يا أماه لمَ تركتيني وحيدا، بين أغوار الضياع؟! و رحلت بعيدا من غير وداع؟! صرت بعد رحيلك أتمشى؛ في الشوارع والأزقة، أبحث عنك بين عيون كل النساء..! وأنت يا أبتي لمَ طلقت أمي ورميتني في ممرات الجحود؟! لأصبح لقيطاً، أتجول في المدينة رفقة المتشردين! هم يتسولون الرغيف والقروش، وأنا أتسول الحب والحنان والعاطفة، أبحث عن حضنٍ يرعاني وينقذني من الإهمال، ويحنّ عليّ ويمدني بالحنان، وفجأةً ألقاه في صدرٍ غريب، فأرمي بجسدي الصغير بين حضنه العفن، فيأخذني في رحلة قصيرة؛ إلى غابة مجهولة، ولا أدري ما يصيبني، وأي مصيرٍ يجابهني، وحين أدرك ما يحدث لي، يكون قد فات الأوان. فأبكي دموعاً باردة و أنزف دماءً حارة، أصرخ صرخات عالية، ليردد صداها الأثير، وترتعش شراييني من الوجع، فتنتفض روحي، لتتناثر في الهواء، كي تعانق أسوار الأماني المنفية. وهناك على تلك الأرض الصفراء، شهدت عذابي النباتات الخضراء، و الأشجار و الأحجار و طيور النورس.. وحلقت الغربان في سمائي، تردد لعنات ممزوجة بالوجع. وأسأل نفسي، أترى لو كانت هنا أمي؟ أترى لو كان هنا أبي؟ كيف ستكون ردة فعلهم حول كل ما جرى لي، هل سترق قلوبهم لحالي..! يا رب ما ذنبي أن أكون لقيطاً؛ ولي أبٌ وأمٌ بالمدينة، يعيشان في متاعٍ وهناء، وأنا أحيى في متاهة الروح والذات...! أعود من الغابة الملعونة؛ إلى شوارع المدينة، أمشي فيها، حافي القدمين بخطوات بطيئة، أعبر الأزقة إلى أن أصل بيتك يا أمي الحنونة. أدق الباب لأشكو لك مصابي الأليمَ، وما لحق بي من الغريب، فيفتح لي زوجك الجديد، ويقول لي اذهب يا ابن الحرام! ليس لك مكان في بيتي... وأحاول اختلاس النظرات عبر فتحات الباب لعليَ أراك، لكن يا أسفاه! لقد آثرت حياتك من دوني، وانشغلت بمولودٍ جديد.. أترك بيتك و الزقاق ورائي، وأجر قدماي خيبةً وأرحل إلى بيت والدي، أطقطق بيدي الصغيرة الباب، فتفتح لي زوجتك يا أبتي، لتقول لي يا ولد، أذهب إلى أمك المعتوهة! فبيتي ليس فيه مكان للمتشردين، وأناديك يا والدي بصوت مبحوح، إني صغيرك الضعيف، احمني من غربة أصابت وجداني وعلقتني في جسرٍ آيل للسقوط.. لكنك تصرخ و تطلب من زوجتك إغلاق الباب، و طرد المتسول الصغير.. أترك بيتك يا والدي، و أسير إلى محطة المدينة، كأني أساق للجحيم، و أشكوا حالي لرب العالمين، أبكي على سنين عمري،و ضياع طفولتي؛ بين أحضان الرذائل، وفقدان حلمي البسيط وبراءتي..! يا والديَّ -أقتلاني، أحرقاني، وادفناني حياً في حفرة من لهيب، لكن لا تتركاني مرمياً بين الأحياء المليئة بالنفايات المقززة، لأكون طعاما للذئاب الجائعة. أ و لست إنساناً ؟! أو ليس دمكما هو الذِي يجري في عروقي؟ وأصلي رفيقان جمعتهما ورقة بعد حب طويل. أم أني شبح رخيص تنويان الخلاص منه؟! يا والديّ- أما كان لكما أن تفكرا قبل إنجابي، أنّ حبكما الذي طال سنين قبل الارتباط، لن يستمر إلى الممات؟!! إلا أن تتحول بذرة حبكما، إلى شجرةٍ جذورها في جوف الأرض، و فروعها في السماء، ومذاق ثمارها طيبةً كي أقطفها بعد ميلادي..! وآ أسفاه على حالي! صرت بعد خروجي من أحشاءك يا أماه؛ عبءً ثقيلاً يقضّ مضجعك! وأنت يا أبتي لمَ كل هذا الجحود؟! قولا لي- أ أنا جرثومةً تخلصتما منها بعد الانفصال؟! و طفلاً ما كان عليه أن يولد، و لا كان عليه أن يكون..؟! أخبراني ما عليّ فعله؟! فقد مات الفرح داخلي، و اخترق البغض أحشائي، وأمنيتي الثأر من كل من أباد إنسانيتي و اختطف براءتي- و وحشا قابل للفتك بكل أهل المدينة. الآن لم أعد أعرف من أنا بعد الذي حصل! سلكت طريقاً مغمورا، مليئا بالأشواك وبقايا البشر، لأجمع الفتات، بعد أن سكنت جسدي آفات شتى، لأحيى غريباً و تائهاً عن دروب النور، في ضياعٍ أبدي...