لا يمكن العبور عينا أو فكرا على الساحة الثقافية المغربية والعربية الآن ؛ دون أن يلفت نظرك اسم هذا الرجل المسمى « عبد الحميد الغرباوي « الوسيم والأنيق . وقد تتساءل ، حين تراه مغيرا بعينيه خلف غليونه . من هو ؟ ولأية مهمة يصلح ؟ . لكن ، حين تقترب منه ، ولو قليلا ، ستراه على حكاية ، بل هو الحكاية ضمن المساحة الحرة القلقة . فلنقترب قيلا على صراط من بياض ، ونلعب كما إخوة يوسف غير الحقودين ، مع هذا الطفل الذي لا يشيخ . يهمني أكثر على هذه الحافة ، دم الكتابة : كيف تشكل ؟ واختار مجراه ؟ . لا بد هنا ، أن نقر أن الكاتب عبد الحميد الغرباوي متعدد الاشتغال والاهتمام بحقول أدبية وفنية ، تغذت على الكثير من الروافد الإيصالية والتواصلية . منها أولا انخراطه في الإعلام الورقي منذ منتصف السبعينات من القرن السالف كمشرف على الصفحة والملحق الثقافي لجريدة البيان . فالرجل بهذا ، قدم الكثير من الأصوات الإبداعية التي غدت فيما بعد أقلاما محترمة وأقداما للركض أيضا . والهام وعلى صلة ، أن ذلك ساهم في دمغ وتطوير تجربته السردية آنذاك . الكاتب الغرباوي لم يتخشب أو يتقوقع في الإعلام الورقي كما آخرين ، بل ساير وانفتح على الإعلام الإلكتروني إلى أن أصبح فاعلا في مساحاته بشكل كبير . يكفي أن نذكر مواقع أسسها أو ساهم في عطائها : واتا ، منتديات ميدوزا ، المحلاج ، أوتار شعرية .. بهذا ، فالرجل دخل هذه النوافذ للتواصل الفعال أولا وأخيرا ، ولتعبيد مسافات المقروء ،عوض الاستسهال الذي طال الفضاء الافتراضي . الكاتب عبد الحميد يحكي باستمرار ، وهو الأصل ، في كتابة القصة أو الرواية أو القصيدة ، بل اللوحة التشكيلية ..هكذا سيعلن عن مجيئه سنة 1988 بمؤلف قصصي بعنوان « عن تلك الليلة أحكي « ، وتتوالى المجاميع القصصية والرواية وبوتيرة أسرع ، نذكر تمثيلا فقط : « برج المرايا « ، عري الكائن « ، نون النسوة ، « « راس الخيط « ، لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك :» عزف منفرد على إيقاع البتر « ...وامتد الاهتمام لأدب الأطفال ، بل للترجمة الأدبية أيضا . أظن أن هذا التعدد ، يفيد أولا في تشكيل إبداعي مدغوم بكل تجليات الأدب والفنون . فلا بد من إحساس فوار ، ومقروء ثر ، واستغوار تأملي ، وتراسل حواس ، وامتداد بصر ، وزوايا نظر...وتعلم أن الأمر لا يتحقق بالثقل المادي المرصوص ، بل بتلك القدرة والمقدرة التي تحول الجسد إلى فراشة تتنقل بين حقول عدة برشاقة وخفة مهندسة ، في حفاظ على طبقات الزجاج في المجاز . الكاتب عبد الحميد لا يشتغل ضمن تلك الحقول بسذاجة غافلة ، بل في إثارة للأسئلة الحارقة ، في متابعة لمنعطفات أنواع الكتابة . أي الوعي بالامتداد والتحول في النوع الأدبي ، منها على سبيل التمثيل القصة القصيرة جدا التي يعتبرها اغتيالا للحكي ، لأن النقد طبل لها ، إذا لم يتم الاعتراف بصعوبة تشكيلها الجمالي . في هذه الحدة العميقة ، يقر الكاتب أن كل مؤلف هو محطة في مسيرته لها قلقها وأسئلتها . وبالتالي ، فالكاتب لا يراكم الأغلفة دون إضافة ولا خصوصية ، بل التجارب وتنوع الأسئلة . أما عن خصائص الكتابة السردية عند هذا الرجل ، فتتمثل في المفارقة التي تسعى إلى الاشتغال على التفاصيل ، والغريب في المعيش اليومي . قصد تمرير أفكار كبرى حول التهيكلات والكليات ، بنفس ساخر يتخلق بين الواقع والمتخيل ، استنادا على لغة لا تتوغل إلا بمقدار دون تجريب أعمى يخرب بلا بناء ولا معنى . من هنا ، فنصوصه تسمح بحد كبير من المقروئية . لكن التأمل فيها ، يجعلك تدرك بساطة الرجل التي تنثر القلق حبة حبة إلى أن يشتعل الاشتباك . وهو أهل لفرقعة أية رمانة ولو على رأس صاحبها . أريد التأكيد هنا ، أن الحضور الأدبي بهذا الحجم والشكل ، يواكبه حضور الكاتب هنا ..هناك للملتقيات أدبية على لغطها ، ليقرأ قصصه ، ويدلي بكلماته الصغيرة التي تثير الفتن الجميلة من أجل القليل من المعنى ، عوض الخبط والتيه الجماعي أحيانا . فتجربة الكاتب المتنوعة ، تنم عن مراس حقيقي ، وتجذر لا يمكن التنكر له . لهذا ، لا أفهم الحيف الذي يطارد هذا الرجل . ولكن الاعتراف والإنصاف مرتبط بفضاء ثقافي مليء بالعقد والتراكمات الفردية والموضوعية . لا تكترث ياعزيزي عبد الحميد فالنقد لا يحفز ولا يحبط كما تقول . ولكنه يشهد إذا أراد الانتصار لحقيقة الأدب غير الآنية ولا المؤدلجة . بعد هذا المتحصل ، أتصور هذا الرجل الدائم العطاء والاشتغال ، أنه لا ينام إلا واقفا أو مفتوح العينين باستمرار في أحواض الساحرات . يأتي بهيا متدفقا لأغلب ملتقيات الأدب ، وأحيانا أتصوره يسكن غليونه ، في مداعبة بتلك الأصابع التي تكتب لناره الهادئة . وأحيانا على هامش أحد الملتقيات الوطنية في القصة القصيرة جدا ، تجاذبنا بعض أطراف الحوار حول الكتابة القصصية بين الامتلاء والفراغ ، بين قمتها وحضيضها ، ، واصفا النقد بسوق جهلاء ، فالتبست النصوص وتشابهت إلى حد التكرار المقيت . وبعد عودتي لبيتي ، أعدت النظر في الكثير من مجاميع الكاتب عبد الحميد . وسألت نفسي في ركن قصي : لماذا تأخرت في الكتابة عن الكاتب المغربي الأصيل عبد الحميد الغرباوي ؟؟ .