« الموت نوم بدون أحلام » سقراط بالأمس دفنا أعظم امراة في الكون، كان نداء الوجود يناديها , و الشمس التي رافقتنا تركت لها كل الاشياء العزيزة على قلبها ما عدا تلك الذكريات المشتركة , انبثقت من الارض حين وضع جثمانها كالنور في حفرة صغيرة , ثمة سر ظل غامضا مثل كل الاسرار الجميلة التي حملتها امي معها , لانها شغوفة بالامل تترك الافكار الى ان تنضج , ولذلك حرمتنا من مذاق تلك التاملات الصامتة , ربما يكون شغفها بالحياة وراء صمتها , وربما ان الفرح الماساوي كان هدفها فانها تختار احد الايام في الاسبوع للتعبير عن هذا الفرح , ولعل يوم الثلاثاء الذي كان مخصصا للسوق الاسبوعي , من حيث هو احتفال يمتزج فيه الفرح بالماساة ,فالتاجر و الفلاح ستقبلانها بحرارة ,مما يجعل امي تتردد في بيع محصولها الاسبوعي , ومع ذلك كانت ثقتها عمياء في مولاي بويه الذي يستقبلها بابتسامته الماكرة , من اجل ان تسلمه زبدة بقرتها مبروكة مقابل مبلغ زهيد لا يكفي للتسوق . فلنسرع الخطى ونتعقب خطى الزمان , لانه لا يريد الانتظار , وحين اسالها مندهشا دهشة الاطفال الى اين تقودينني ؟ تنظر الي مبتسمة ثم تشير باصبعها الى بائع السمك المقلي اسمه باعبد القادر , الذي كان ياخذ السمك من الصندوق و يفرغه ويضعه في الدقيق ليرميه بنعومة في مقلات كبيرة ممتلئة بالزيت المحترق بالنار اشاهد كيف تحترق السمكة في جحيم دانتي , بيد ان حدة الجوع تجعلني التهمها بدون تحفظ , ولا اعرف ثمن هذه الوجبة كل ما اعرف ان امي كانت مبتهجة . كانت امي شغوفة بالحياة ,عاشقة لصيرورة الوجود مثل هيراقلطس, ولذلك لم تهدا ابدا فمن مكان الى مكان يتحدد مصيرها , انا واثقة بانها تحب السير قدما باتجاه عتمة الطفولة , منصهرة في احلامها , فضوء الصباح الاكثر صفاء يقضي الى الغروب الروحاني للمساء , والفجر نفسه مساء في بداية للزمان , اذ تستيقظ في الفجر باستمرار , ويوم السوق , كما في يوم عيد تتزود منه كما لو كانت تتزود من سوق الجنة , لان فواكهه لا يتذوقها الا ابن عربي وامي . قد يكون هذا التوهج المنبثق من الزمن الممزق الذي ينساب كالرمال في الصحراء كلما شعرت بالاغتراب الابدي , هو ما يجعل التامل في الحنين يغرق في المقدس , لكن في راحة ما هو ميت نتذكر صمت الموت , فاقول , الروح في غروب مقبرة سيدي غريبة , لانها كانت تحب الجميع حتى الاعداء تجد لهم الاعذار , لانه حين اقول لها لا تشتري الخضر و الفواكه من هذا الشخص فقد خضعنا في الاسبوع الفارط , تقول هو نفسه كان ضحية مثلنا .ثمت من يحفظ ذكرى ما يميل الى النسيان , كذلك خطى امي تخلف صدى مشعا , انها لم تصبح بعد في وضع ثابت , لان وجهها سيظل مشرقا في قلبي كالشمس , روحها مدعوة الى الافول , بيد انها لن تشعر بالاغتراب , بالرغم من اقامتها الابدية في سيدي غريب , فلا احد يعرف من هو هذا الغريب الذي مات هناك ودفن وسميت المقبرة باسمه , الروح في الحقيقة ستظل غريبة في هذه الارض , ولعل بقوة حدسها الباطني اشترت بقعة من الارض في حي شعبي يسمى سيدي غريب , فهل كانت ترغب في اقامة شعرية و ميتافيزيقية على هذه الارض؟ ام كان هدفها ان تدفن مع هؤلاء الغرباء الذين يرعاهم سيدي غريب ؟ منذ طفولتي و انا المدلل عند امي , كلكم ابنائي , لكن عزيز عزيز على قلبي يسكن في اعماقه , معه اشعر بان الحياة مبتهجة , لاننا معا سمعنا نشيد القدر , هكذا كنت استغل حبها لي لارفع سقف المطالب , الى درجة انها تطبخ الطعام لكل العائلة , وطعامي وحده مميزا, ولا تهتم بالاحتجاج المهم هو ان اكون سعيدا.وكلما عدت من المدرسة اجدها تقاتل من اجلي , لم يكن الفقر يساعدها , ومع ذلك تسعى الى الكمال , فكم هو رائع ذلك المنظر الجميل للمائدة , حيث الفلفل المقلي في الزيت يقترب من البطاطس و الطماطم وتنيرهما سلاطة الخيار المخلل , وتلك القطع من الخبز الحافي , بيد ان احتجاجي كان يلوث فرحها , لانني اريد السمك وشرائح اللحم و الدجاج . فهي لا تستطيع ,الا في يوم الثلاثاء عندما تبيع زبدة مبروكة, اواه ايها الادمع المحننات في عيناي هل تذكرين كيف كانت امي ترضى على احتجاجي وتحاول ان تساعدني , من اجل ان اقتسم معها المعاناة, بيد ان روح الثورة اقتحمتني و بدات اتعلم الفكر الثوري على هذه المسكينة , ولذلك فان جميع اخواني كانوا يبكون من شدة فراقها , اما انا فكانت دموعي تسيل , اذ كيف ساصبح بعد فراقها , فهي وطني ومصدر سعادتي ,لانها تستطيع ان تبقى جائعة لاكل انا . انها ترقد الان في بلاد الغريب لانه الاقرب الى الفجر , ولذلك ستشعر بحسن الجوار, وحين احن اليها ساتساءل ,اي طريق سيقودني اليك ؟ هل انت هناك بالفعل ؟ هل انت سعيدة كما كنت اراك في سوق الجنة ؟ اتذكرين تلك العربة التي تنقلنا الى السوق وناكل السمك , ونشتري اللحم و الخضر و الفواكه البسيطة ثم نعود ؟ اتذكرين حين سقطت جمهورية افلاطون في البئر خطا وقمت بتجفيفها ورقة ورقة ؟ وهل كان سقراط ينظر اليك ؟ فالانسان يرحل عندما يحين الاجل , بيد ا نامي لم ترحل , بل انتقلت من منزلها الى منزل الابدية في المكان الذي يرعاه هذا الغريب و بقدرتها على المقاومة و سلوك سبيل الفضيلة اجدها حاضرة معي هنا و الان ,فانا اكتب كل ما تمليه , الكتابة تسير من اليمين الى الشمال , و روحها تنزل من السماء الى الارض , مشعة كنور الفجر الذي يمزق جسد الليل , وبما ان روحها تشتعل , فهي لم تمت , بل تحيا في قلبي كما لو ولدت من جديد , فالحياة بدونها ستفقد نشوتها . ولكن في اي موت دخلت ؟ واين يقع قبرها ؟ هل في الابدية ؟ ام في الزمنية ؟ مهما يكن فراقك صعبا , فانك ستظلين ينبوعا منفجرا بمياه عذبة وكانها تحمل مذاق الجنة . انت الوجود الذي لا يمكن للزمان ان يمزقه , معا سنقضي عليه بالكتابة وسنجد في الميتافيزيقا كل الدعم , الى اللقاء في سوق الجنة. بين الغيوم يتراءى لي اسمها . ثمة اسماء كثيرة تحيل على الحياة وتنقل الى الوجود الابتهاج , ومع ذلك فانها تموت لكي تزهر قبل ان يضيء الصباح , فنداء امي هو نفسه نداء هنية بدعة تتسلل الى قلبي لتستقر فيه , وحين يسقط المطر على قبرها تلدها الارض من نسغها , لقد تحولت الى شجرة مثمرة , وانا لست الا ثمرة من ثمارها . علمتني امي كيف احاور نفسي من اجل ان اتعلم قواعد الحوار مع الاخرين لانها تدرك بان الحوار هو ان نسمع بعضنا البعض وكانها كانت تعرف هولدرلين الذي قال ذات يوم , (( منذ ان كنا حوارا وكان باستطاعتنا ان نسمع بعضنا البعض الاخر )) ومعنى ذلك ينبغي ان نمنح للاخر الحق في الصمت , هكذا قد حت في عقلي شرارة التفكير الفلسفي مند طفولتي , ولولاها لما توجهت نحو نعمة الفلسفة . الحياة موت والموت حياة لعبة الوجود و العدم، وبما ان الزمان طفل يلعب بالنرد، فانه يلعب بنا ايضا، ولذلك فانه يختار في كل يوم احد الضحايا، و ربما ان الحظ العاثر لامي كان هذا المساء الذي تسمع فيه اصوات المصير . حبا بالحياة حولت الغمام الى سكنى ولم يعد يروقها الاستقرار في الارض التي تعتبرها مجرد قصيدة بلا عنوان , او كما تقول اسطورة تتوارثها الاجيال وقد ورتثها امي عن جدتي التي تحكي عن ولادة الارض من السماء , ولذلك فهي تطعمها بالماء حتى لا تموت و الشاهد على ذلك انه حين يهطل المطر , ويسقط الثلج تتجدد الطبيعة و يولد الانسان . فثمة حكاية عن نزول ادم و حواء من السماء الى الارض , من اجل تجربة الموت , فالاكل من شجرة المعرفة خطا كلف الانسانية ثمنا باهضا . ولولا هذا الخطا لما ماتت امي . فالتفاحة و الانسان محميان في الخطوة التي تدبر السماء و الارض وتعطي ما يدوم , بيد ا نامي بحضورها المدهش , وبعشقها للابدية كانت تتامل السماء باستمرار , وكانها تطلب منها حماية الارض , ولذلك كانت تغرس الاشجار المثمرة وتنتظر الثمرة الى ان تنضج لتصدر حكمها , وحين يكون طعمها لذيذا تبتسم لتعبر عن اعجابها , لكن حين لا يعجبها المذاق تفكر في غرس شجرة اخرى , فعشقها للدوالي و الكروم كان اقوى . تنتظر واثقة من المستقبل , ما ستعطيه اشجارها من ثمار لتوزعها على الجيران بالمجان , فالمحصول كان وافرا في هذه السنة , ولذلك قامت باضافة بعض الاسماء الى اللائحة , وبما انني كنت كاتبها الخاص , فقد اسجل اسماء اصدقائي .