تعزز مجال الدراسات الأكاديمية المتخصصة في تحيين العناصر العلمية للاشتغال على ذاكرة حروب الريف التحريرية، بصدور العدد رقم 38 من دورية « أمل « المتخصصة في تاريخ المغرب، وذلك خلال مطلع السنة الجارية ( 2012 ). والعمل إضافة جادة لخصوبة حقل الدراسات المذكورة، مادام قد اختار طريق البحث المتأني المنشغل بالتنقيب عن مختلف أوجه عطاء تجربة المقاومة الريفية خلال العقود الأولى من القرن 20، في سياق استنفار المغاربة لقدراتهم الجهادية الواسعة من أجل التصدي لمشاريع الغزو والاحتلال الاستعماريين لكل من فرنسا وإسبانيا بعموم بلاد المغرب. ويبدو أن دورية « أمل « قد استطاعت كسب رهان تعميم تداول المعرفة التاريخية الخاصة بالموضوع على نطاق واسع، إلى جانب التعريف بنتائج آخر الاجتهادات العلمية ذات الصلة من داخل المغرب ومن خارجه، مع التركيز على الوفاء لضوابط التوثيق الأكاديمي الذي لا يتمايل مع الأهواء ولا يجاري النزوعات العاطفية ولا التوظيفات الشوفينية التي اصبحت تطبع ? للأسف ? الكثير من أوجه التداول الإعلامي لتجربة حروب الريف التحريرية ولسيرة ملهمها محمد بن عبد الكريم الخطابي. إنها قراءات مجددة، تتجاوز انزياحات الكتابات الكولونيالية حول وقائع المقاومة الريفية، بنفس القدر الذي تتخلص فيه من جنوح الكتابات الوطنية « العاطفية «، وفق رؤى بديلة لا ولاء لها إلا لقوة الحقائق العلمية الواضحة ولمنطلقاتها الإجرائية الدقيقة. بصيغة أخرى، هي مساءلة لمكونات « الذاكرة التاريخية « لمغاربة المرحلة، قصد تحقيق فهم أمثل لتحولات ماضي منطقة الريف ولواقعها الراهن، في إطار خصوصياتها المحلية أولا، ثم في عمقها الوطني ثانيا، وفي إشعاعها العربي والعالمي ثالثا. ولعل هذا ما اختزلته الخلاصة الواردة في تقديم مساهمة محمد معروف الدفالي، بالكثير من عناصر الدقة والعمق، عندما قالت : « فاجأت انتصارات ابن عبد الكريم الناس، ليس في المغرب فقط، بل وكذلك في الخارج، في أوساط المستعمرين والمستعمرين على السواء، وكان رد الفعل مختلفا في عالم المستعمرين الذي فتحته فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى على نطاق واسع، على أخبار العالم. لقد عمت هذا العالم موجة من الحماس الجنوني من الجزائر إلى مصر، من الهند الصينية إلى الصين، من الأرجنتين إلى الولاياتالمتحدة. في كل جهة أحس فيها شعب بكامله، أو أقلية قومية، أو عرقية، بأن قضية الريفيين تشبه قضيته، إلا ووجدنا بطولات هؤلاء الحربية تبعث تلك الآمال الخائبة التي ظهرت في عهد الرئيس الأمريكي ولسن، مع إعطائها دفعة جديدة كل الجدة ... « ( ص. 4 ). تتوزع مضامين العدد رقم 38 من دورية « أمل « بين ما مجموعه 176 صفحة من الحجم الكبير، شملت العديد من الدراسات التنقيبية الحديثة والقراءات البيبليوغرافية المواكبة والاجتهادات التقييمية التصنيفية. في هذا الإطار، ساهم محمد معروف الدفالي بدراسة حول دور حرب الريف في يقظة نحب المدن، وعاد سمير بوزويتة للبحث في معالم الشخصية الكاريزمية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، وتتبع عبد الرحمان الطيبي موقف أسرة عبد الكريم الخطابي وقبائل الريف الأوسط من مقاومة الشريف محمد أمزيان ( 1909 ? 1912 ). واهتم محمد حاتمي في دراسته - باللغة الفرنسية - برصد تحولات جاذبية ملاحم حروب الريف التحريرية على عطاء المؤرخين المغاربة المعاصرين. وقدم مبارك زكي قراءة في مذكرة لروبير مونتاني حول الخطط الفرنسية التي كانت تستهدف مواجهة محمد الخامس وحزب الاستقلال واستقطاب عبد الكريم الخطابي خلال المرحلة الممتدة بين سنتي 1944 و1956. وتتبع كاتب هذه السطور الجهود التأطيرية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي لما عرف ? آنذاك ? ب « جيش تحرير المغرب العربي «، بدءا من مراحل الإعداد والتنفيذ وانتهاءا بمخاضات الإخفاق والانكسار، وذلك استنادا إلى ما تحفل به وثائق الكولونيل الهاشمي الطود. أما عبد السلام الغازي، فقد ساهم بمادة استقرائية حول حدود الطموح المؤجل في مشروع ابن عبد الكريم التحرري وحول سقف تطلعات الآمال المرتبطة به. ومن جهته، اهتم محمد أوجاما في دراسته ? باللغة الفرنسية ? بتتبع مواقف ليوطي من الحضور الإسباني بشمال المغرب خلال فترة ما بين سنتي 1912 و 1925، واستفاض علال ركوك في التنقيب عن حضور ملاحم ثورة الريف في نصوص منتقاة من الشعر الشفوي. وفي باب « قراءات «، نجد مساهمة لميمون أزيزا في شكل قراءة في كتاب « عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال « لمؤلفته ماريا روسا ذي ماذرياغا، وأخرى للحسين الإدريسي في كتاب « الظل الوريف في محاربة الريف « لمؤلفه أحمد سكيرج، وثالثة لكاتب هذه السطور في شكل متابعات بيبليوغرافية لنماذج من كتابات عربية وإسبانية ذات الصلة بحرب الريف، يتعلق الأمر بكتاب « التاريخ السري لحرب الريف « لخوان باندو وكتاب « أسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي « لمحمد محمد عمر القاضي وكتاب « عبد الكريم والحماية « لخوسي ماريا كامبوس وكتاب «عبد الكريم والأسرى للويس دي أوتييثا وكتاب « في خندق الذئب «لماريا روسا دي مادارياغا، وهو نفس الكتاب الذي اهتم بمناقشة مضامينه عبد الرحمان الطيبي في دراسة تحليلية مستقلة. وفي باب « متابعات «، نجد دراسة لجمال حيمر حول الاستيطان الزراعي بإقليم مكناس، وأخرى للجيلالي كريم حول الزاوية التاغية بابن أحمد، وثالثة لروبير ريكار وترجمة لسمير بوزويتة حول هجرة اليهود المغاربة إلى أمريكا الإسبانية والبرازيل. وبهذه المواد التنقيبية الدقيقة، استطاعت دورية « أمل « أن تضيف قيمة علمية رفيعة لرصيد منجزها الإعلامي المتخصص، بعد أن راكمت أعمالا تأسيسية في عددين سابقين حول قضايا حروب الريف التحريرية، بشكل جعلها تتحول إلى أهم منبر علمي وطني رفيع المستوى، أصبح قاعدة لتنظيم الاشتغال الأكاديمي على تلاوين الذاكرة التحررية لمغاربة الأمس واليوم.