استطاع المؤرخ والباحث محمد أخريف تطوير تراكم منجزه التنقيبي في خبايا ماضي مدينة القصر الكبير، بإصدار الجزء الرابع من كتابه « القصر الكبير: وثائق لم تنشر «، وذلك خلال الأسابيع القليلة الماضية ( 2012 )، ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في ما مجموعه 256 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويشكل العمل الجديد إضافة هامة لجهود تجميع المادة الخامة الضرورية والمؤسسة لكل التوجهات العلمية، سواء منها المونوغرافية أو القطاعية، الخاصة بماضي مدينة القصر الكبير، بعمقها الإقليمي والجهوي وبامتداداتها الوطنية الواسعة. ونكاد نجزم أنه لا يوجد عمل تجميعي وتصنيفي لوثائق المدينة ولتراثها الإثنوغرافي والسوسيولوجي، يمكن أن يوازي الأجزاء الأربعة للكتاب المذكور لمحمد أخريف. فباستثناء الدراسات المجهرية والتنقيبات الميدانية التي طورتها السوسيولوجيا الكولونيالية الفرنسية، والمرتبطة خاصة بأعمال كل من ميشو بيلير وجورج سالمون داخل مؤسسة « البعثة العلمية الفرنسية بالمغرب «، وباستثناء دراسات متفرقة هنا وهناك، لا يستطيع باحث اليوم أن يتجاوز أعمال الحاج محمد أخريف وتنقيباته الممتدة في الزمن والموصولة بخيط الوفاء للمدينة ولرموزها ولأعلامها ولتطوراتها الحضارية والتاريخية الكبرى. ولد الحاج محمد أخريف بأهل سريف سنة 1946، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدينة القصر الكبير، ثم الثانوي بمدينة العرائش، قبل أن يلتحق بمدينة الرباط لمتابعة دراسته الجامعية حيث حصل على شهادة الإجازة في التاريخ سنة 1976، كما حصل على شهادة الراسات المعمقة في التاريخ بجامعة مدريد سنة 1998، بموازاة مع تشعبات مساره المهني كأستاذ بمدينة الناظور ثم بمدينة القصر الكبير، وتقلبه في عدة مسؤوليات إدارية أنهاها مديرا للثانوية المحمديةبالقصر الكبير إلى أن أحيل على التقاعد سنة 2006. وقد عرف الحاج أخريف بحيويته وبنشاطه الكبيرين داخل المجالات السياسية والجمعوية، وذلك من خلال اضطلاعه بمهام نائب رئيس المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير ( سابقا )، ومن خلال رئاسته لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بنفس المدينة، ثم من خلال عضويته ومبادراته داخل عدة جمعيات محلية ومشاركته في العديد من الندوات العلمية ذات الصلة بماضي مدينة القصر الكبير وبتحولات واقعها الراهن. وبخصوص الكتاب موضوع هذا التقديم، فقد سعى فيه المؤلف إلى استكمال الحلقات المقطوعة في سلسلة تنقيباته السابقة في ذخائر الوثائق الدفينة للمدينة وفي مختلف التعبيرات، المادية أو الرمزية، لتراثها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكذا في رصيد الرواية الشفوية التي أضحت مهددة بالاندثار بفعل عوادي الزمن ورحيل الكثير من الفاعلين المباشرين في الوقائع وفي الأحداث والذين لم يخلفوا ? في الغالب ? ما يشهد على عطائهم وعلى إسهاماتهم. وقد قسم المؤلف عمله بين ثلاثة أجزاء متكاملة، اهتم في أولاها بتقديم رصيد هائل من الوثائق الدفينة، وانتقل في ثانيها إلى تقديم بعض المخطوطات المرتبطة بالعطاء الثقافي والحضاري للقصر الكبير، واهتم في ثالثتها بتجميع رصيد هام من مكنونات الرواية الشفوية المتداولة في المدينة. ففي القسم الأول، قدم المؤلف رصيدا نفيسا من وثائق مدينة القصر الكبير، بعد أن قام بتصنيفها في إطار قطاعي، ساهم في تيسير سبل الاطلاع عليها وتوظيفها من طرف الباحثين والمتخصصين. ويتعلق هذا التصنيف والضبط والتحقيق بقضايا متنوعة توزعت بين الحياة الدينية والأدبية، وتجارب المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، وتحولات التاريخ السياسي المعاصر لمدينة القصر الكبير ولعموم منطقة جبالة، وتحولات الواقع الاجتماعي، وتطور حقل عطاء الحياة الفنية والإبداعية، وببعض قضايا شؤون بلدية المدينة، وبتنظيمات الأنشطة الصناعية والتجارية وتغير الأسعار، وبقضايا تأهيل التعليم لاضطلاع خريجيه ببعض الوظائف بالمدينة وعلى رأسها خطة العدالة وخطة التدريس، وأخيرا ببعض الامتيازات الاعتبارية التي كان يستفيد منها بعض شرفاء المدينة وأعلامها وزواياها. وفي القسم الثاني من الكتاب، أدرج المؤلف تعريفا وافيا بأربعة مخطوطات محلية أصيلة تكشف عن عمق البعد العلمي في عطاء الذاكرة التاريخية لمدينة القصر الكبير، يتعلق الأمر بمخطوط « فتح الملك المجيد لنفع العبيد وقمع كل جبار عنيد « ومخطوط يشرح صفات الرسول ( ص ) والصلاة المشيشية، ومخطوط يتضمن مناقب الشرفاء الوزانيين والعلماء وقصة النبي يوسف عليه السلام، ثم مخطوط يتضمن دروسا في تفسير القرآن الكريم للعلامة عبد القادر الساحلي. وفي القسم الثالث والأخير من الكتاب، اهتم محمد أخريف بتقديم تجميع هام لرصيد الرواية الشفوية المحلية بمدينة القصر الكبير، ذات الصلة بتطوراتها السياسية وكذلك ببعض موروثاتها الإثنوغرافية المميزة، مثلما هو الحال ? على سبيل المثال لا الحصر ? مع علاقة الأستاذ عبد الخالق الطريس بخالد الريسوني وفق رواية المرحوم الغالي الطود، أو مع النتائج الاجتماعية للحرب الأهلية الإسبانية كما صورتها الأزجال الشعبية في بوادي القصر الكبير، أو مع تراث أزجال المدينة وأمثالها ومحكياتها الشعبية وطقوسها وعاداتها الاجتماعية المتوارثة. وفي كل هذه القضايا، ظل الحاج محمد أخريف وفيا لمنطلقاته الرصينة في التجميع وفي التدوين وفي التصنيف وفي الاستنطاق، الأمر الذي جعل من اجتهاداته موادا مرجعية لا غنى للمؤرخ المتخصص عنها في كل محاولات الاشتغال على تفكيك البنى المؤسساتية والاجتماعية والرمزية المتوارثة عن وقائع الماضي العريق لمدينة القصر الكبير. وبتواضع العلماء الكبار، ظل الحاج أخريف يصر على ترك المجال مشرعا أمام كل إمكانيات التطوير والتخصيب والإغناء، بل والتصحيح كلما اقتضى الأمر ذلك. في هذا الإطار، يقول موضحا هذا الأفق : « الوثائق في بعض الأحيان ... لا تمثل القول الفصل، ولهذا يجب التحري والتأني في الأحكام المرتبطة بأية وثيقة ... فكتابة التاريخ أو تحليله من الصعوبة بما كان، ولا ندعي لنفسنا ما ليس لغيرنا، ولكننا اتخذنا منهجا جديدا في محاولة بداية كتابة هذه المدينة، وتصحيح ما اعتراه من أخطاء، معتمدين على الوثائق بمختلف انواعها سواء التي اكتشفناها، أو التي اكتشفها غيرنا، إضافة إلى الوثائق والمصادر الأخرى، بعد إخضاعها نسبيا لما أشرنا إليه أعلاه، ومع ذلك سيبقى عملنا واستنتاجنا قابلا للتغيير والتبديل كلما ظهرت اكتشافات أالاتناتنالآنتالانتأو وثائق جديدة تثبت العكس، لا الأقوال والحكايات ... « ( ص ص. 9 ? 10 ). لاشك أن الأستاذ والمؤرخ محمد أخريف، بما عرف عنه من قدرة كبيرة على الوفاء لانشغالاته العلمية المرتبطة بالبحث في تاريخ مدينة القصر الكبير، سيكون قادرا على استكمال حلقات مشروعه التوثيقي الرائد، بصعوباته وبمشاقه، بمعاناته وبتضحياته. ففي ذلك أسمى وفاء لنبل الانتماء للمكان ولرموزه التاريخية المميزة، وقبل ذلك فالجهد المبذول في هذا الإطار يساهم في التأصيل لمنطلقات البحث الرصين في تحولات ماضي مدينة القصر الكبير العريق، وفي إبدالات نظمها المعيشية والذهنية الراهنة.