صدر خلال الأسابيع القليلة الماضية من السنة الجارية (2011) كتاب «تاريخ المغرب المريني وحضارته «، لمؤلفه الأستاذ محمد الشريف، في ما مجموعه 238 صفحة من الحجم الكبير، وذلك ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. ويعد هذا الإصدار الجديد إضافة متميزة لرصيد المنجز العلمي والأكاديمي الذي راكمه الأستاذ محمد الشريف على امتداد سنوات العقدين الماضيين، وذلك من خلال جملة من الإصدارات التأصيلية المتخصصة في تحولات تاريخ المغرب الوسيط، وتحديدا حلقات التاريخ المريني والوطاسي والتي تغطي المرحلة الممتدة - بوجه عام - بين القرنين 13 و15 الميلاديين. وقد توج هذه الريادة بسلسلة من الإصدارات المجددة، التي توزعت بين تحقيق المتون العربية الإسلامية الغميسة وترجمة الكتابات الإيبيرية الدفينة وإنجاز الدراسات التصنيفية المتخصصة في تاريخ بلاد الغرب الإسلامي، أي بلاد المغارب الثلاث والأندلس، خلال المرحلة المشار إليها أعلاه. من بين هذه الإصدارات، يمكن أن نستشهد - على سبيل المثال لا الحصر -بكتاب « سبتة الإسلامية : دراسات في تاريخها الاقتصادي والاجتماعي «، وكتاب « التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي «، وكتاب « المغرب وحروب الاسترداد «، وتحقيق كتاب « إثبات ما ليس منه بد لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمد «، لمؤلفه أبي العباس أحمد العزفي السبتي، وترجمته لكتاب « ملاحظات حول تاريخ يهود سبتة في العصور الوسطى «، لمؤلفه إينريكي غوزالبيس كرابيوطو، وإشرافه على تنسيق مواد كتاب « المغرب والأندلس : دراسات في التاريخ والأركيولوجية «، ... إلى غير ذلك من الأعمال الرصينة التي أغنت المكتبة الوطنية الخاصة بتاريخ المغرب الوسيط، سواء على مستوى تطوراته التاريخية الكبرى أو على مستوى تحولاته المجالية المميزة أو على مستوى عطائه الحضاري الواسع والمتشعب. وفي كل ذلك، استطاع الأستاذ محمد الشريف أن يترك بصماته الواضحة على رصيد المنجز الوطني في مجال حقل دراسات تاريخ المغرب الوسيط، بالنظر لصبره العميق في التنقيب عن المظان الرئيسية، العربية الإسلامية والإيبيرية، وفي قدرته على تطويع مضامين الإسطوغرافيات التقليدية المتوارثة، وفي استيعاب عمق التحولات التي عرفها مجال دراسة التاريخ الوسيط، ليس فقط على الصعيد الوطني، ولكن - كذلك - على المستوى العالمي. لذلك، يعتبر انفتاحه على اللغات الحية وتنقيبه في المصنفات المدونة باللغات الأجنبية قيمة مضافة، جعلته يتمكن من الإمساك بأطراف الخيط الرابط والناظم للمنطلقات الممكنة / والمفترضة لعطاء الدراسات التقابلية والمقارناتية بين رصيد الكتابات العربية الإسلامية من جهة، والإيبيرية والأجنبية من جهة ثانية، ثم بين رصيد المنجز الراهن المرتبط بتطور مناهج الدراسة التاريخية المعاصرة المتخصصة، داخل المغرب وخارجه. لكل ذلك، استحق الأستاذ محمد الشريف أن يتحول إلى مرجع لا يمكن تجاوزه بالنسبة للمشتغلين بإبدالات تاريخ المغرب الوسيطي، إلى جانب رواد البحث العلمي الأكاديمي الوطني الذين أغنوا هذا المجال خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، من أمثال المرحوم الفقيه محمد المنوني، والمرحوم محمد زنيبر، والمؤرخ محمد القبلي، ... والكتاب موضوع هذا التقديم، يندرج في سياق هذا الجهد الممتد في الزمن الذي يميز المسيرة العلمية الرائدة لمحمد الشريف، تنقيبا في النصوص الأصلية، وتشريحا للاجتهادات وللتخريجات الكلاسيكية والمجددة، وتركيبا للمعطيات في سياقات نسقية تختزل مجمل المسارات المميزة لتاريخ المغرب الوسيط. ولقد حدد المؤلف الإطار العام الذي انتظمت فيه مضامين الكتاب في كلمة تقديمية جاء فيها : « ترك العصر المريني من الآثار الاجتماعية والمعطيات الثقافية العامة ما سوف يحدد معالم المغرب الأقصى في العصر الحديث ... بيد أن الوجه المشرق لبني مرين يتجلى بالخصوص في الميادين العلمية والثقافية والعمرانية، فقد خلفوا من المنشآت الدينية، والمؤسسات العلمية أو الاجتماعية، ما لم تخلفه دولة من دول المغرب قبلهم ولا بعدهم ... وقد ضمنا هذا الكتاب دراسات تاريخية تتناول بعض أوجه التواصل الحضاري للمغرب المريني مع الخارج، وكذا قراءات نقدية لبعض الإصدارات الإسبانية تهم جوانب مغيبة في دراسات المؤرخين المغاربة والعرب عموما، كما طعمناه بنصوص تاريخية معبرة عن البنيات الإدارية، والمنجزات الحضارية للمرينيين بصفة عامة ... « (ص ص. 5 . 6 ). تتوزع مضامين كتاب «تاريخ المغرب المريني وحضارته «بين أربعة أبواب متكاملة في قضاياها السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بتاريخ دولة بني مرين، وهي القضايا التي كانت - في الأصل - موضوع محاضرات علمية ألقاها المؤلف برحاب كلية الآداب بتطوان، وعززها برصيد ثري ومتنوع من البيبليوغرافيات المتخصصة ذات الصلة بالموضوع. وتغلب على مجموع هذه المواد سمة التحليل التركيبي الذي يتجاوز منطلقات الاستقراء الحدثي للوقائع والاجترار التنميطي للتفاصيل، إلى الغوص في أعماق منغلقات الإسطوغرافيات المتوارثة، قصد الكشف عن الخلفيات ومقارنة الروايات واستنطاق مكونات بنية النص التقليدي في إطار تركيبي يساهم في إعادة تجميع عناصر الدراسة وفق رؤى مجددة ذات نفس علمي أصيل. في هذا الإطار، احتوى الباب الأول المعنون ب «محاضرات في تاريخ المغرب المريني «، على دراسات تفصيلية حول بداية المرينيين، استنادا إلى مجموعة من العناصر الارتكازية في التقييم وفي التصنيف، اهتم أولاها بتتبع مراحل التوسع القبلي بمنطقة غرب بلاد المغرب، وتتبع ثانيها سياقات انتقال المرينيين من الطور القبلي إلى الطور السياسي، وركز ثالثها على الامتدادات الخارجية لتحرك المرينيين وخاصة بالمنطقة المغربية وببلاد الأندلس، ورسم رابعها أبعاد الإطار الجيوتاريخي والاقتصادي لتطور المغرب المريني. وفي الباب الثاني المعنون ب « قراءات نقدية لمؤلفات في التاريخ المريني «، أدرج المؤلف سلسلة تأملات فاحصة في كتابات علمية متميزة اشتغلت على تاريخ الدولة المرينية، وعلى رأسها كتاب « ورقات عن حضارة المرينيين « للمرحوم محمد المنوني، وكتاب « المجتمع والسلطة والدين بالمغرب نهاية العصر الوسيط « ( بالفرنسية ) لمحمد القبلي. كما أدرج في نفس الباب دراسات تعريفية بالنقوش وبالكتابات العربية التي تحتويها « المدرسة الجديدة « بمدينة سبتة، وكذا بمدينة « البنية « التي شيدها المرينيون ببلاد الأندلس. وفي الباب الثالث المعنون ب « مباحث في تاريخ المغرب المريني «، اهتم المؤلف برصد مظاهر التواصل الحضاري بين المغرب المريني وغرناطة النصرية، وكذا دور الجالية المغاربية ببلاد السودان الغربي في التفاعل الحضاري بين ضفتي الصحراء، ثم دور مؤسسة الأحباس في تنمية المؤسسات التعليمية بالمغرب، وأخيرا تقييما عاما للسياسة الضرائبية للدولة المرينية. وفي الباب الرابع والأخير من الكتاب والمعنون ب « المغرب المريني من خلال النصوص «، فقد أدرج المؤلف موادا انتقائية من نصوص مصدرية أصيلة تؤرخ لمختلف مظاهر تطور الدولة المرينية ونظم حكمها وبنياتها الإدارية المرتبطة بالقيم الحضارية التي خلفتها هذه الدولة، مثل المنشآت العمرانية والتعليمية والبنيات الإدارية والعسكرية والدينية والثقافية والنقدية... وبهذه المواد الثرية والمتنوعة، أضاف الأستاذ محمد الشريف قيمة مضافة لرصيد التراكم الأكاديمي المرتبط بتحولات منطقة الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط. ولا شك أن هذا العمل، بما احتواه من عناصر الصرامة العلمية وضوابطها الإجرائية المعروفة، يظل أرضية مشرعة للكثير من الأسئلة المتناسلة عن مختلف النتائج التي انتهى إليها الأستاذ محمد الشريف في هذا العمل. ويقينا إن مجمل هذه النتائج تستند إلى عناصر القوة الضرورية، منهجيا ومعرفيا، من اجل التأصيل لشروط استيعاب عمق التحولات الشاملة التي عرفها المغرب المريني، في علاقة ذلك بمختلف مكونات الدولة والمجتمع المغربيين لمرحلة القرنين 13 و14 الميلاديين أولا، ثم بمجمل أوجه التفاعل الحضاري التي كان يحبل بها المحيط المغاربي والإيبيري والمتوسطي الواسع من جهة ثانية.