إن مشكلة غياب التلميذات و التلاميذ – التسرب الجزئي والمؤقت والقصير المدى_ عن المدرسة من أهم المشكلات التربوية، لأنها تؤثر في غيرها من المشكلات مثل الرسوب وغيرها . ونعني بها التوقف المؤقت والمتكرر للطالب عن المدرسة بصورة غير طبيعية. ونستطيع القول بكثير من التأكيد أن فعل « الغياب « في صفوف التلاميذ و التلميذات عن الفصول الدراسية، بات يعرف مسارا « خطيرا « و مقلقا عما كان عليه بالأمس القريب، و أمسى ظاهرة تستوجب التوقف و التأمل و البحث و التقصي.. لكونها فرضت نفسها بقوة بدلالاتها الرمزية العميقة في الآونة الأخيرة، في وقت أصبح المتتبع للشأن التربوي يلمس اهتماما بالغا و « مبالغا فيه « بمسألة غياب الطرف الآخر من العقد البيداغوجي؛ الأمر يتعلق بالمدرس (ة)، في شكل إصدار مذكرات وزارية تشير بأصبع الاتهام إليه بحجة أنه المسؤول عن هدر الزمن المدرسي و بالتالي بات لزاما تأمين هذا « الزمن « وفق خطة تقتضي تدخلات مختلفة الجوانب، تسعى إلى تمكين المتعلمين و المتعلمات من حقهم الكامل في التربية و ضمان استفادتهم من الحصص الصفية المبرمجة و مختلف الأنشطة الداعمة المرتبطة بها في ظروف تربوية مناسبة. يفيد غياب التلميذ عن المدرسة؛ عدم تواجده بها خلال الدوام الرسمي المعلن عليه في استعمال الزمن، أو جزء منه ، سواءً كان هذا الغياب من بداية اليوم الدراسي ، أي قبل وصولهم للمدرسة أو كان بعد وصوله للمدرسة والتنسيق مع بعض زملائه حول الغياب ، أو حضوره للمدرسة والانتظام بها ثم مغادرته لها قبل نهاية الدوام دون عذر مشروع. وإذا كان غياب التلميذ في بعض الأحيان بسبب مقبول و مبرر لدى أسرة التلميذ، كالغياب لأجل مهام منزلية بسيطة كالأعمال المنزلية المفروضة أحيانا على الفتيات بوجه خاص أو بسبب عوامل صحية يمكن التغلب عليها أو بسبب عوامل أخرى غير ذات تأثير قوي ولكن يجدها التلميذ فرصة للغياب ، فإن ذلك لا يعتبر مقبولاً من ناحية تربوية لأن تلك الظروف الخاصة يمكن التغلب عليها ومواجهتها بحيث لا تكون عائقاً في سبيل الحضور إلى المدرسة التي يفترض أن تكون مدرسة « مضيافة « Ecole conviviale. من نافلة القول أن ظاهرة غياب التلميذات و التلاميذ عن المدرسة و الحصص الدراسية من الظواهر النفسية والتربوية والاجتماعية الهامة، لذلك، و كأي ظاهرة من الظواهر اللاتربوية، وجب تحديد الأسباب الكامنة ورائها و رصد للدوافع الرئيسة التي تسهم في تفشيها، ثم البحث عن الحلول و البدائل الكفيل بعلاجها و التصدي لها. الاسباب والدوافع لانتشار ظاهرة التغيب عن الدراسة أولاً؛ العوامل الذاتية و هي عوامل تعود للتلميذ (ة) ذاته و تتجسد في: شخصية التلميذ (ة) و تركيبته السيكوعاطفية و ما يمتلكه من استعدادات و قدرات و ميولات تجعله لا يقبل على العمل المدرسي و لا يتقبله؛ مما يستدعي تدخل علم النفس المدرسي. الإعاقات Handicaps أي جميع أنواع القصور أو العجز المصاحب لعاهة معينة؛ صحية أو نفسية، و التي تصاحب الطفل/المتعلم و بالتالي تمنعه عن مسايرة الجماعة الصفية التي ينتمي إليها، فتجعله موضع سخرية، فتغدو المدرسة بالنسبة إليه مكانا غير مرغوب فيه. الرغبة في تأكيد الاستقلالية و إثبات الذات؛ ففي مرحلة المراهقة مثلا يسعى المراهق إلى السير وفق ما يملي عليه عقله و قلبه و ليس ما يمليه عليه الغير. و نفس الشيء أشار إليه Kant.E حين عرف مفهوم الاستقلال الذاتي Autonomie مرادفا لمفهوم استقلال الإرادة. و من ثم تطفو في السطح مظاهر الاستهتار و العناد في صفوف التلاميذ و كسر الأنظمة و القوانين التي يضعها الكبار ( المدرسة و المنزل ) و التي يلجأ إليها كوسائل ضغط لإثبات وجوده. ثانيا؛ العوامل المدرسية و هي طبيعة تعود لطبيعة الجو المدرسي و النظام القائم و الظروف السائدة التي تحكم العلاقة بين عناصر المجتمع المدرسي من مثل؛ عدم سلامة النظام المدرسي و تأرجحه بين الصرامة و القسوة و سيطرة العقاب كوسيلة للتعامل مع التلاميذ و التلميذات أو التراخي و الإهمال و عدم توافر وسائل الضبط المناسبة. سيطرة بعض أنواع العقاب بشكل عشوائي و غير مقنن، كممارسات تقليدية من قبيل كتابة الواجب عدة مرات أو ما يسمى في المدرسة المغربية ب « العقوبة « و الحرمان من بعض الحصص الدراسية و التهديد بالإجراءات العقابية كما يقع في الإعداديات و الثانويات مثلا.. و يؤكد ( دوركايم ) بشكل عام أن العقوبة Punition تقوم على إعادة الشيء إلى أصله، و على وضع الشيء في موضعه الصحيح، و على إعادة بناء الربط الاجتماعي و سلطة القواعد. أما كما أن الوزارة الوصية على قطاع التعليم المدرسي بالمغرب بينت في مذكرة وزارية؛ أن العقاب البدني لا يمكن أن يكون وسيلة تربوية ناجعة لتعديل السلوك بسبب الآثار السلبية التي يتركها في نفسية التلميذ، سواء على المدى القريب أو البعيد، والحقد الذي يمكن أن يتولد لديه تجاه المدرسة والمدرسين، مما يخلق أحيانا ردود أفعال مختلفة ضدهم من طرف الأطفال وأوليائهم، فالعقاب البدني ينبغي أن يستخدم في مجال التأديب لا التعليم، و التأديب في اللغة يعني « التهذيب و المجازاة «, و كل إفراط في تعنيف الممارسة الصفية يؤدي إلى نتيجة واحدة و وحيدة هي؛ الغياب ثم يتطور هذا الفعل من « الفردي « إلى « الجماعي «، ليتخذ بعد ذلك منحى آخر كالانحراف و الانحلال الاجتماعي . عدم الإحساس بالحب و التقدير و الاحترام من قبل عناصر المجتمع المدرسي حيث يبقى التلميذ قلقا متوترا فاقدا الأمن النفسي و هو أهم بكثير من أمن الزمن المدرسي. شعور التلميذ بعدم إيفاء التعليم لمتطلباته الشخصية و الاجتماعية؛ كما يقع مثلا بمؤسساتنا التعليمية المغروسة في قمم الجبال بالوسط القروي حيث يجد التلميذ نفسه في عالم غريب بعيد كل البعد عن واقعه الذي يعيشه يوميا كإشكالية ازدواجية اللغة على سبيل المثال لا الحصر، حيث أكدت مجموعة من الأبحاث في مجال « ثنائية اللغة (Bilingualism)» أن اللغة الأجنبية تؤثر على اللغة الأم خاصة في سن مبكرة، كما أن عملية اكتساب و تطور اللسان Langue عند الطفل تؤثر فيها عوامل عدة؛ كالتطور الذهني العام و التفاعل الاجتماعي ، و هو الأمر الذي أصبح يشكل قلقا بالنسبة للممارسين البيداغوجيين الذين يجدون أنفسهم أمام وضعيات ديداكتيكية – لسانية – سوسيوثقافية جد معقدة، و بالتالي نفور « منطقي « للتلميذ و غياب « حتمي « له من أجواء المدرسة، سواء كان الغياب جسديا أو ذهنيا، فالأمر سيان. عدم توفر الأنشطة التربوية الكافية و المناسبة لميول التلميذ و قدراته و استعداداته تلك التي تندرج ضمن التنشيط التربوي و ما له من دور في تحقيق النجاح المدرسي حيث يساعد في حفظ التوتر لدى التلميذ و تحقيق المزيد من الإشباع النفسي. كثرة الأعباء و الواجبات المنزلية حيث يعجز التلميذ عن الإيفاء بمتطلباتها و ذلك في غياب تام لاحترام إيقاعاته البيولوجية و استراتيجياته المعرفية الخاصة و نوعية الوسط العائلي الذي ينتمي إليه. وقد اختلفت آراء التربويين حول أهمية و فائدة الواجبات المنزلية، فهناك من يتحمس إليها و هناك من يوصي باستبعادها. و على أي فالإفراط في إثقال كاهل التلميذ بواجبات منزلية فقط من أجل التخفيف من العمل البيداغوجي الرسمي المنوط بالمدرس داخل الحجرة الدراسية، يؤثر سلبا على نفسية الطفل و بالتالي يجعله يفكر في عدم الحضور إلى المدرسة خوفا من التأنيب الذي سيناله من قبل المدرس إن هو لم ينجز الواجب كاملا, ثالثا؛ العوامل الأسرية وتتمثل في طبيعة الحياة المنزلية والظروف المختلفة التي تعيشها والروابط التي تحكم العلاقة بين أعضائها ، ومما يلاحظ في هذا الشأن ما يلي: اضطراب العلاقات الأسرية وما يشوبها من عوامل التوتر والفشل من خلال كثرة الخلافات والمشاجرات بين أعضائها مما يشعر الطفل/التلميذ بالحرمان وفقدان الأمن النفسي. و تزخر الأدبيات السيكولوجية بالدراسات التي تناولت أساليب المعاملة الأسروية و علاقتها بنمو الشخصية و توافقها النفسي الاجتماعي. و كلها تؤكد أهمية المعاملة الأسروية الايجابية المبنية على الحب و التفهم و التقبل و المرونة في بناء شخصية الطفل و تحقيق الصحة النفسية، كما تبين كذلك الآثار المدمرة لأساليب التربية الأسروية الخاطئة كالرفض و النبذ و القسوة و الجمود في شخصية النشء. ضعف عوامل الضبط و الرقابة الأسرية بسبب ثقة الوالدين في الأبناء أو إهمالهم و انشغالهم بالمشاكل اليومية و بالتالي ترك الفرصة للأبناء لاتخاذ قرارات فردية غالبا ما تسهم في الرفع من وتيرة غياباتهم عن الحصص الدراسية و تزج بهم في براثين الحرمان و البؤس الاجتماعي. سوء المعاملة الأسرية والتي تتأرجح بين التدليل والحماية الزائدة التي تجعل الطفل/التلميذ اتكالياً سريع الانجذاب وسهل الانقياد لكل المغريات وبين القسوة الزائدة والضوابط الشديدة التي تجعله محاطاً بسياج من الأنظمة والقوانين المنزلية الصارمة مما يجعل التوتر والقلق هو سمة الطفل/التلميذ الذي يجعله يبحث عن متنفس آخر بعيد عن المنزل والمدرسة. عدم قدرة الأسرة على الإيفاء بمتطلبات واحتياجات المدرسة ، وحاجات الطفل/التلميذ بشكل عام ، فرغم أن البرنامج الاستعجالي الذي تراهن عليه الوزارة الوصية على قطاع التعليم المدرسي ببلادنا اتخذ بخصوص مواجهة المعيقات السوسيواقتصادية للتمدرس مجموعة من التدابير الرامية إلى ضمان تحقيق تكافؤ الفرص في ولوج التعليم الإلزامي المتجسدة في المبادرة الملكية ( مليون محفظة )، و برنامج ( تيسير ) للدعم المادي المباشر للأسر إلا أن الأسرة المغربية تجد نفسها دائما مكبلة بلوازم إضافية تحت إغراءات السوق خصوصا بالوسط الحضري، مما يدفع التلميذ لتعمد الغياب منعاً للإحراج ومحاولة للبحث عما يفي بمتطلباته . رابعا؛ عوامل و أسباب متفرقة..صحية و نفسية وجد الباحثون في هذا المجال أن أهم الأسباب الصحية المؤدية إلى غياب التلاميذ يعود إلى سوء الحالة الصحية ، والشعور بالصداع نتيجة الانتباه لفترات طويلة في الفصل وعدم كفاية دورات المياه ، ولم يلاحظ الباحثون فروقا ذات دلالات إحصائية بين الجنسين في الأسباب الصحية ، وربما تكون هذه الأسباب نتيجة عدم تفعيل الوحدة الصحية المدرسية بالدرجة الأولى، و يكفي الإشارة إلى الدفتر الصحي الذي يعتبر وثيقة أساسية في ملف التلميذ حيث تركنه معظم إدارات المؤسسات التعليمية دون أدنى مراقبة، و ناذرا ما يتم ملؤهه بالمعلومات الطبية الخاصة بالتلميذ، و هذه حقيقة بائنة. كما يمكن الإشارة إلى أسباب نفسية مرتبطة بغياب التلاميذ والتلميذات عن المدرسة، فهناك أسباب يرجع بعضها إلى سوء توافق التلاميذ مع أنفسهم أو مع زملائهم في المدرسة أو مع مدرسيهم تعكس صورة القلق عند التلاميذ و من أمثلة ذلك؛ خوفهم الشديد من الامتحان و التردد عند اختيار الأجوبة المناسبة. الآثار السلبية للظاهرة كثيرة هي مظاهر الآثار السلبية لظاهرة غياب التلاميذ و التلميذات و يمكن اختصارها في النقط التالية: تأخر التلميذ دراسياً مما يؤدي به إلى الرسوب وكره المدرسة والانقطاع عنها؛ تطور ظاهرة الغياب من غياب لاإرادي إلى ما يسمى ب « نزعة التغيب المدرسي « Absentéisme scolaire كما أشار إلى ذلك الدكتور عبد الكريم غريب؛ غياب التلميذ قد يكون عبئاً على المجتمع ومصدراً لكثير من المشاكل؛ فشل التلميذ و تعثره دراسيا ثم في الحياة اليومية بطبيعة الحال، فلا غرابة حين يصادف مدرس تلميذ الأمس القريب ماسحا للأحذية أو مساعدا ميكانيكيا.. وهو في سن مبكرة. غياب التلميذ يسبب هدراً لكثير من المواد التعليمية والتي تنفق عليها الدولة الكثير. تفشي الجهل والأمية، و هذه الأخيرة هي من أخطر المشاكل التي تواجه الدول النامية في الوقت الحاضر، و تشكل خطرا دائما على شعوبها. لم يعد مستساغا في مغرب اليوم التغاضي عن فتح نقاش واسع حول آفة غياب التلاميذ و التلميذات، فآثارها السلبية واضحة تجعل الممارسة الصفية تتردى في دوامة « اللافعالية «. و مهما كانت مظاهرها فالنتيجة غير مرضية و تحتاج إلى صياغة إجراءات صارمة للحد منها و التقليل من سلبياتها عبر حلول ناجعة و بدائل مناسبة و اقتراح برامج علاجية مواتية. * أستاذ باحث في علوم التربية في الجزء الثاني : معالجة الظاهرة بين التتبع و الصرامة