تتوخى هذه الدراسة أن تكون مقدمة لنقاش و تأمل نريدهما دقيقين لفهم حقيقة حرب الغازات السامة التي عرفتها منطقة الريف (1921-1926) وأنواع الغازات المستخدمة وآثارها على المدنيين القريب والبعيد على السكان و على البيئة. فقبل سنة 1912 وهو العام الذي وُقعت فيه معاهدة الحماية، كان المغرب في وضعية مأزومة سياسيا واقتصاديا، ومقسما عمليا إلى كيانين شبه مستقلين هما بلاد المخزن و بلاد السيبة. وهو الانقسام الذي جلب اهتمام الاختصاصيين بشكل خاص. فعلى الصعيد السياسي، لم تكن السلطة المركزية الضعيفة، التي تواجه باستمرار احتجاجات وصراعات داخلية، قادرة على بسط نفوذها على كافة التراب المغربي. فقد كان الحكم عُرضة للصراع أو للاقتسام مع سلطان منافس، مُدع أحقيته على العرش عوض الجالس عليه، أو كان الحكم مقتسما بشكل ضمني مع القادة الحربيين لبعض القبائل. من هنا فإن سلطة السلطان أو المخزن لم يكن لها وجود فعلي سوى في المدن. أما في المناطق القروية، في الأطلس كما في الريف، فقد كانت مرفوضة بالخصوص بسبب الطبيعة القمعية والقهرية للحكم المركزي الذي كان المخزن الشريفي ممثلا فيه لجسم الدولة. كان المخزن يُنظر إليه كنظام عتيق تقليدي تحكمه مجموعة من القواعد غير المكتوبة تتعلق بالسياسة أكثر من القانون، وبذلك لم تكن لها أي مرجعية قانونية. وفي المقابل كانت الأراضي المتمردة بدرجة أو بأخرى على سلطة المخزن، تحتضن عموما قبائل بربرية تخضع لنمط حياة جماعية و تضامنية في مواجهة الغرباء. وفيها كانت الحرية تُرفع كنظام قيم مقدس، وهو ما جعلها تحمل، عن غير حق، إسم «بلاد السيبة» أي بلاد الفوضى واللانظام. و هي نظرة ذات نبرة إيديولوجية واضحة، تمتح من الكتابات السوسيولوجية الكولونيالية، التجارية منها والمالية و أخيرا العسكرية. في هذا السياق نلاحظ مسارين إثنين : يتمثل الأول في التهدئة على طريقة المارشال ليوطي، فيما يستند الثاني على اللجوء إلى القوة العسكرية التي تبناها المارشال بيتان. ومن هنا يلاحظ «دانييل ريفي» أن «التكتيك العسكري لليوطي تجاه الريف لم يصبح هجوميا إلا بعد أبريل 1925». على الصعيد الاقتصادي،كانت التشكيلة السوسيو - اقتصادية للمغرب ما قبل العهد الكولونيالي تتمثل في نمطين من أنماط الإنتاج: نمط إنتاج مخزني و نمط إنتاج قبلي. و هو تصور قريب جزئيا من نظرة بول باسكون الذي أشار في أطروحته حول حوز مراكش إلى وجود طبيعة قبل رأسمالية لنمط الإنتاج المخزني السائد. بالنسبة للريف قبل العهد الكولونيالي، فقد كان الوضع يتسم بانشقاق دائم، حيث كان السلطان يُعتبر رمزا دينيا وحكما في النزاعات القبلية وليس سلطة مركزية قمعية وجامعة للضرائب. علاوة على أن تدبير المجموعات البربرية لم يكن يتطلب هيكلا إداريا أو عسكريا لضمان طاعتهم، كما أن تشبثهم بالحرية و الاستقلال كان يقودهم إلى اتخاذ مواقف معادية لأساليب المخزن القسرية. وفي هذا الصدد يقدم ادريس بن علي «الدولة المغربية قبل العهد الكولونيالي كهيأة استغلال ضريبي ووسيلة إنتاج وتنظيم إقطاعية». أما بالنسبة ل»جاك بيرك» فالدولة المغربية قبل الكولونيالية كانت تتسم بسلطة «مطلقة في المبدأ, لكن محدودة في الوسائل بل عاجزة في الواقع». وجاء الاستعمار كعامل تفتيت لعلاقات الإنتاج وللتشكيلة السوسيو-اقتصادية المغربية. و حسب محمد صلاح الدين فإن رفض التغلغل الرأسمالي كان مختلفا لدى نمط الإنتاج المخزني عنه في نمط الإنتاج القبلي. يتمثل المسار الكولونيالي بالمغرب في مظهرين: المظهر السلمي المتمثل في التغلغل الاقتصادي والذي تلاه المظهرالعسكري، الذي جاء بعده احتلال وجدة والدار البيضاء سنة 1907. وبعد أربع سنوات حصل احتلال فاس بالضبط في 4 ماي 1911. فالمغرب، بالنسبة لجيرمان عياش، كان هدفا مبكرا للأطماع الاستعمارية. و لذلك فقد تأخر دخول الاستعمار الفرنسي له إلا بعد سلسلة من الاتفاقات الثنائية بين القوى الأوربية باستثناء إسبانيا، وهي الاتفاقات التي أنهت تلك الصراعات الداخلية. أما إسبانيا، ولاعتبارات جيوسياسية واقتصادية فستستفيد من حق، اعترفت به فرنسا، لمد نفوذها على شريط محدود سمي ب «منطقة نفوذ» عبارة عن حماية مصغرة. وانتهى منطق التوافق بالفوز على الممارسات الحربية التي طبعت حتى ذلك الوقت العلاقات بين القوى الأوربية، وهو ما سرع عملية التوسع الاستعماري في إفريقيا والرفع من وتيرة استغلال الثروات الفلاحية والمنجمية. لم تكن المطامع الإسبانية في المغرب جديدة. فقد كان هدفا قديما تطور مع الظروف وحسب علاقات القوة بين المتحاربين و المنافسين، وحسب قدرات المقاومة المغربية المدعومة بتقاليده الأصيلة في محاربة الغزاة. فطيلة قرون قاوم السعديون محاولات الغزو ثم تلاهم العلويون الذين جاؤوا على أساس القاعدة التي تقول أن كل شريفي مهزوم ينبغي أن يترك موضعه للشريفي الأقدر على المقاومة. ولإخضاع المغرب، تبنت فرنسا وإسبانيا أسلوبا تدريجيا طبقا لمبدأ «الاحتلال الضيق»، بدءا من معركة إيسلي سنة 1844، التي تلتها معركة تطوان بعد عشر سنوات تقريبا... وفي بداية القرن العشرين، أخذت الحملات العسكرية الإسبانية والفرنسية، طبقا لمخطط استعماري متفق عليه، وتيرة أكثر سرعة، انتهت بمعاهدة الحماية التي استغلت انهيار الدولة المغربية على جميع المستويات. وهكذا تم توقيع معاهدة الحماية بفاس في 30 مارس 1912 من طرف السلطان مولاي حفيظ باسم المغرب و الممثلين الرسميين لفرنسا. و بعد تعيينه مقيما عاما بالمغرب، تبنى الجنرال ليوطي سياسة تهدئة للتراب المغربي مستندة على نظام مراقبة أكثر من الإدارة المباشرة. وهو خيار تظهره بوضوح المذكرة المتعلقة بالتنظيم المدني التي حررها بتعليمات من المقيم العام في ماي 1913، السيد «م. تيرار» السكرتير العام للحماية. ومما جاء في هذه المذكرة أن « أسلوب الإدارة غير المباشرة، بعد فترة من التردد خلال حملة الغزو، قد تم تبنيه و اتباعه». وجدت فرنسا نفسها، بعد الحماية في وضع متقدم مكون من عدة امتيازات في المغرب، بينما ستتوفر إسبانيا على إقليم، على شكل منطقة نفوذ معترف بها رسميا، طبقا للفصل الأول من معاهدة الحماية «ستتشاور حكومة الجمهورية مع الحكومة الإسبانية حول موضوع المصالح التي لهذه الأخيرة بحكم موقعها الجغرافي من المخزن الشريفي بعد إصلاحه» أما مدينة طنجة، فإن وضعها الخاص كمدينة دولية، خاضعة لإدارة مشتركة بين القوى الأوربية الكبرى، سيتم الحفاظ عليه. وفي تعليقه على الفصل الأول من معاهدة الحماية، يقول جيرمان عياش أن «معاهدة فاس جعلت من السلطان دُمية بينما جعلت من المقيم العام عاهلا مطلقا». تقسيم التراب المغربي إذن تم بناء على معاهدة الحماية و كذا على الاتفاقات السرية ل3 أكتوبر 1904 و الرسمية ل 27 نوفمبر 1912، الموقعة بين فرنسا و إسبانيا. باستحضارنا لتاريخ الغزو الإسباني للمغرب الذي بدأ باحتلال مليلية سنة 1497 واحتلال سبتة سنة 1668 في أعقاب انسحاب البرتغاليين الذين كانوا يقومون بإدارة مشتركة مع الإسبان منذ 21 غشت 1415 . فإسبانيا، علاوة على مخططها الاستعماري، كانت تسعى لاحتلال السواحل والجزر المتوسطية للمغرب دون أن تتمكن من ذلك، بالرغم من الأزمات الاقتصادية بالمغرب والتنافسات السياسية بين السلاطين من جهة وبينهم و بين القبائل من جهة ثانية . في القرن السابع عشر، كان يسود المغرب نظام الحمايات الأجنبية الذي كان يسمح للأوربيين المقيمين بالمغرب من الإفلات من قوانينه السارية. و بذلك كان القناصلة هم من يتولون الحكم على مواطنيهم وعلى محمييهم سواء من المغاربة أو من جنسيات أخرى. فقد كان هذا النظام يعتبر امتيازا لصالح المحميين، لتفادي المثول أمام القاضي المغربي. هذا النظام شكل «وسيلة مفضلة للتغلغل الاستعماري» ولإضفاء الشرعية على تواجدها، بررت القوى الاستعمارية ذلك بغياب حكومة نظامية في المغرب. فقد كان سلطان المغرب، رئيس السلطة المركزية، في حالة عجز عن الدفاع عن سيادة المغرب. هذا السلطان العاجز، لم يكن بمقدوره تفسير الخيانة للإقطاعيين الكبار المؤيدين للكفاح المسلح والمعادين لأي سياسة مهادنة تجاه الأجانب و ماسة بسيادة البلاد. بعد احتلال وجدة والدار البيضاء سنة 1907 و احتلال فاس سنة 1911 من طرف فرنسا، تبنت إسبانيا نفس السياسة التدريجية باحتلالها العرائش سنة 1911 و مدينتي القصر الكبير وأصيلة سنة 1912 . وفيما يخص توقيع المغرب للمعاهدات، تبين أن السلطان إلى حدود 1912 كان هو الوحيد المُخول بهذا التوقيع. فقبل ذلك، كان السلطان، في غياب وجود برلمان، يلجأ إلى استشارة وزرائه والعلماء. والواقع أن مجموع السلطات التي يمسكها سلطان المغرب، كان يستمدها من «البيعة»، و هو العقد المكتوب و الموقع من طرف الأعيان و العلماء، إذ لم يكن السلطان الجديد يجلس على العرش إلا بعد المصادقة الصريحة على عقد البيعة من طرف الجماعة. فالمؤسسات السياسية المغربية آنذاك، حسب حسن الوزاني الشاهدي، لم تكن تعرف وجود أي سلطة تشريعية بمعناها الحقيقي. فالحماية المفروضة على المغرب كانت تمثل بعض الخصوصيات، إذ بالإضافة إلى المنطقة الخاضعة لفرنسا، كانت هناك منطقتان أخريتان تحت الاحتلال: المنطقة الدولية و منطقة خاضعة لإسبانيا إسمها «منطقة نفوذ»، تنازلت عنها فرنسا بمقتضى معاهدة 27 نوفمبر 1912 . لم يمنع توقيع معاهدة الحماية من إثارة المقاومة سواء في الجنوب أو في الشمال (الريف) أو في الأطلس. كما أن الانتفاضة الشعبية التي جرت بفاس سرعت من خلع السلطان مولاي حفيظ الموقع على معاهدة الحماية و مبايعة أخيه مولاي يوسف من طرف علماء فاس. و هو حدث ذو أهمية حاسمة ، رغم عدم تأثيره على وضعية الحماية. حيث شرعت فرنسا في تهدئة بؤر التمرد و المقاومة، التي كان ليوطي يصفها ب»الجبهات السلبية» التي ينبغي تحييدها. فاستراتيجية «التهدئة» الاستعمارية التي تبناها المقيم العام، كانت تستند إلى مبدأ «المراقبة عوض الإدارة المباشرة». فليوطي، الذي عُين مقيما عاما يوم 28 أبريل 1912 ، المدافع عن «القانون» الكولونيالي، بدا أكثر ميلا إلى سياسة إشراك للسلطان بشكل يُخضع المغرب لنير الاستعمار دون خسائر كبيرة. وفي المقابل، فإن إسبانيا، باستثناء بعض المناطق المحتلة في كبدانة و القلعة، لم تتمكن من إخضاع الريف تحت هيمنتها. فقد اصطدمت، انطلاقا من 1909، مع مقاومة شرسة لقبائل ريفية بقيادة الشريف محمد أمزيان المنحدر من ازغنغن و الممثل الشرعي لقبيلة القلعة. بعد وفاته، في 15 ماي 1912 في واد كورت خلال مواجهة مسلحة مع القوات الإسبانية، استأنفت إسبانيا حملتها الاستعمارية، التي انتهت باحتلال الحسيمة. و هو احتلال لم يدم طويلا بفضل حركة مقاومة من متطوعين من قبيلة أيت ورياغل، خاصة عائلة الخطابي (عبد الكريم الأب و محمد الإبن). فقد أعلن محمد عبد الكريم الخطابي النفير العام في الريف، في الوقت الذي كان فيه الجنرال سيلفستر يقود قواته نحو تفريست التي احتلها دون مقاومة سنة 1920 في الوقت الذي احتل فيه «بيرنغر» من جانبه مدينة الشاون بشكل سلمي. وجاءت معركة «ظهر أوبران» في يونيه 1921، و هي هزيمة مُنكرة للقوات الإسبانية، كي تكرس القدرات الحربية للمقاتلين الريفيين، التي ستظهر بشكل واضح في معركة أنوال التي وصفت بأم المعارك، والتي شكلت امتحان قوة حقيقي بين الحركة الريفية و الحماية. وعقب معركة أنوال، التي شكلت نصرا غير مسبوق للمقاومة الريفية، سيتم انتخاب محمد عبد الكريم الخطابي، خلال مؤتمر عام لوضع استراتيجية المقاومة و انتخاب الهيآت القيادية ل»جمهورية الريف»، أميرا للريف بالإجماع من طرف ممثلي و رؤساء مجموع قبائل الريف. و بعد الاعتراف به «قائدا» من طرف العالم الإسلامي، تمت دعوته بهذه الصفة إلى مؤتمر القاهرة المنعقد في نهاية 1925، كما دُعي من طرف إبن سعود بلقب «عاهل» المغرب إلى مؤتمر مكة، في حين لم يتلق السلطان مولاي يوسف أي دعوة من هذا القبيل. و في مؤتمر القاهرة كما في مؤتمر مكة، تم الاعتراف بمحمد عبد الكريم الخطابي كممثل شرعي للريف، طالما أن مولاي يوسف كان سلطانا لفرنسا. و من المهم الإشارة إلى أن هذا الاعتراف السياسي للعالم الإسلامي بمحمد عبد الكريم الخطابي ك»عاهل مغربي» في تلك الآونة، كدليل على التضامن، كان له سند منطقي و ديني، حيال بلد مسلم شقيق هو المغرب الذي تسيطر عليه قوى أوربية «رخص» لها السلطانان (مولاي حفيظ و مولاي يوسف) الرسميان للبلاد بحكمه في إطار مسار «تهدئة» سياسية وبمقتضى معاهدة الحماية ل30 مارس 1912 . هزيمة إسبانيا في معركة أنوال، أفقدتها «الأراضي التي اكتسبتها خلال سنوات الحرب». فقد كشفت هذه الهزيمة مخاطر «جمهورية الريف» على تواجد الحماية بالمغرب. فالامتياز الاستعماري المفروض أن يكون آمنا، لم يعد ممكنا أمام هذه الثورة الشعبية التي بدأت تدخل مرحلة النضج و المصداقية، إلى درجة تهديدها، عدة مرات، للقوات الفرنسية في بني زروال بل و هددت باحتلال فاس نفسها. أصبحت الخطوط الفرنسية إذن أمام المقاتلين الريفيين المتقدمين، وبدت سياسة المارشال ليوطي متقادمة عمليا، مما سرع في نهاية مسيرته العسكرية، وخلفه المارشال بيتان. فتجاوزت القوات الفرنسية نهر ورغة مما وضع حدا للتهدئة و لأي أمل في السلام. وقد اعترف محمد عبد الكريم الخطابي فيما بعد للصحفي الفرنسي «روجيه ماثيوه» الذي رافقه على متن الباخرة «عبدة»، بأنه اقترف خطأ حينما لم يدخل مدينتي فاس و مليلية اللتين كانتا في إمكان مقاتليه الريفيين. وبالفعل، فإن هزيمة الجيش الإسباني والحركات الشعبية الإسبانية المناهضة للتواجد الإسباني في الريف، قد اضطرت الجنرال «بريمو دي ريفيرا»، الرجل القوي في إسبانيا الذي كان يحظى بدعم الملك ألفونسو الثالث عشر، إلى اتخاذ قرار حل غرفة النواب والبلديات. أما الأقاليم فقد أُخضعت لحكام عسكريين. وهو قرار شبيه بانقلاب عسكري ضد الدمقراطية السائدة في إسبانيا. أما حُيال الريف فقد قرر تبني حرب جديدة: حرب الغازات السامة. فاستخدام الغازات السامة، خلال حرب الريف، من أجل تقليص الخسائر، كان خيارا متعمدا بتواطؤ مع فرنسا. و كان الهدف المعلن لقوات الاحتلال هو القضاء على المقاتلين الريفيين. وهكذا سارعت القوتان الاستعماريتان إلى توحيد جهودهما و بسط أكثر ما يمكن من إمكانات من أجل القضاء على الثورة الريفية، و هكذا تم استخدام الطيران للقصف و للاستقصاء و للتموين و الربط... خلال حرب الريف، شارك العشرات من الطيارين الأمريكيين، أعضاء سرب «لافاييت» الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والذين انضموا لجيش الاحتلال على غرار طيارين آخرين من جنسيات مختلفة بلجيكية و إيطالية ، جاؤوا لمساندة فرنسا وإسبانيا في مواجهة حرب غوارية دشنها محمد عبد الكريم الخطابي و التي كانت خارجة عن المألوف. وقد كان للاستخدام الكثيف للغازات السامة «إيبيريت و فوسجين «من طرف القوات الاستعمارية، مفعوله الحاسم على تطور الأحداث. فالطيارون الأمريكيون وحدهم، قد قاموا خلال ستة أسابيع ب 350 مهمة حربية أطلقوا خلالها أكثر من أربعين طنا من القذائف. وقد توافقت الدراسات التاريخية على ثبوت استعمال الأسلحة الكيماوية خلال حرب الريف، خاصة ما بين سنتي 1923 و 1926 . ما هي العلاقة السببية بين استخدام الغازات السامة وانتشار الأمراض الخطيرة (السرطانات) في منطقة الريف؟ هذه الوضعية يتم توصيفها قانونيا ب «الفعل المحرم المستمر» في الزمان و المكان. بمعنى أنه فعل غير قابل للتقادم و يندرج ضمن الجرائم ضد الإنسانية، و لأنه مُقترف أثناء الحرب من طرف إسبانيا و فرنسا فهو جريمة حرب، موجهة ضد السكان المدنيين لأسباب سياسية و اقتصادية في إطار تصميم مخطط له. وبالتالي فإن انصرام مدة من الزمن ليس عاملا للتقادم في الجرائم الدولية. وقد أظهرت الإحصاءات بأن الساكنة المغربية الأكثر تضررا من هذه الأمراض الفظيعة، تنتمي لمنطقة الريف. فهل تعلن الدول المقترفة لهذه الخروقات الخطيرة للقانون الدولي مسؤوليتها الدولية في تعويض الأضرار المفترضة التي لحقت بالضحايا (مدنيين و محاربين)؟ من له الحق في رفع الشكاية؟ فردية أو جماعية؟ من يجب عليه دفع التعويض؟ كيف يمكن التعويض عن الضرر؟ فيما يلي ستجدون دراسة مستفيضة عن هذه التساؤلات من أجل تقديم جواب كاف بالرجوع للقانون والقضاء و الفقه. فالقضاء الدولي، منذ أحكام نورمبرغ و طوكيو حتى أحكام المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو الدائمة، قد حدد الشروط الضرورية لتعريف «الجريمة ضد الإنسانية» كالتالي، فهي عموما، فعل يتم اقترافه في إطار هجوم عام و مُمنهج، ضد سكان مدنيين لأسباب مقدمة و مُخطط لها، بأوامر صادرة عن سلطة قانونية أو فعلية تمارس حكمها بالقوة فوق إقليم معين. القانون الفرنسي لا يعترف بجرائم الحرب، و هو مبدأ مستلهم من العقيدة العسكرية الفرنسية، بسبب ماضيها الكولونيالي. ولذلك فإن فرنسا لم تشرع في المصادقة على البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 إلا في أبريل 2001 . أما المصادقة على البروتوكول الإضافي الثاني لمعاهدات جنيف الأربعة (1949) فقد تمت قبل ذلك في 24 أبريل 1984 . ففرنسا بعد طول تردد، تريد بهذه المصادقات الامتثال للقانون الدولي التطوري. إذا كان من الصعب تقييم الأضرار الناتجة عن حرب كيماوية ألحقت الضرر بالسكان و بالبيئة، فإنه من الطبيعي إثبات العلاقة السببية المحتملة بين الغازات السامة و سرطانات الحنجرة والمعدة و غيرها التي تفشت في الريف و نواحيها و التي لا تني تتزايد حسب الإحصاءات الرسمية، فمنطقة الريف هي الأكثر تضررا بالمغرب. في تقرير خبرة، موله الجيش التركي، يكشف الدكتور «هيغو ستونزلبرغ» أن «110 طنا من غاز الإيبيريت سلمته تركيا لإسبانيا من أجل استخدامه في المغرب للقضاء على المتمردين الريفيين». فالأسلحة الكيماوية تؤدي مباشرة إلى الموت و العمى بالنسبة للبشر وإلى التدهور المستمر للبيئة على المدى البعيد. فالسلاح الكيماوي منذ حرب الريف (90 سنة) لم يتوقف عن القتل، بسبب الآثار الضارة للغازات المنتشرة في المكان والمتوارثة جيلا بعد جيل. وقد طلب الصليب الأحمر في حينه الترخيص له، بإيفاد لجنة من المفتشين للتحقيق في موضوع استخدام الغازات السامة، إلا أن الطلب قوبل بالرفض البات من طرف الإسبان. في أكتوبر 1980، شكلت الهيأة الوطنية للتحقيق في آثار الحرب الكيماوية في فيتنام، لجنة رسمية في هوشي منه (سايغون سابقا)، وقد تمكنت في دراسة لها من تحديد سلسلة من الأمراض والأعراض التي تسببت فيها تلك الغازات التي تقضي على النبات والحياة وصحة السكان مسببة سرطان الرئة و البروستات وأمراض الجلد والدماغ و الجهاز العصبي و التنفسي و الدموي» و بعد فترة تردد، اعترفت الولاياتالمتحدة بوجود علاقة سببية بين السلاح الكيماوي الذي استخدمته في الحرب و بين الأعراض التي يعاني منها الجنود الأمريكيون السابقون في فيتنام ومن ضمنها: العمى و السكري و سرطان البروستات و الرئة. و في المقابل، تصر فرنسا و إسبانيا حتى الآن على رفضهما الاعتراف الرسمي باستخدام الأسلحة الكيماوية في الريف خلال الفترة ما بين 1921 و 1926 ، رغم أنه لم يعد مجال للشك في العلاقة السببية بين الأسلحة الكيماوية -إيبيريت وفوسجين- التي أطلقت في الريف بكثافة و بين تفشي الأمراض القاتلة بهذه المنطقة. وبخصوص مسؤولية إسبانيا وفرنسا عن الأعمال الإجرامية المرتبطة بحرب الريف، فإنه ينبغي اللجوء إلى مسطرة تحميل الفعل المحرم دوليا للدولة المارقة. ومن هنا نتساءل عن طبيعة الأفعال الموجهة لفرنسا و إسبانيا. هل تشكل «جريمة دولية» للدولتين؟ هل هي أفعال اقترفها أفراد تحت مسؤوليتهم الجنائية الشخصية؟ هل بالإمكان، في الغياب الجسدي للمسؤولين المفترضين عن هذه الحرب و عن الجرائم ضد الإنسانية، اللجوء إلى عمل علني أو جنائي؟ فإذا لم يكن ممكنا ، سواء في القانون الوطني أو الدولي، متابعة أشخاص ميتين، ما هي المسطرة التي ينبغي اتباعها لضمان قبول شكايات الضحايا، أشخاصا ذاتيين أو معنويين؟ و بالتالي ما هو القانون المطبق عليهم؟ و هل الأعمال المدنية هي الأكثر ملاءمة؟ نوافق، بداية ، على أن القضاء الإداري هو المختص في البت في القضايا المرتبطة بالإجراءات التي ينبغي أن يقوم بها ضحايا حرب الريف ضد فرنسا وإسبانيا أمام محاكمهما الوطنية. فالمشاكل المسطرية تتطلب حلولا، خاصة ما تعلق منها برجعية القوانين والمعاهدات الدولية و تقادم جرائم الحرب، والآثار القانونية على الأعمال المتعلقة بالقانون الإداري. فالنظرية أثبتت أن معاهدة 1948 للحماية والقضاء على جريمة الإبادة، قابلة للتطبيق على الأفعال (الجرائم) المقترفة قبل التوقيع والمصادقة على هذه المعاهدة، باعتبار أنها تصرح بقانون دولي سابق لها. وهناك سوابق حول رجعية المعاهدات: منها حالة اتفاق لندن ل8 غشت 1945 (ميثاق محكمة نورمبرغ) و حالة معاهدة 1968 حول عدم خضوع جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية للتقادم و حالة معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات لسنة 1969. فقد أكدت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض «في اجتهادها القضائي حول مقتضيات المعاهدة الأوربية للحفاظ على حقوق الإنسان، أن كل جمعية أجنبية تدعي كونها ضحية لخرق، من حقها أن تتقدم كطرف مدني أمام القضاء الفرنسي شريطة أن تتوفر فيها الشكليات المطلوبة من طرف الفصل 5 من قانون فاتح يوليوز 1901 للجوء للعدالة، ويفرض الفصل 5 المذكور على كل جمعية، ولو كان مقرها بالخارج، أن تتقدم بتصريح مسبق لدى إدارة الإقليم» وفور توفر شروط اللجوء للقضاء في الأطراف المدنية (الجمعيات) المعترف بها من طرف الدول المشتبه في مسؤوليتها عن الأفعال المحرمة، فإن لهذه الجمعيات حق التقدم أمام المحاكم الوطنية بعد استكمالها للشروط الشكلية. تم تحديد مفهوم جريمة الحرب من طرف النصوص الدولية: الفصل 6ب لقانون محكمة نورمبرغ ومعاهدات جنيف الأربعة ل10 غشت 1949، إلا أن هذه النصوص لا تحدد أي عقوبة، لذا ينبغي البحث في القوانين الداخلية عن طرق زجر جرائم الحرب، فالفصل 70 من القانون العسكري الفرنسي ينطبق على هذه الحالات التي يكون فيها المشتبه فيه وطنيا عدوا أو عميلا غير فرنسي أو عميلا في خدمة الإدارة أو المصالح العدوة. في هذا السياق فإن «أحداث الجزائر، اعتُبرت من طرف فرنسا عمليات لحفظ النظام، رغم أنه «نظام كولونيالي» غير مُعترف به ولا محمي من القانون الدولي. ولهذا السبب تواصل فرنسا إنكارها حرب الجزائر. فجرائم الحرب -خرق قوانين و أعراف الحرب- تبقى غير محددة في القانون الداخلي، على عكس الجرائم ضد الإنسانية المحددة في الفصلين 211-1 و 212-1 من القانون الجنائي الفرنسي. فالآثار التي خلفتها حرب الغازات السامة تندرج في إطار فعل محرم دوليا, لذا فلا شيء يمنع قيام لجنة تحقيق بمتابعة الأفعال التي اقتُرفت في الريف (المغرب) خلال الفترة بين 1921 و 1926، التي قامت بها إسبانيا وفرنسا، باعتبارها أفعالا في خرق سافر للقانون الدولي الإنساني (الالتزامات العرفية والمعاهدات). فهذه القوانين الإجبارية تمنع في كافة الظروف، بعض السلوكات، بما فيها تلك التي تتم خلال نزاع مسلح، سواء وقعت هذه الدول أم لم توقع على الاتفاقات الدولية المتعلقة بالسلوك خلال النزاعات المسلحة. إلى هذا تنضاف ضرورة التعويض الكامل عن الضرر الناتج عن فعل أو امتناع محرم دولياّ. هل تكون العدالة الدولية مدنية أو إدارية؟ بالنسبة للجرائم الدولية المُقترفة في الماضي، من طرف أشخاص لم يعودوا أحياء، يكون من العسير التحدث عن مسؤوليتهم الجنائية لأنها شخصية. ينبغي في مثل هذه الحالات، البحث عما إذا كان اللجوء المدني أو الإداري يمكن أن يقدم حلا مسطريا للمطالبة بالتعويض عن الأضرار التي تسبب فيها الاحتلال الفرنسي والإسباني للريف. هذا التحليل يقودنا إلى القول بأن دولتي الاحتلال (إسبانيا وفرنسا) تتحملان مسؤوليتهما الدولية التي ليست «مدنية» ولا «جنائية»، ولكنها «دولية»: وهو مفهوم خاص ب»ألان بيليت» وهو يستحق اهتماما خاصا، ليس فقط لأنه يؤكد مضمون ومدى المسؤولية الدولية للدولة، التي تبقى في كنهها، لاجنائية ولامدنية، ولكنها قد تصبح «مسؤولية إدارية»، و بالتالي فإن التعويض عن الضرر ينبغي أن تتحمله الإدارات الفرنسية و الإسبانية، فور خضوع هذا الطلب للمسؤولية الدولية للدولة، و هو أمر يتطلب شرطان: الأول هو وجود الفعل الجرمي و الثاني هو إسناد الفعل الجرمي. يتبين مما سبق أن مبدأ عدم التقادم في الجرائم ضد الإنسانية يعتبر قاعدة عرفية في القانون الدولي قابلة للتطبيق في القانون الداخلي. من المحقق أن هذا الموضوع استأثر باهتمام الباحثين الأوربيين، الفرنسيين والإسبان والانجليز والألمان، وكذا نظرائهم المغاربة خاصة في شقها المتعلق بحرب الريف. وقد توصلت هذه البحوث إلى سبر غور السر الذي احتفظت به القوات الاستعمارية الحامية للمغرب، أي الاستخدام الكثيف للغازات السامة والخانقة المؤدية على المدى القريب إلى الموت والعمى وأمراض الجلد، وإلى الأمراض الخطيرة مثل السرطان والتحولات الجينية على المدى البعيد. ومن جهة أخرى, فإن اختيار موضوعة الجرائم الدولية في علاقتها بحرب الريف يكتسي هما علميا خاصا بسبب الاعتبارات التاريخية والسياسية و العلمية. هل توجد علاقة سببية بين استخدام الغازات السامة و تفشي أمراض السرطان وغيره في الريف؟ هل بإمكان فتح تحقيق تقديم إضاءات إضافية حول حرب لا زالت الكثير من جوانبها في الظل؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن يتحمل مسؤولية هذه الأفعال المجرمة من القانون الدولي والقانون الداخلي، هل الحماية؟ هل الدول الحامية؟ أو المسؤولون (الذاتيون) الذين لم يعودوا ضمن الأحياء؟ هل تعتبر الأفعال المرتبطة بحرب الريف، جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية؟ أو جرائم عدوان؟ ما هو القانون القابل للتطبيق في هذه الحالة؟ هل القانون الدولي أم القانون الوطني؟ من ينبغي عليه رفع الشكايات أو الدعاوي، الدولة المغربية من خلال الآليات الدبلوماسية؟ أي محكمة ينبغي اللجوء إليها من طرف الضحايا أو ورثتهم؟ إذا كانت جنائية؟ ينبغي السعي لحل مشكل مزدوج، مشكل تقادم الجرائم الدولية و مشكل رجعية القوانين والمعاهدات. إذا تبين أن الفقه الجنائي لا يشكل حلا للإشكالية (مشاكل الشكل والمضمون) علينا أن نتساءل ما إذا كان اللجوء للعمل المدني والإداري يقدم جوابا مُرضيا للإشكالية. فالأفعال المرتبطة بحرب الريف (الحرب الكيماوية) توجد حاليا تحت طائلة القوانين المدنية إذا ما قدمت الشكاوي ضد شركات (مثلا ضد شركة ستولزنبرغ أو شنيدر) أو تحت طائلة القوانين الإدارية إذا وُجهت الدعاوي ضد الدول (فرنسا و إسبانيا) كما قد تكون عملا دوليا يقوم به المغرب لفائدة الضحايا ضد إسبانيا وفرنسا من خلال آليات الحماية الدبلوماسية، التي تبقى مسطرة مشروطة برابطة الجنسية الفعلية واستنفاد جميع المساطر الداخلية. إذا كان استخدام القوة محرما في القانون الدولي بمقتضى ميثاق الأممالمتحدة، فإن النزاعات المسلحة قديمة، وقد بدأ تنظيمها مع تبني القواعد العرفية و المعاهدات خلال تصريح «سان بطرسبورغ» للعام 1868، التي تطورت في مؤتمر بروكسيل 1874، والمتممة من طرف مؤتمري لاهاي سنة 1899 و1907 (قانون لاهاي) والذي اكتمل بمعاهدات جنيف الأربع ل 12 غشت 1949 مع البروتوكولين الإضافيين سنة 1977 (قانون جنيف) وإذا كان الالتزام في القانون الدولي ينبني على موافقة الدول، فإنه توافقي حينما تكون الأطراف الموقعة متساوية وذات سيادة. فقد أكدت محكمة العدل الدولية برئاسة «أنزيلوتي» في قرار لها سنة 1927 أن «القانون الدولي ينظم العلاقات بين دول مستقلة. فالقواعد القانونية التي تربط بين الدول تكون نابعة من إرادة هذه الأخيرة ، و هي إرادة تظهر من خلال المعاهدات و الأعراف المقبولة لتنظيم تعايش هذه المجموعات المستقلة من أجل تحقيق أهداف مشتركة». و في أول قرار لها سنة 1923 في قضية ومبلدن, أكدت محكمة العدل الدولية الدائمة، مبدأ مهما يتمثل في أن «إبرام معاهدة كيفما كانت لا يمكن أن يلحق الضرر بسيادة دولة، فصلاحية إبرام الالتزامات الدولية هو صفة مرتبطة بسيادة الدولة». خصص اهتمام خاص في تطبيق التجريم الدولي على مستوى النظام القانوني الداخلي أو الوطني. فالممارسة أثبتت أن مسطرة التجريم قد تكون : - مباشرة تتمثل في الاستقبال المباشر للمعاهدات الدولية دون اتخاذ التدابير التشريعية الضرورية. - غير مباشرة و تتطلب قبل أي تجريم لأفعال واردة في المعاهدات أو الاتفاقات، الاحترام الصارم للشكليات التشريعية المطلوبة. وكما أشرنا إلى ذلك في السابق، فإن الضحايا يملكون الحق في اللجوء إلى المطالبة بالتعويض المنصف عن الضرر. إلا أن لا شيء يمنع، اختيار التسوية غير القضائية، أي بكلمات أخرى، اختيار مقاربة سياسية كحل بديل محتمل يقود إسبانيا وفرنسا إلى الاعتراف، بشكل رسمي، بمسؤوليتهما عن الجرائم ضد الإنسانية التي اقتُرفت في الريف، بشمال المغرب، علاوة على جرائم الحرب باستخدامهما الغازات السامة.