في تلك الظروف، لم تبال السيدة بالوشاح أكان يغطي شعرها أم كان مسافرا إلى روسيا. الليل بلا طعم. البيت بارد مثل قبر في أرض مثلجة، كانت ترتعد بشدة ليلة الوضع. لقد فقدنا آخر قُبلة دافئة لحظات قبل المخاض. القبلات مثل العزف على البيانو، لامعنى للعزف وأنت ترتجف. الأصابع تتلاشى على مفاتيح آلة العزف، ومع ذلك مَوْسَقْتُ لها بفمي، ولا أظن أنها كانت تتموسق لكلمات أغنيتي. كانت تحتاج إلى مزيد من الدفء في ليلة الحمل الأخيرة. مهنتي الأسرية الأولى أن أوفر لها الدفء. أسحب على جسدها لحافين وثالثا وأكثر. نَتَكَوْدَنُ معا تحت اللحاف. نحس ببعض الحرارة. أعرف أن الوضع لن يظل آمنا ودافئا طول الوقت. صرت أشعر بها وهي تتجمد. شيء مني في أحشائها سيخرج الليلة وسترحل روحي إليه قبل خراب العالم. انطلقت أبحث عن سيارة إسعاف. لم أكن مسعفا، كنت زوجا في الأربعين. لم أستطع النوم وزناد الواحدة ليلا فوق رأسي كمسدس كاتم. كل شيء نائم وصامت إلا الجروح لا تنام. إنها ليلة طويلة جدا تفصلنا عن غرفة جراحة النساء. في ردهة الانتظار، وضعت يدي على كتفها، لم تشعر بدفء اللمسة، كانت حواسها كلها ليست معي، كانت مع النزيف الذي بدأ يتدفق بشكل فظيع. صرختْ وهي تعتصر: من يحميني من النزيف. لقد تأخر الطبيب متعللا بأشياء لاتهمني. أجزم أنه لم يحضر كاملا، رأيته على شكل إنسان ثمل. لايبالي. الممرضة تطلب الدم لتعويض النزيف، وقبل ذلك إجراء اختبار ميتافيزيقي على الدم لاوجود له في صنافة الدماء الفيزيقية المعروفة، واختبار آخر على الضغط، وثالث لاكتشاف نسبة الحديد والذهب في الدم مع بقية المحتويات المعدنية الأخرى، وإطلاعها على نتائج الاختبار الآن وبسرعة. لحسن الحظ كانت دماؤنا أنا وزوجتي متوافقة، من فصيلة طين أزرق نقي، لامحتويات ولاثروات معدنية ولا خلايا أوكسجين مسروق. هذا ما كشفته تحاليل الدم، أما صور الأشعة فكشفت عن وجه الشبه الحقيقي بين ملامحي وبين ملامح النعجة «دولي» من شدة التعب والسهر تلك الليلة. عند حاجز الحراسة، بدأ السيكريتي يُكَحْكِح ويقول بعض الأشياء خارج الموضوع، فهمت مايريد بالضبط، يبحث عن تعبئة هاتف وسجائر وعبوة ماء وكيك أبيض وجبنة مالحة وعصائر وبانيني باللحم والبطاطس المقلية ونقود، هذا إن كنت أريد تسريع تسجيل دخولي من مركز التوزيع إلى قاعة التوليد. ليس هناك احتمالات أخرى، فقط توجد أوزاع آدمية هنا وهناك تتألم بلا اصطفاف. بعضهم مكتوف عند مكتب الإرشادات. انسللتُ من الخلف حارقا كل إشارات المرور والأسبقية وعلامات التشوير. كان أمامي رجل عجوز. غافَلته وقفزت أمامه مستغلا بطء حركته، يبدو الرجل قرويا بطيئا، تجاعيد وجهه تحكي عن انتظار طويل، ربما أعطاه طبيب القلب موعدا بالشهور حتى لايبقى على وجه الحياة إلا طويلو الأعمار من ذوي السبعة أرواح، الذين تشابهت طبائعهم بالشياطين والكلاب والخنازير وحشرات الرعب. هذه الأشياء لا أدري لماذا لاتريد أن تموت. وبدون مقاومة، استسلم الشيخ لقفزتي. كانت عيونه تحرقني، كأنها تقول سيأتي اليوم الذي سيقفزون عليَّ أنا الآخر. تأكد، سيحدث لك ذلك عندما ترتخي أطرافك ويكون جلدك مثل فلفلة مقلية. أنا لست هناك، كنت تائها. أمامي دقيقة لتقديم اختبار الدم. زوجتي تموت. أنا في عيون الشيخ رجل مجرم متهم قاتل وخائن، من المؤمنين بمصالحهم فقط. اخترقت قانون الصف. لكن ماذا أفعل غير ذلك، سأتصرف خارج القانون، مضطرا، لأحمي زوجتي من الموت. سأنقذ حياة الجنين من قوانين العلاج الخارجة عن قانون الإسعاف. حاولت احتضانها لإشغال منبهات الجسد وتشتيت تركيزه على موضع الألم. كان صوتها يسمع كسجين يعذب بالأشغال الشاقة. تئنّ. تحاول الصمود. طلقات الولادة تشبه مقصات التمزيق. لقّنتها صلوات الوداع مع لفافات أوراق نقدية تحسبا لقهوة الكائنات في غرفة العمليات. هنا لا تنفعك معهم لا صلاة وداع ولا شهادتان ولا شواهد عليا. كمَّدت لها كمية مُصَرَّفَة من أوراق الأربعمئات الصفراء مع وصية شفوية ستموت معها لو حدث أي خطأ طبي في مسالكها الحساسة المجروحة. في زنزانة الدماء، بحثت عن فصيلة الدم المناسبة خارج أوعيتي الدموية لكن دون جدوى. لقد انتهت الحصص، وحتى الليل يكاد ينتهي. ذبذباتي،اللحظةَ، خارجة خط الاتصال المباشر، أنظر فقط إلى بنوك الدم، بدت لي العبوات كما لو كانت محشوة بالمداد الأحمر والدم والرصاص، كانت معلقة فوق أشخاص ممددين على الأسرة ينتظرون فرصة الخلاص ولو بالرصاص وتهشيم الجماجم. ما فائدة هذه الجماجم الطبية التي تختفي تحت قبعات جراحية وبذلات بيضاء نظيفة مادامت جماجم أخرى تحتضر. في لحظة الشعور بالإذاية لن تتحكم بتصرفاتك. ستطلق الرصاص وستقتل نفسك وزوجتك وكل القابعين على أسرة المشفى بطلقة تخلص أرواح الجميع من مقصلة انتظار الطبيب. أسطوانة المسدس مثبتة على البؤبؤ المملوء مباشرة. القاعة في سكون جنائزي خانق. حفار قبور هو الآخر ينتظر الرصاصة لقلب الطاولة وتحويل الهدوء إلى تمرد على إدارة المَشفى، هكذا كنت أفكر. المهم عندي أن تزحف السيدة نحو مقبرة الولادة سريعا وليلتحف الآخرون بعدي رائحة الموت الآتية من رُفات حرب أهلية مُعلَنَة بقسم المستعجلات. ستتكيف ذاكرتهم عنوةً مع الموتى ورائحة الدواء الأحمر والكحول والصور المقززة لبقايا دماء وأشلاء عسيرة على الكفن والدفن، كانت منتشرة بطريقة عشوائية ولم تستطع أن تبتلعها البالوعات الكهربائية المُكلفة بتطهير أرضية المشفى. لكن المفاجأة كانت عندما رفضوا الاختبار بدعوى أنني متوتر وضغطي مرتفع. كان علي الانتظار إلى أن يبرد الضغط. لم ينته النزف. يوشك على مرحلة الخطر. لازالتْ تنزف بغزارة. تتلوى. تمشي. تقعد. تتكئ على الجدار. تبكي. تقطر. يداها المرتعشتان فقدت السيطرة على كفكفة الدموع والدم. كان الجنين أنثى، في اللحظات الأخيرة وقُبيل التبنيج بقليل، بدأت تتحرك بقوة، كأنها تنتفض لتخرج بسرعة. آخر ليلة لها في سجن التسعة أشهر، ترفس الجدار الذي يعزلها عن العالم بقدميها لتمزيق غشاء السجن، لتتحرر من الصمت، لتصرخ بكل حرية. تلك اللحظة التي لم تأت بعد، فقد كنا ننتظر طبيب البنج للبدء بعملية التوليد بينما هم يُماطلون وينتظروننا فقط للأداء.