلال هويتها الواحدة/المركبة والمتلونة باختلاف تلاوين الانتماءات الجهوية والثقافية والسوسيولوجية للبلاد. في إطار هذا التوجه العلمي الأصيل، يندرج صدور الجزء الثاني من كتاب «الاستعمار الإسباني في المغرب: المقاومة المسلحة والنضال الإصلاحي والسياسي الوطني»، لمؤلفه الدكتور عبد العزيز السعود، سنة 2017، وذلك في ما مجموعه 412 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل الجديد، تعبير جلي عن هذه الروح الجديدة التي أضحت تمثلها نخب منطقة الشمال وباحثيها ومؤرخيها من أجل تنظيم العودة الأكاديمية المجددة للبحث في تراث الحركة الوطنية في المنطقة المذكورة، رصدا لمعالم تميزها وتشريحا لمكونات هويتها الجهوية المحلية وتفكيكا لخصوبة عطائها الفريد والمتميز داخل نهر العمل الوطني التحرري الواسع. ولقد لخص الأستاذ امحمد بنعبود معالم هذا الأفق العام لمحددات الكتابة حول رصيد تجربة الحركة الوطنية بشمال المغرب، عندما قال في كلمته التقديمية: «إن وضعية وحركة البحث التاريخي في شمال المغرب تتميز عن وضعية البحث التاريخي على الصعيد الوطني بالعناصر المكونة لها وذلك لأسباب متعددة يمكن تلخيصها في ما يلي: أولا- إن الشعور بإهمال منطقة الشمال من 1957 إلى 2000 أدى بالمثقفين الشماليين عموما ، والتطوانيين منهم على وجه الخصوص، بتمسكهم بهويتهم الثقافية وتشبثهم بهويتهم العربية الإسلامية وباعتزازهم بالمساهمة الفريدة لرواد الحركة الوطنية وكفاحهم من أجل تحقيق استقلال المغرب كله. ونظرا للضغوط التي كانت تمارس خلال الحقبة المذكورة لمنع ممارسة الوطنيين لنشاطهم السياسي بحرية، فلقد تم تركيز مثقفي منطقة الشمال على البعد الثقافي والفني لتاريخ منطقتهم. ثانيا- إن وفرة المادة للدراسة شرط مهم لانطلاقة البحث التاريخي بالشمال والبحث حول تاريخ الشمال ليس في تطوان فقط، بل في مدن شمالية أخرى كطنجة وشفشاون والقصر الكبير والعرائش وأصيلا والريف. ثالثا- إذا كان الاعتقاد شائعا بين المؤرخين المهتمين بتاريخ المغرب عموما بأن قلة المادة التاريخية يشكل عائقا كبيرا أمامهم، فإننا في الشمال نقول بأن المادة التاريخية لدراسة منطقتنا غزيرة وأن الخلل يتجلى في قلة المؤرخين المحترفين المتميزين… رابعا- إذا كان المنظور المخزني ينعكس في الدراسات التي تنجز في جنوب المغرب، فإننا في الشمال كنا ومازلنا نتميز باستقلال فكرنا وحرية التعبير عن أفكارنا. لا نتردد في الاختلاف مع بعضنا في الآراء ولا نتردد في انتقاد غيرنا بل وانتقاد أنفسنا في بعض الحالات، وبالتالي لم يتردد الدكتور السعود في مناقشة مسألة تأثير الحركة الفاشية في بعض مظاهر نشاط حزب الإصلاح الوطني مثلا. خامسا- إن نشر هذا الكتاب يؤكد أهمية حركة البحث العلمي حول تاريخ الحركة الوطنية في شمال المغرب…» (ص ص. 5-6). وللاقتراب من سقف هذه المحددات العامة، اهتم الأستاذ السعود في كتابه الصادر ضمن منشورات مؤسسة الشهيد امحمد أحمد بن عبود، بتفصيل الحديث حول مسارات الحركة الإصلاحية التي ارتبطت بنضال منطقة الشمال ضد الاستعمار. في هذا الإطار، عاد المؤلف لمقاربة قضايا مركزية في تحولات هذه الحركة، وعلى رأسها السياقات التي أفرزت الأنوية الأولى للعمل الوطني التأطيري بالشمال من خلال مجالاته الكبرى وعلى رأسها التعليم والصحافة والعمل الجمعوي والتوعوي، إلى جانب التنظيمات الحزبية الأولى وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية. في هذا السياق، نجح المؤلف في تجميع تراكم غزير من المعطيات التوثيقية الدالة على تحولات المجال المدروس، وعلى توجيه عناصر الفعل والمبادرة داخله، سواء في إطار التفاعل مع التطورات الداخلية الخاصة بالمنطقة السلطانية أم مع التطورات الخارجية المرتبطة بوقائع حاسمة في توجيه العمل الوطني المحلي، مثلما هو الحال مع وقائع الحرب الأهلية الإسبانية أو ظروف الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على تغير خطاب الحركة الوطنية بالشمال وعلى محددات مبادراتها التأطيرية وعلى سقف مطالبها وعلى تلاوين نضالاتها الإصلاحية والسياسية التي صنعت لها هويتها التحررية الخالصة، في زمانها المحدد وفي امتداداتها الجغرافية الإقليمية والوطنية والدولية الواسعة. وفي كل هذه المستويات، ظل الأستاذ السعود حريصا على تقديم كثافة استثنائية من التفاصيل المستندة إلى عدة وثائقية بالغة الأهمية، وإلى رصيد ثري ومتنوع من الأعمال التصنيفية والمونوغرافية المتخصصة، العربية والإسبانية، إلى جانب مواد داعمة من شواهد قائمة لها صلات عميقة بالموضوع، مثل الأعمال الفنية والكتابات الصحافية ومختلف أوجه العمل المدني التعبوي الذي ميز منطقة الشمال خلال عهد الاستعمار. هي مقاربة تعيد إنصاف ذاكرة منطقة الشمال، وتساهم في تجميع رذاذ الذاكرة، في أفق توسيع مجالات البحث والتقصي، عبر تطوير القراءات وتوسيع المظان البيبليوغرافية والتنقيب عن الأرصدة الوثائقية الدفينة والغزيرة التي لاتزال متناثرة ومنسية في كل مدن المنطقة الخليفية، بعيدا عن «المركز» بمدينة تطوان، وقريبا من الأقاصي ومن الأصوات العميقة لعموم أصقاع منطقة الشمال المترامية على ضفاف جناحي منطقتي جبالة والريف التاريخيتين.