صدر مؤخرا عمل جديد لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في شكل جزء ثان من كتاب “لمع من ذاكرة القصر الكبير”. وللاقتراب من محددات السقف العام لهذا العمل، نقترح إعادة نشر نص التقديم الذي كان لنا شرف وضعه لهذا الإصدار الجديد. يقول التقديم: هل يمكن كتابة التاريخ الثقافي المحلي الراهن لمدينة القصر الكبير، بدون تكريس عودة متجددة لقراءة رصيد منجز جمعية البحث التاريخي والاجتماعي؟ وهل يمكن القبض بتفاصيل التميز الهوياتي للمدينة بدون إنجاز التقييمات الضرورية لحصيلة تراكم هذه الجمعية؟ وهل يمكن فهم تحول أنساق العطاء المعرفي والثقافي والفكري للمدينة بدون استثمار منجزات أطر الجمعية وباحثيها؟ وقبل كل ذلك، هل يمكن كتابة التاريخ المحلي المجهري لمدينة القصر الكبير بدون استثمار نتائج سلسلة المنشورات التي أشرفت عليها الجمعية منذ انطلاق تجربتها مع عوالم النشر والتوثيق عند مطلع تسعينيات القرن الماضي؟ وأخيرا وليس آخرا، ألم يعد من الواجب أن نحسن قراءة القيم العميقة للوضع الاعتباري الذي أضحى لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي، ليس –فقط- داخل وسطها المحلي الضيق، ولكن –كذلك- داخل امتدادات تأثيراتها الثقافية والمعرفية الجهوية والوطنية، وأحيانا الدولية الواسعة والمتشعبة؟ لقد كنت دائما منبهرا لحيوية عمل هذا الإطار العتيد في اختراق عوالم النشر وتعميم المعارف التاريخية والعلوم المرافقة لها، في سياق عام غير مساعد ولا قادر على احتضان الأصوات المؤثرة والذوات الفاعلة. ففي ظل انتكاس آليات التأطير الجمعوي “الكلاسيكي” الموروث عن عقود النصف الثاني من القرن 20، برز اسم هذه الجمعية كنموذج فريد، استطاع نحت الكثير من معالم الخصب والتوهج داخل محيط لا يعمل -في الغالب الأعم- إلا على تدجين التجارب وعلى تمييع المبادرات وعلى إجهاض الأماني والانتظارات من وراء جهود بلورة ممارسة جمعوية راشدة، قادرة على التخلص من يقينيات المرحل “الستالينية” بحمولتها المغربية الفاقعة لدى النخب المدنية، وعلى التأصيل لنموذج “آخر” استطاع أن يعيد الاعتبار للكثير من قيم العمل الجمعوي الأصيلة، وأن يجعل من هذه القيم رافعة لكل مشاريع التنمية الثقافية المحلية المنشودة. هي ممارسة هادئة لكنها مؤثرة، بطيئة لكنها عميقة، متريثة لكنها موجهة، تستند إلى خصوبة الماضي من أجل التأثير في الحاضر وتطويع المستقبل. باختصار، هي نموذج للفعل الجمعوي المجهري الذي استطاع أن يجعل من هوس البحث التاريخي مجالا رحبا للتأمل وللبحث وللتفكيك وللاستيعاب، ثم للاستثمار في كل مشاريع النهوض. وما صدور هذا العمل الجديد إلا تكريس لمسار المجرى العام الذي دأبت الجمعية على نحته بالكثير من عناصر الصبر والأناة والتضحية، وقبل ذلك بالكثير من عناصر الحب لهذه المعشوقة التي سكنت قلوب مريديها ومحبيها وعشاقها، مدينة القصر الكبير، حاملة مجد أبيدومنوفوم، وحافظة سر معركة وادي المخازن، ولواء الإبداع والعطاء الحضاريين لكل المنطقة الشمالية الغربية لبلاد المغرب. يتعلق الأمر بلمع منتقاة بعناية فائقة، ساهمت بها أسماء وازنة لها صيتها الوطني الواسع في المجالات الأكاديمية والإعلامية والثقافية المغربية الراهنة. هي أعمال سعت إلى الوفاء “للخط التحريري” العام لمنشورات الجمعية، من خلال التركيز على تجميع البيبليوغرافيات المحلية، والتعريف بالمواد الوثائقية، وتقديم الدراسات القطاعية التاريخية المتخصصة، ورصد التحولات المجالية، والاحتفاء بعناصر الإبداع المحلي في مستوياته المتداخلة مثل الشعر والسرد والمسرح والصورة الفوتوغرافية والمعمار… وقد نجح الأستاذان محمد أخريف ومحمد العربي العسري،بإشرافهما على تنسيق مجموع المواد، في تدعيم الأفق العام لرؤى الجمعية، الأمر الذي جعلها تكتسب مصداقية أكيدة داخل المشهد الثقافي الوطني الراهن. ولا أدل على ذلك، قيمة الأسماء التي ساهمت في هذا العمل الجديد، أسماء معروفة بريادتها الأكاديمية وبمبادراتها الثقافية، سواء على المستوى المحلي بمدينة القصر الكبير، أم على المستوى الوطني الواسع. ويتعلق الأمر بكل من الأساتذة محمد الخشاني، وعبد السلام القيسي، ومحمد أخريف، ومحمد القاضي، وأحمد الخاطب، وأسامة الزكاري، وعبد المجيد المصباحي، ورشيد العطار، ورشيد الحور، ومحمد العربي العسري، وعبد الباري المريني، وهشام الغرباوي، وأبو الخير الناصري، ومصطفى الشريف الطريبق، ومحمد يعلى، وأحمد بن عبد العزيز بنعبد الله، والزهير جبيلي، والفقيه محمد المرير التطواني، وحسن أوريد، وعبد الله كنون، وعبد القادر الطود، عبد الرحمان الشاوش، وسعد الدين الطود، وفوزي الرفاعي، وإبراهيم الإلغي، ومصطفى يعلى، والشريف المهدي المجول، ومحمد سعيد المرتجي. هذه “لمع” القصر الكبير التي نحيى بها، ولنصنع من خلالها معالم البهاء الثقافي وصفات السمو الحضاري الذي طبع وجه المدينة، بعد أن جعلها منارة للعلم وللمعرفة وللعطاء المتجدد، بالأمس واليوم.