«الحماية الإسبانية من خلال الكتابات التاريخية بشمال المغرب» تعزز مجال الدراسات التاريخية الوطنية المعاصرة المتخصصة في تحولات واقع منطقة الشمال خلال عهد الاستعمار، بصدور كتاب «الحماية الإسبانية من خلال الكتابات التاريخية بشمال المغرب (1912-1956»، لمؤلفه الأستاذ عزيز الحساني، وذلك سنة 2017، في ما مجموعه 462 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب الصادر ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يعكس حيوية جيل مؤرخي المغرب الراهن، المهووسين بهاجس التأصيل التاريخي للقضايا الكبرى المؤطرة لمكونات الذاكرة التحررية لمغرب عقود النصف الثاني من القرن الماضي. لا يتعلق الأمر بكتابة مونوغرافية تشخيصية في رصد الأسئلة المهيكلة للبحث في تاريخ منطقة الشمال، ولا بتجميع كمي لحصيلة رصد منجزات البحث الإسطوغرافي الوطني والأجنبي ذي الصلة بالموضوع، ولكنه –قبل كل ذلك- استثمار عميق لأرقى مناهج البحث التاريخي المعاصر، من أجل بلورة رؤى تجديدية في أشكال التعاطي مع المصنفات التاريخية التي أنتجتها نخب منطقة الشمال في سياق تفاعلاتها المتداخلة مع حيثيات فرض الواقع الاستعماري خلال مرحلة ما بين سنتي 1912 و1956. لقد قيل الشيء الكثير حول مسارات الحركة الوطنية بالشمال، وأنجزت العديد من الأعمال التأسيسية الرائدة، بل وتحول الموضوع إلى انشغال متجدد لدى مؤرخي المنطقة ولدى مثقفيها وعموم مهتميها. وإذا كان مجال التأليف التاريخي قد ارتبط بمجالات الانفعال العاطفي المؤطر للموقف وللمبادرات تجاه الوضع الاستعماري القائم، فإن تجاوز هذا الإطار الضيق للبحث وللتدقيق وللتأليف، أضحى ميسما ناظما لمؤرخي الزمن المغربي الراهن، قصد التحرر من حالة الرقابة الذاتية التي أنتجها «المؤرخ الوطني» في تعاطيه مع تلاوين الذاكرة الكولونيالية ببلادنا. وإذا كان هذا المطلب قد وجد الكثير من مبرراته الموضوعية المرتبطة بأجواء التدافع النفسي العاطفي الذي أطرته خطابات الحركة الوطنية في إطار معاركها الكبرى ضد الاستعمار، فإن الأمر لم يعد له ما يبرره اليوم، لاعتبارات متعددة، لعل أبرزها مرتبط ببداية احتفاظ المؤرخين بالمسافة الضرورية تجاه الأحداث بحكم خضوعها لمنطق التقادم، ثم بالنظر لأهمية الطفرات الهائلة التي عرفها علم التاريخ وأدواته الإجرائية المعتمدة في البحث وفي التقصي وفي النقد وفي الاستثمار. وعلى رأس هذه الاهتمامات المتجددة، بدأت هذه العودة الجماعية لتفكيك طابوهات المصنفات الإسطوغرافية الكلاسيكية، عبر أدوات نقدية وتشريحية فعالة، ثم عبر طرح الأسئلة المغيبة وإدخال التجديدات المنهجية والمفاهيمية الضرورية، من قبيل توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية، وتطوير ملكة النقدين الداخلي والخارجي للنصوص، وتجميع البيبليوغرافيات الضرورية، واستثمار عطاء العلوم الأخرى المنفتحة على علم التاريخ. في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور الكتاب موضوع هذا التقديم، في محاولة لإعادة مقاربة قضايا البيبليوغرافيا المغربية الخاصة بتاريخ العمل التحرري الوطني بشمال البلاد خلال مرحلة الاستعمار الإسباني، والتي أنتجتها نخب المرحلة وفاعليها ومؤرخيها. يتعلق الأمر بأعمال كل من أحمد الرهوني، ومحمد سكيرج، وأحمد سكيرج، ومحمد المرير، وعبد السلام بنونة، ومحمد داود، والتهامي الوزاني، والعربي اللوه، ومحمد المكي الناصري، وعبد الله كنون، وعبد الخالق الطريس، والطيب بنونة، وامحمد أحمد بنعبود، والمهدي بنونة، ومحمد بن عزوز حكيم، وبوبكر بنونة. ولتوضيح السياق العام المهيكل للعمل، يقول المؤلف في كلمته التقديمية: «نتيجة مجموعة من العوامل كالتقسيم الإمبريالي الأوربي لوسط القارة الإفريقية، والعزلة السياسية لإسبانيا طيلة القرن التاسع عشر، وابتعاد الإسبان نسبيا عن المشاكل الأوربية، ثم اعتبار منطقة شمال المغرب مجالا لنفوذ إسبانيا، يضاف لها المناطق الصحراوية المغربية. يتأسس عملنا هذا على نصوص الكتابات والمدونات التاريخية التي عاصر مؤلفوها مرحلة الحماية الإسبانية 1912-1956، وكتبوا عن المرحلة انطلاقا من مشاهداتهم المباشرة واحتكاكهم اليومي مع أحداث نلك الفترة، فمؤرخو شمال المغرب… ساهموا في صنع أحداث فترة الحماية، ويعدون مسؤولين عنها، الأمر الذي يعطي لكتاباتهم وشهاداتهم عن الفترة المذكورة قيمة علمية أكبر… فما هي إذن الصورة التي أنتجها مؤلفو ومؤرخو المنطقة الخليفية عن الحماية الإسبانية؟ إن الإجابة عن هذا الإشكال الكبير لا يخلو من مغامرة وصعوبة نظرا من جهة لطول الفترة الزمنية 1912-1956، ومن جهة أخرى لتعدد القضايا والإشكاليات المطروحة خلال تلك الفترة…» (ص ص. 11-14). وعلى أساس هذا التصور، سعى المؤلف إلى مقاربة أطروحة بحثه اعتمادا على أربعة محاور متداخلة، اهتم في أولاها بالتعريف بالمعاهدات والاتفاقيات المنظمة للحماية الإسبانية في شمال المغرب، وتوقف في ثانيها لتجميع المعطيات التوثيقية الخاصة بمؤسسات الحماية الإسبانية بالشمال وكذا بأجهزتها العاملة، واهتم في ثالثها برصد التناول التاريخي لقضايا الاحتلال العسكري والمقاومة المسلحة بشمال المغرب، وتوقف في رابعها للبحث في أداء الحركة الوطنية بالمنطقة الخليفية وفي إسهاماتها في معركة تحقيق استقلال البلاد. وبهذا التجميع الثري والمتنوع، استطاع المؤلف تقديم أطروحة مركزية حول طبيعة الصورة التي حملها مؤرخو مغرب الشمال خلال عهد الاستعمار، وهي الصورة التي كانت تجد تلاوين عن تركيبتها المنسجمة مع وظيفة حركة التأليف خلال هذه المرحلة. فالمؤرخ بشمال المغرب خلال عهد الحماية، وقبل أن يكون باحثا منقبا، كان فاعلا سياسيا منخرطا في مشاريع الحركة الوطنية عبر التأطير المباشر والتعبئة الميدانية والمبادرة التأسيسية. لم يستطع هذا المؤرخ أن يتخلى عن جبة الفاعل السياسي، بل اعتبر الكتابة والتأليف التاريخيين مجرد رافد داعم لنهر العمل الوطني المؤطر في التنظيمات السياسية أو المدنية أو الجمعوية المعروفة، مثل حزب الإصلاح الوطني، وحزب الوحدة المغربية، وجمعية الطالب المغربية، ومؤسسة المعهد الحر، ومعهد مولاي المهدي،… وبغض النظر عن أهمية هذا التجميع التصنيفي الذي أنجزه المؤلف، فالعمل يفتح المجال واسعا أمام جهود إعادة تقييم حصيلة المنجز الإسطوغرافي المغربي لعقود الاستعمار، بعيدا عن ضغط المرحلة وعن استيهامات الذوات الفاعلة، وقريبا من منطق النقد العلمي المخلص في وفائه لأدوات صنعة كتابة التاريخ كما هي متعارف عليها أكاديميا.