اعتبر محمد بن عيسى رئيس مؤسسة منتدى أصيلة، في افتتاح الندوة الثالثة من ندوات جامعة المعتمد بن عباد أول أمس الجمعة، والتي اختارت مقاربة موضوع أرخى بظلاله على عالم اليوم، وساهم في تغيير كثير من المفاهيم المرتبطة بالنظام العالمي والعلاقات الدولية والقيم الإنسانية، موضوع العولمة، لكن من بوابة المستقبل أي ما بعد العولمة. ولفت بن عيسى في كلمته الى أن منتدى أصيلة كان سباقا الى طرح إشكالية العولمة منذ بداية التسعينيات قبل أن تتبلور ملامحها وتداعياتها على السياسة والاقتصاد والثقافة، طرح كان واعيا حينها بما يمكن أن يترتب عن هذا المفهوم الفضفاض مستقبلا، بعيدا عن موجات التقليد والموضات الإعلامية.وأشار بن عيسى الى أن العولمة أثرت سلبا على منظومة القيم والهويات ما أدى الى بروز تيارات شعبوية بالغت في انعزاليتها الضيقة، وفي إعلاء شعارات القوميات الضيقة، وهو ما يدفع اليوم، وبإلحاح، الى البحث واقتراح بدائل للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر في مرحلة جديدة تتجاوز الغايات الأولى المؤسسة لهذا المفهوم نحو أفق إنساني عالمي أرحب. محمد الأشعري الشاعر والروائي ووزير الثقافة الأسبق، انطلق في مقاربته من السؤال العريض الذي طرحته الندوة: «ماذا بعد العولمة؟»، مثيرا الانتباه الى أن طرح هذا السؤال ينذر بأن هناك أزمة حقيقية في هذا المسار الذي قطعه العالم منذ نهاية القرن الماضي الى اليوم، خصوصا بعد انتهاء مرحلة القطبية الثنائية وانهيار جدار برلين وما صاحب ذلك من ترويج إعلامي لفكرة انتصار الرأسمالية كنموذج سلمي تتحقق فيه قيم الحرية والتقدم الإنساني، وأن العولمة هي الأفق الوحيد الممكن أمام شعوب العالم لتجاوز آفات العالم القديم، فانتصرت بالتالي فكرة الكونية في مواجهة مفاهيم الدولة والأمة والكيانات الصغيرة. وأشار الأشعري الى أن هيمنة الكوني على المحلي، والتي أذكتها الآلة الإعلامية الموجَهة، كانت تهدف الى إقناع الشعوب بأنه لا مكان، ضمن هذا المعطى الجديد، للأمة أو البلد ، بل للكوكب كانتماء وهوية جديدة ومجال للعيش، وهو ما فرض، كنوع من القدرية العمياء، على الدول التخلي عن اختيارات شكلت لعقود شرطها التاريخي وهويتها الإنسانية. ورغم الدعوات والخطابات التي حذرت من مواجهة هذه الموجة بسبب القوة الجارفة التي أظهرتها في تذويب الأفكار والسياسة والثقافة والقيم، لاحظ الأشعري أن العولمة أصبحت اليوم عبوة ناسفة تنذر بتفجرها من الداخل، بالنظر الى كونها كانت تحمل منذ البداية أسباب هذا الانفجار في أحشائها، مشيرا الى أن المطلوب اليوم هو العودة الى المرجعيات الفكرية والسياسية المؤسِسة للقيم ، والبحث عن هوية نقية بعد فشل نموذج العولمة، واعتبارها قوسا انفتح وهو في طريقه الى الانغلاق ومجرد إفاقة من الوهم. وخلص الأشعري الى أن الإجابة عن سؤال البداية «ماذا بعد العولمة؟» تتطلب تشكيل تيار عالمي ينقذها لحل النزاعات التي تمزق عالم اليوم، وأولها القضية الفلسطينية وإيجاد صيغ للحق المتكافئ ، وتقليص الهوة التكنولوجية بين عالم أول يمتلك الذكاء ، وعالم يعيش على أنقاض إنجازات الأول. بدوره ربط ميغيل أنخيل مواتينوس وزير الخارجية والتعاون الاسباني سابقا، بين ظهور العولمة كمفهوم كوني والضبابية التي كانت تسم معالم العالم الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة، خصوصا داخل الاتحاد الأوربي الذي لم يكن وقتها يمتلك أدوات لتحليل هذا المستجدات، ولم يكن على استعداد لمرحلة تاريخية مشتركة بعد انتهاء فترة الثنائية القطبية بين المعسكرين الشرقي والغربي. ولفت موراتينوس الى أن تسارع الأحداث في هذه الفترة جعل الاتحاد الأوربي يبني آمالا عريضة في ما يتعلق بالسلم والديمقراطية والرفاهية بعد أن صار مطلوبا منه بحكم الواقع الجديد، تقديم بدائل تتماشى ومعطيات الألفية الجديدة. وهي البدائل التي انخرط فيها دوليا لكنها اصطدمت بانهيار النظام الجيوسياسي بعد أحداث11 شتنبر 2001 بأمريكا وتبعات الرد الأمريكي المتسرع، ما أدى الى انهيار نسق الأمن الدولي ومعه انهيار المنظومة الدولية المالية وسيادة الخوف وعدم الثقة، ما يدل على عجز واضح عن إعادة توجيه المستقبل والتشكيك في مفهوم العولمة ومناعة بنياتها الفكرية والمادية أمام صعود اقتصاديات ناهضة بكل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبروز قوة العملاق الصيني اقتصاديا، وتدخله في إعادة توجيه الخريطة العالمية بمعية القوة الكبرى أمريكا. وعكست مداخلة بينيتا فيريرو والدنر، رئيسة مؤسسة أورو – أمريكا والمفوضة الأوربية السابقة للعلاقات الخارجية وسياسة الجوار الاوربية، الأجواء العامة لظهور مفهوم العولمة داخل دول الاتحاد الأوربي التي كانت تمثل آنذاك نموذجا اقتصاديا واجتماعيا يغري الكثيرين، إذ صاحبت هذا المفهوم ضبابية وغموض، مشيرة الى أن قطار العولمة انحرف عن سكته وجعل العالم يعيش مرحلة مشوشة لا يمكن التكهن بمآلاتها مستقبلا. وشددت بينيتا على أن المغالاة في العولمة أدت الى ظهور تيارات شعبوية وسياسات حمائية لا تسهم بتاتا في التقارب بين الشعوب، مع ما شكلته أحداث الحادي عشر من شتنبر وتأثيرات الأزمة المالية ل 2008 من ضربة قاضية للداعين الى تبني هذا الطرح الكوني. وبعكس التحليلات التي تذهب الى ربط ظهور مفهوم العولمة بانتهاء مفهوم القطبية الثنائية، أشار سلمان خورشيد وزير الشؤون الخارجية والعدل سابقا بالهند، الى ان الحاجة اليوم تتطلب إعادة التفكير في عمق هذا المفهوم منذ بدايته خصوصا ما يتعلق بالجانب القيمي فيه حيث يتم تجاهل عولمة القيم الإنسانية. ولفت خورشيد إلى أنه رغم العديد من العناصر التي تشكل قواسم مشتركة في التقارب الحضاري، إلا أن التقارب الروحي لم يحصل بل حدث بالمقابل تصادم بين الحضارات بسبب صراع الأقطاب بعد الحربين العالميتين، وهو ما تبدى أكثر بعد أحداث 11شتنبر 2001. وأشار خورشيد الى أن التصادم لا يحصل بين الحضارات فقط بل قد يحصل داخل نفس الحضارة مقدما المثال بظاهرة الإرهاب، مضيفا ان انتهاء الحربين العالميتين لم يحسم الصراعات لكن ما حدث أن أساليب خوضها تطورت ، وأصبحت تتم عبر واجهات أخرى اذ ان النوايا لم تتغير لكن أصبحت تخاض بالوكالة، ليخلص في الأخير الى ان اليز الافتراضي الذي يشكل عصب العولمة لم يستطع خلق حوار ممتج معولم، وان ما يتداول مجرد خطابات أحادية لا تجد من ينصت إليها.