إن حرب الغازات السامة بالريف ليست بموضوع للمزايدة السياسية أو الدبلوماسية، سواء من قبل الأفراد أو الأحزاب أو الجمعيات أو الدول، بل هو في جوهره قضية شعب، لأن حرب الريف 1921 1926 جزء أساسي من تاريخ المغرب المعاصر، وليست فقط جزءا من الذاكرة، لأن التاريخ أوسع وأشمل من الذاكرة. وبذلك تتحدد الذاكرة كجزء من التاريخ وليس العكس، بإعمال هذا المنظور فيه تقزيم لحقائق حرب الريف، ولا يبؤوها مكانتها، على الأقل ضمن ما يعرف بالنزاعات الدولية المسلحة التي كانت فيه الحركة التحررية بالريف تكافح من أجل مناهضة الاستعمار واستقلال المغرب، وهي تكيف في نظر القانون الدولي بحرب التحرير الوطنية،guerre de libération nationale . ومن الواجب على الأطراف المتحاربة أن تحترم مقتضيات القانون الدولي الإنساني، أو قانون النزاعات المسلحة، سواء تعلق الأمر بوسائل الحرب أو طرقها، وهذا ما نصت عليه اتفاقيات لاهاي 1899 و1907 والتي صادقت عليها اسبانياوفرنسا، واتفاقيات فرساي 1919، وبروتوكول جنيف المؤرخ في 17/06/ 1925 الذي نص صراحة على منع استعمال الغازات السامة والغازات الخانقة ( gaz toxiques et asphyxiants) والذي صادقت عليه فرنسا . إن استعمال الأسلحة الكيماوية أو الغازات السامة بالريف جاء في سياق الانتصارات المتتالية التي حققتها المقاومة الريفية بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي خاصة في دهار أبران وفي معركة أنوال 21-26 يوليوز 1921، هزيمة الجيش الاسباني في معركة أنوال نتج عنها مقتل الجنرال سلفستر وأسر الجنرال نفارو Navaro في جبل العروي، وقتل آلاف من الجنود وأسر المئات. لكنها وقائع وأحداث كانت محل نقاش ومداولات من طرف القيادة العسكرية الاسبانية، والحكومة، والملك الفونسو 13، وكان القرار بضرورة إدخال الأسلحة الكيماوية ميدان المعركة بالريف لأنها الطريقة المضمونة لإضعاف المقاومة الريفية وجبرها على الاستسلام. إن اسبانيا لم تربطها بالمغرب أية اتفاقية حماية كما كان الأمر بالنسبة لفرنسا، كان السلطان يمثله بالمنطقة «الخليفة»، فالإطار القانوني الذي أطر تخصيص اسبانيا بشمال المغرب « كمنطقة نفوذ» هو اتفاقية 27/11/1912 بين فرنساواسبانيا والمستندة إلى الاتفاقية السرية بينهما الموقعة في 1904 . إن غزو القوات المسلحة الاسبانية للريف ابتداء من 1921 ( وقبله ) جوبه بمقاومة محلية شرسة، وبذلك يكيف هذا الغزو بأنه حرب عدوانية ( Une guerre d?agression) وفقا للقانون الدولي وخاصة مقتضيات المادة 42 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907، ولأحكام القرارين رقم : 2625 و3314 الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة اللذين اعتبرا « أن الحرب العدوانية جريمة ضد السلم وترتب المسؤولية القانونية الدولية» . كما أن الاستعمار لا يحظى بأية حماية قانونية دولية لأنه عمل غير مشروع ونقيض للحرية، ولمبدأ تقرير الشعوب لمصيرها، والاستعمار ملازم لاستعمال القوة العسكرية، وبذلك فإن القوة لم ولن تصنع القانون، ولا تضمن سيادة السلم والسلام الدوليين، وعليه فإن القانون لا يمكنه أن يحمي الأعمال غير المشروعة دوليا لكونها إخلالا بالالتزامات الدولية التي تعتبر قواعد آمرة لا يجب مخالفتها، وهذا ما هو متعارف عليه ضمن القواعد العرفية الدولية وكذا ضمن الاتفاقيات الدولية ونصت عليه صراحة لجنة القانون الدولي في نصها المصادق عليه في 2001 المتعلق بمسؤولية الدول. إن حرب الريف عرفت استعمال الغازات السامة وعلى نطاق واسع في 1923 ( وقبله كذلك) من قبل اسبانيا أساسا، وشريكتها فرنسا بشكل أقل، ولهذا عرفت بحرب الغازات السامة بالريف، وأهم الأسلحة الكيماوية التي استخدمت في تلك الحرب، غاز الخرذل Ypérite والفوسجين Phosgène وغيرهما من الغازات السامة والخانقة الأخرى، وهي أسلحة مماثلة للأسلحة الكيماوية التي وظفها الجيش الألماني والفرنسي والروسي والانجليزي في الحرب العالمية الأولى 1914 1918 والتي اعتبرت حربا كيماوية بامتياز ، وكذا تلك التي استعملتها ايطاليا في 1935 ضد الجيش الإثيوبي إلى درجة سحقه كما تؤكد ذلك التقارير الصادرة عن ( C.I.C.R ) لجنة الصليب الأحمر الدولي. إن استعمال اسبانيا للغازات السامة كوسائل حربية في الريف لمواجهة المقاومة الريفية بقيادة القائد التاريخي لها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، وبشكل مكثف وممنهج في سائر جبهات القتال من الناظور إلى الحسيمة، شفشاون وبني زروال، نتج عنه بشكل مباشر، إحداث الوفيات في صفوف المقاتلين والمدنيين عن طريق استهداف الأسواق والقرى بواسطة المدفعية والقنابل الكيماوية التي كانت تلقيها الطائرات الاسبانية والفرنسية علما بأن طيارين أمريكيين شاركوا إلى جانب قوات التحالف الاسباني الفرنسي باسم « الشرذمة الشريفة « Escadrille Chérifienne لاعتبارات قانونية تخص فرنسا، هذا ما يعطي أكثر وبقوة بأن النزاع كان يكتسي طابع نزاع دولي مسلح طبقا لاتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 و المادة 96 الفقرة 3 من البروتوكول الأول الملحق لسنة 1977 . بالإضافة إلى الوفيات التي خلفها استخدام الأسلحة الكيماوية في الريف، فإن لهاته الأسلحة آثارا سلبية على الإنسان والبيئة، وفقا للدراسات والأبحاث المنجزة في العديد من الحالات المماثلة، وما يزكي هذه الحقيقة أكثر، هو الانتشار الكبير للأمراض السرطانية بالريف، والتي يرجح قيام علاقة سببية بين استعمال الغازات السامة بالريف وانتشارها بسبب الانتقال الوراثي وبفعل التشوهات الجينية.هذه الفرضية تزكيها التقارير العلمية الصادرة عن المعاهد و المنظمات الدولية :كمعهد ليون بفرنسا و منظمة الصحة العالمية. لكن أهم ما ينطوي عليه هذا الملف ، ( أي استعمال الغازات السامة بالريف) هو الإجابة عن العديد من الأسئلة التي تبدو أساسية ، وأهمها: إذا كانت حرب الريف حقيقة تاريخية، فإن اسبانيا وكذا فرنسا لم تعترفا بعد رسميا باستخدامهما الأسلحة الكيماوية بالريف، إذن يتعين وجوبا إثبات وقائع الحرب الكيماوية وفقا لقواعد الإثبات المعمول بها في القانون الدولي، وما هي إذن هذه الوسائل؟ هل كتابات المؤرخين، شهادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب أو التقارير العسكرية المضمنة بالأرشيفات العسكرية المختلفة بإسبانيا وفرنسا وألمانيا أم غيرها من الوسائل الأخرى؟ بعد تحديد الوقائع وإثبات الأفعال يتعين وجوبا تكييفها.فهل هي جرائم العدوان؟ جرائم حرب ؟أم جرائم ضد الإنسانية؟ وإذا كانت الوقائع تعود إلى فترة 1921-1926 هل الأفعال وإن كانت تكيف « جرائم دولية « هل هي غير مشمولة بالتقادم وفقا للقواعد الاتفاقية أو العرفية للقانون الدولي؟ وهل يطبق عليها القانون الدولي بأثر رجعي؟ فما هي إذن القوانين الواجبة التطبيق؟ أمام كون الوقائع أو الجرائم المقترفة من طرف اسبانياوفرنسا في شخص مسؤوليها من الضباط والجنود والسياسيين، لم يعودوا على قيد الحياة وبالتالي يتعذر متابعة المجرمين المفترضين جنائيا اعتبارا لكون المسؤولية الجنائية مسؤولية شخصية ، كما أن القانون الدولي العام يقوم على أساس المسؤولية الدولية للدول، ولا يقول بالمسؤولية الجنائية للدول التي لا يأخذ بها القانون الدولي الجنائي أيضا. عند هذا المستوى من طرح الأسئلة القانونية، نقول بأن استخدام الغازات السامة بالريف هو فعل دولي غير مشروع منسوب إلى اسبانياوفرنسا كما تنص على ذلك صراحة اتفاقيات لاهاي 1899 و 1907 وكذا اتفاقية جنيف 1925 والتي صادقت عليها فرنسا في نفس السنة واسبانيا لا حقا في 1928 . وتكيف هاته الحرب بأنها حرب عدوانية رافقتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي تجد أساسها القانوني في النظام الأساسي لمحكمة نور نبرع (Tribunal de Nuremberg ) لسنة 1945 في الفصل 6 ب، وغيرها من المقتضيات الدولية التي لا يسمح المقام والمقال بالتطرق إليها. فإذا كانت الوقائع المسندة إلى اسبانياوفرنسا بتطبيق قواعد القانون الدولي العام، والقانوني الدولي الجنائي، هل يصح تحريك المتابعة الجنائية أمام عدم وجود الجناة المفترضين، أم أنه غير ممكن متابعة الدولتين جنائيا؟ لأنه من المعلوم في القوانين الجنائية المقارنة أن المتابعات الجنائية تسقط بوفاة الجناة. لكن هذا لا يرتب إنهاء المسؤولية القانونية للدولة أو الدول، وهي ليست لا بمسؤولية جنائية ولا بمسؤولية مدنية، أي أن المسؤولية الدولية هي مسؤولية دولية كما نص على ذلك الفقه والقضاء الدوليان. إن ملف الغازات السامة بالريف، يعتبر بمثابة قضية الشعب المغربي وليس حكرا على أبناء الريف، لأن المقاومة الريفية آنذاك كانت تستهدف قوات الاحتلال الاسباني والفرنسي في إطار الدفاع عن استقلال المغرب، هذا بغض النظر عن ما يمكن أن يقال بشأن علاقة « الحكومة الريفية » في إطار « جمهورية الريف » بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي بالسلطان مولاي يوسف ، لكن، ولئن كان قد تم حقا الإعلان عن «جمهورية الريف » آنذاك، فإن الشروط الموضوعية كانت تحتم ذلك أمام دخول قوات الاحتلال وتوقيع اتفاقية الحماية في30 مارس 1912 ، لكن الثابت أن محمد بن عبد الكريم الخطاب ما ثبت أن طالب بالعرش أو بالخلافة السلطانية، أوناهض السلطان يوسف، بالرغم من الموقف المناهض الذي عبر عنه هذا الأخير للمارشال بيتان( Maréchal Pétain) والذي كان يخدم مصالح دول الاحتلال، الذي طالبه بمقتضى رسالة رسمية بالإسراع في القضاء على حركة الخطابي،علما بأن قوات السلطان مولاي يوسف شاركت المستعمر في حربه ضد الريف. وفي الأخير يتوجب الإشارة إلى أن ملف الغازات السامة هو اكبر من قضية قانونية، فالجانب السياسي حاضر وبقوة، بل ومؤثر على مسارات التسوية الممكنة، فهل التسوية السياسة أو الدبلوماسية قابلة للتحقيق، علما بأن اسبانيا متعنتة في اعترافها بجرائمها تلك وبالتالي ترتيب مسؤوليتها، والإعلان الرسمي عن تقديم اعتذارها وجبر الضرر الفردي والجماعي للريف، أم إن الحل السياسي يبدو غير منظور حاليا في نظر اسبانيا، وكذا لعدم تبني القضية رسميا، لحد الآن من طرف المغرب لا دبلوماسيا ولا قضائيا لاعتبارات سياسية داخلية ودولية، وعليه فهل الطريق القضائي كفيل بأن يكون حلا مناسبا، فما هي أطراف الدعوى؟ ومن هي الجهات القضائية المختصة؟ هل القضاء الدولي؟ أم القضاء الداخلي؟ هذه كلها أسئلة اساسية ومدخل ضروري لمعالجة ملف الغازات السامة بالريف والتي تتطلب الإجابة عنها من طرف أهل الاختصاص ضمن فريق متكامل من القانونيين والأطباء المختصين وأساتذة في علوم الكيمياء والجراثيم، لماذا لأنه يتعين إثبات قيام العلاقة السببية بين الفعل( استخدام الغازات السامة) والضرر الذي لحق بالضحايا المدنيين مباشرة وغير مباشرة ( انتشار الأمراض والأوبئة). إن طريق توجيه الضحايا إلى القضاء الدولي أو القضاء الإداري الوطني، تحديد القانون الواجب التطبيق ومناقشة القضايا المستشكلة: التقادم، الحصانة و الاختصاص. إن الأمر المثير للانتباه ، إنه في الريف يعتبر السرطان، أحد الأسباب الرئيسية للوفاة، مقارنة مع باقي مناطق المغرب وأوربا، ومن المؤكد انه لا توجد حاليا أي معرفة حقيقية و دقيقة لهذه النسبة العالية من الوفيات بسبب السرطان، علما بأنه ثبت علميا بأن الأسلحة الكيماوية مسببة للسرطان لكن في هذا الإطار يتعين إثبات ما إذا كان حقا بان استعمال الغازات السامة بالريف هو السبب الرئيسي والوحيد في انتشار الأمراض السرطانية أم أن هناك أسبابا أخرى تتمثل في تأثيرات جيولوجية، بيئية ، بفعل استعمال أسلحة محرمة دوليا كما هو الحال بالنسبة للتجارب النووية بالجزائر بمنطقة محاذية للمغرب ( واد الناموس قرب فكيك)، لأنه ما يجب البحث فيه هو تحديد العلاقة بين استخدام الأسلحة الكيماوية وانتقال الأمراض السرطانية من جيل لآخر، فهذا التحديد العلمي هو مناط علماء الجراثيم والأمراض السرطانية، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أن الوضع الإيكولوجي بمنطقتي بقيوة و بني بوفراح وأجدير عرف اندثار الغابات و ظهور شكل نباتي غير طبيعي و هو أمر ثابت. وفي هذا الإطار المتعلق بالأسلحة الكيماوية، أشير إلى أن إنجلترا وقعت اتفاقية مع فرنسا بموجبها تم استعمال مراكز التجارب للأسلحة الكيماوية والتي كانت تعتبر الأهم في العالم بمنطقة بني ونيف Bani Ounif بالصحراء الجزائرية القريبة من الحدود المغربية، هذا المركز كان يتواجد على بعد 300 كلم جنوبوهران و الذي شرع في تشغيله سنة 1939، علما بأن فرنسا صادقت على بروتوكول جنيف (Protocole de Genève)، في 10 ماي1926، أي قبل انتهاء حرب الريف المتعلق بحظر و إنتاج واستخدام الأسلحة الكيماوية. إن بعض الجمعيات التي تشتغل على ملف الأسلحة الكيماوية وأثرها على الريف من الواجب عليها أن تعمل على بذل الجهود وتطوير أدائها بما يضمن استقلاليتها لأنه لحد تاريخه لا توجد دراسات علمية متكاملة لدى هذه الجمعيات، بل تعتمد في عملها نهجا سياسيا يحرك الملف عند حاجة الدولة المغربية إلى ذلك. دكتور في الحقوق- محام