كلما حلت هذه المناسبة الوطنية عادت بي الذاكرة إلى نهاية صيف سنة 1975 . كنت ساعتها تلميذا في السنة النهائية من التعليم الثانوي ، كما كنت على أهبة السفر إلى مدينة الفقيه بن صالح حيث أدرس بثانوية الكندي . أذكر أنني اجتزت مرحلة صعبة ، لأنني كنت أرغب في المشاركة كأصدقائي ، إلا أن الفرق بيني ، وبينهم هو أنهم ليسوا في وضعيتي . انقطعوا عن الدراسة ، وانصرفوا لشؤون الغيم والأرض .كانت الحماسة الوطنية في أعلى مستوياتها ، كما أن البعض تتوهم بفعل الإشاعة أنهم سيرثون تركة الاستعمار، ويغتنون. أيقظ انتشار خبرالمسيرة الخضراء الناس في الأرياف من معتادهم اليومي ليصبح حكاية تروى على كل لسان . تعددت الروايات والأحاديث عن هذه المسيرة إلى أن شارفت عتبة الأسطورة ، فانطلق الخيال الجامح بالكثيرين إلى تصور مجرى حياتهم ، وهم يستقرون في الصحراء بعد طرد المستعمر، ووضع اليد على تركته . ساهم الفقر، والجهل بالمعطيات الصحيحة ، وشح السماء في تلك السنوات إلى تغذية هذا الحلم . كنت حائرا بين أمرين : الالتحاق بثانويتي، وبأصدقاء الدراسة ، والاستعداد لاجتياز امتحانات الباكالوريا ، أو الالتحاق بالراغبين في المشاركة في هذا الحدث التاريخي العظيم . كنت أرغب في المشاركة ، لأن مثل هذا الحدث الوطني الكبيرقد لا يتكرر، وبغض النظرعن الحماسة الوطنية ، كنت أرى في الذهاب مع الذاهبين تجربة حياة ، وانطلاق إلى أفق آخر، قد تتحقق فيه كل الأحلام . من جهة ثانية كانت نفسي تحدثني بأن الأمر برغم الواجب الوطني مغامرة باتجاه المجهول على المستوى الدراسي ، خاصة أننا لا نعرف المدة الزمنية التي سيستغرقها هذا الحدث ، والذي شجع على الاقتناع بهذه الفكرة هو انتشار فكرة البقاء هناك في الصحراء بعد طرد المستعمر. هكذا فهم الكثيرون ، أوعلى الأقل تلك الجماعة النائية التي أنتمي إليها وراء الجبال ، كنت أخشى الانقطاع عن الدراسة لسبب من الأسباب ، لذلك قررت أن ألتحق بأساتذتي ، وأصدقائي ، وزملائي في الثانوية ، وكلي حماس وعزم من أجل التفوق والنجاح . ربما عدم المشاركة في المسيرة هو من شحذ ذهني على اليقظة والحزم والاجتهاد ، ولو لم أحصل على شهادة الباكالوريا في لندمت كثيرا على عدم المشاركة في المسيرة . أرعش خبر المسيرة سكان باديتي ، وخلخل رتابة أيامهم ، وما ألفوه من أعمال ، وأحاديث . أصبحوا بقدرة قادر، وفي وقت قياسي كائنات سياسية بحيث غابت شؤون الأرض ، والطقس ، والماشية من أحاديثهم نهارا، ومن مسامراتهم حول موقد النار ليلا ، ليتم طيلة أسابيع التركيز على الحديث عن المسيرة ، ومصدرهم الوحيد في الحصول على المعلومة هو ما يصدر عن القيادة من أخبار تنتشر بين الناس عن طريق البَرَّاح أيام السوق الأسبوعي ، وبواسطة أعوان السلطة من شيوخ ومقدمين . كان الراديو أيضا مصدرا للخبر، إلا أن هذا الجهاز العجيب ليس متوفرا لدى الجميع، وكان الذين يتوفرون عليه يجتهدون في التقاط الأخبار، وتزويد غيرهم بها كما وصلت إلى أسماعهم ، أو كما تهيأ لهم ، كما كان منهم من يريد لخبره أن يكون شيقا ، فيعمل على إضافة بعض التوابل ، فيشرع بذلك في الخروج بالخبر من الحقيقة إلى المجاز ، ومن اليقين إلى الإشاعة. كان المحاربون القدامى في هذا المجال فرسان الكلام ، وكان الإنصات إليهم بكل الجوارح، وبما يكفي من اندهاش، لأنهم جابوا القفار والأصقاع . خبروا الحياة ، وحروبا عدة اشتعلت في أكثر من بلد في العالم ، وعادوا سالمين ، أو معطوبين ، وكل رأسمالهم من تلك الملاحم أمجاد يروونها للأبناء والأحفاد . كانت الحرب جزءا من كيانهم النفسي ، لذا كان منهم من توقع حربا ضروسا بين المغرب وخصومه ، بدعوى أن دكتاتور إسبانيا لن يسلم الصحراء بهذه البساطة . لم يكونوا على علم بأن حاكم إسبانيا آنذاك يواجه اللحظات الأخيرة من حياته ، وأن ملف الصحراء لم يعد بين يديه . كانت السيناريوهات التي توقعوها هي أن المغاربة إذا دخلوا حربا كسبوها ، خاصة أن إسبانيا آنذاك ليست أحسن من المغرب قوة وعتادا ، وحتى إذا افترضنا أنهم أقوى منا عتادا حربيا يقول بعضهم فإننا بلا شك أقوى منهم استعدادا للتضحية بالروح والجسد ، لأننا أصحاب الأرض ، ومن مات من أجلها كان شهيدا. « كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله «. جملة أثيرة لذا الفقيه الذي كان لا يبخل بها عليهم كلما انضم إلى جمعهم . أكثر الفقيه من ذكرهذه الجملة المقدسة الصادرة عن الخالق لنصرة أصحاب الحق ، كما أكثر من الدعوات من أجل حل سلمي لهذه القضية . قوي الوازع الديني والوطني في تلك الأيام التي شابها التوتر والتوجس بسب انتظار ما ستؤول إليه الأمور، لأن لا أحد كان يتوقع رد فعل العدو بما في ذلك قائد المسيرة ملك البلاد ، الذي حزم حقائبه استعدادا للمنفى في حال ما إذا فشلت المسيرة ، ولم تحقق أهدافها . المسيرة الخضراء بقدر ما هي لحظة وطنية وكونية باذخة ، فإنها أيضا لحظة جمالية أثمرت مجموعة من روائع الأغنية الوطنية ، التي واكبت الحدث ، وكان السبب في ذلك هو أن كاتب الكلمات ، والملحن والعازف والمغني كلهم ألهبت مشاعرهم الحماسة الوطنية وهزتها من الأعماق ، فأبدعوا بكل صدق ، لذلك حقق كل ذلك الرِّبِّرْطْوار من الأغاني نجاحا جماهيريا باهرا ، خاصة أن تلك الأغاني كانت تؤدى بشكل جماعي في كورال من ألمع المطربين ، الشيء الذي أضفى على تلك الأغاني نفسا ملحميا استطاع بجرعاته العالية حماسة أن يخترق مسام الكينونة والجسد . ذلك الربرطوار ألذي نسعد بسماعه كلما جددنا الاحتفال بذكرى المسيرة . بالإضافة إلى كل إنجازاتها العظيمة ، كانت المسيرة الخضراء وما تزال تغذي الشعور الوطني،وحماسة الانتماء . هذا الإحساس الذي لا يضاهيه بهاءً وجلالا أي إحساس آخر.