عندما يكون الشعر قادرا على ا لصمود في وجه العولمة، وعندما يكون قرية صغيرة يشرب من مائها كل من يستطيع النقر على لوحة المفاتيح في حاسوب أو هاتف أو لوح إلكتروني.. ليعبر منه إلى الحياة، لأن الشعر حياة. يقع ديوان الشاعر المغربي الكبير محمد بوجبيري "كما لو أن الحياة كانت تصفق" الذي صدر بداية السنة الجارية عن بيت الشعر بالمغرب في 137 صفحة من القطع المتوسط، في طبعة أنيقة، يتكون من 24 قصيدة مصدرة بنص عنوانه "في البدء"، تختلف عناوين القصائد من حيث تركيبها وصوغها الشعري، بين كلمة نكرة [ أوان، أعصاب، صحبة، طمأنينة، عصيان، ظهيرة، طريق، بصيرة، دنو، أرق، أيقونات]و كلمة معرفة [ النبع، الريح]و كلمات تشكل تركيبا إضافيا [ وهم الطريق، تربة المعاني، شراب اليقظات] وأخرى تشكل تركيبا وصفيا [ أراض خفيضة] وجملا فعلية [ تعلَّم، يحدث، يُصر ولا يلتفت] أو اسمية [ ما لم يتعين لكنْ تبدى، كما لو أن الحياة كانت تصفق، جسدي ليس لي، بعض من عمى]. وهو كما نلاحظ تنوع وثراء في التركيب، وفي اختيار الكلمات ذات الحمولة الشعرية الكثيفة التي تجعل القارئ منذ العنوان ينحصر في سياق الدهشة، وهو سياق يرافقنا مع الشاعر حتى آخر نفَس، ومن ثم يؤسس لأسئلة المعنى والدلالة في ثنايا النصوص. ويبدو لنا بأن طغيان النكرات [11 مرة من مجموع 17 عنوانا] يؤشر إلى الغموض الذي يكتنف النسق الشعري البوجبيري، وذلك على عكس قلة العناوين التي أتت معرفة [ عنوانان فقط ]. أما من حيث الدلالة، فإن قراءة أولية لهذه العناوين تسلمنا إلى الإيمان بأن الحقل المهيمن سيكون هو الطبيعة/ الحياة، علما أن تجربة الشاعر بوجبيري انحازت إلى هذا المرقى واتخذته مجلى لقبساتها الشعرية كما في ديوانه الأول "عاريا.. أحضنك أيها الطين"( 1987)، بل حتى في نصوصه السردية مثل "سيد العشيرة". ولقد أخذ الشاعر عنوان القصيدة الثامنة، فوسم بها الديوان برمته، وهو أطول عنوان من بين بقية العناوين التي نصادفها فيه. كما أنه يتضمن كلمة "الحياة" التي نعدها محور تصورات الشاعر ورؤاه التي أسس لها في مجموعته هذه. بالإضافة إلى أنه عنوان مخاتل من حيث اشتماله على أداة التشبيه الكاف، التي صدر بها الجملة، وأداة الشرط "لو" التي تفيد في عرف النحويين امتناع الجواب، الشيء الذي يجعلنا لا نثبت على قرار صلب نتخذه بإزاء الحياة التي وصفها الشاعر بأنها كانت تصفق. إنه عنوان مشاكس، يمتحن اقتدرانا على توقع أفق انتظارنا بوصفنا قراء، فهل سنكون في صلب الحياة التي يبني لها الشاعر أم إن الكاف المخاتلة ولو الشرطية المانعة سوف تربكان حساباتنا؟ وبخصوص نص الإهداء، فيبدو كذلك مشاكسا إلى أبعد حدّ، فالشاعر يهدي كلماته إلى "أيقونة العبور"، وهي عبارة تستضمر من الغموض ما يجعلنا نعجز عن تحديد الأيقونة، وتحديد المقصود بالعبور. ويجعلنا نطرح الأسئلة الآتية: نحو ماذا العبور؟ إلى أين بعده؟ من أي طريق يكون؟ لماذا نعبر؟.. وهي أسئلة تضع أسّ الدلالة التي نبحث عنها ونستجليها من خلال ما سوف يصوره الشاعر بكلماته، هذا مع علمنا بأنه أنهى نصوصه بقصيدة تحمل عنوان "أيقونات" بالجمع وليس بالمفرد. وهي قصيدة تتكون من تسعة مقاطع/ أيقونات هي: سنبلة، غابة، شجرة، جبل، نهر، غيمة، حبر، سماء، سراب. وهي عناوين تشكل قبل قراءة متنها محطات حياة: في السماء غيمٌ ينزل ماءً يسيل نهرا أوسرابا على جبلٍ، يكون منها السنابل والشجر والغاب، وبالحبر يكتب ذلك كله ويحفظ، لأنه الحياة. إنه إذن عبور نحو الحياة، أو هو الحياة نفسها. أية أيقونة من التسع يقصد إليها الشاعر؟ وهل العبور يكون إلى الحياة أم عبرها؟ إذن تكون هناك حياة أخرى. أو ربما يكون لنا نحن ارتداد إلى الحياة الأولى التي قبل هذه. أما القراءة الثانية للمقاطع التي تشكل القصيدة الأخيرة من الديوان، فإنها تجعلنا نعتصرها في عناوين "لا طبيعية"؛ فالسنبلة استمرار للحياة، والغابة بحث عن الحياة، والشجرة انبثاق الحياة من تحت الأرض، أما الجبل فتوريث الصمود أمام تعاقب الحياة، وأما النهر فولادة الواحد المتعدد، فيم الغيمة عبور نحو الحياة، والحبر إقامة في الحياة شهادةً على ما كان وما سيبقى، وفي السماء حنين إلى لحظة الولادة الأولى، ليهيمن السراب في الأخير ويغيِّب اليقينَ. لقد فشل الشاعر في البحث، وهو يَعبر نحو الحياة، عن المعنى بل عن اليقين. فأعلن السراب فوزه على الذات الشاعرة الباحثة صارخا في وجهها: يا هذا !! كفى بحثا عن اليقين، لن تجد غيري. أنا السراب. بهذه الكلمة ينتهي الديوان/ الحياة التي كانت كما لو أنها تصفق، وتنتهي الحياة، لكن بعد أن عرفنا النهاية، كيف البداية؟ وما الطريق التي سلكها الشاعر وهو يجدُّ في البحث فانحرفت به عن القصد؟ وهل كانت شاقة أميسيرة رحلته؟ تلك هي الورقة. البدء: كان الشعر ولا يزال كائنا في زمن الثورة الرقمية التي سوف تخدمه لتتسع جغرافيته عرضا وطولا وعمقا. وكفى. طريق الرحلة: تبدأ أولى قصائد الديوان، وهي "وهم الطريق"، هكذا: واصل السير، وترك المشي للطريق. إنه إقرار وإصرار على أن السير بدأ قبل أن تبدأ قصائد الديوان، وأن الشاعر خبر الحياة، وهو موقن من مآله فيها. والطريق بداية، على الأقل نحس مع الشاعر أن له خريطة ومسارا وخطى وعزيمة وإيمانا.. سيمشي في دروب توصل إلى الحياة واليقين في الحياة. لهذا آثر أن ينبثق من "النبع" أولا قبل أن يصير "سرابا" أخيرا. سأصفها بأنها رحلة التعب والضياع، ولكنها ككل رحلة تحفل بالدروس والعبر سوف نجليها من الشاعر القدير. إن كلمة العبور التي وردت في نص الإهداء، تتحول في بداية قصيدة "النبع" إلى "العابر" حيث يقيم الشاعر، خفيفا يسمي حبره، ويمنحه بذلك الشساعة والإمكان، لأن اليابس الذي هو مقابل العابر تيميا، إمكان الجفاف واللاحياة. يقول الشاعر: وفي اليابس القارّ يجف عن آخره ثديٌ محال. وما وصف الشاعر الثدي بالمحال إلا من أجل الإمعان في قساوة الجفاف وفداحته، وأجمِل به من وصف يحمل في طياته تاريخ الجفاف ونسله اللاينقطع، فحتى الثدي الذي يحيل على الحياة ومنه تنبثق شرارتها الأولى بعد الخروج من الرحم وُصف بنعت قاتل وهو "محال". إن النبع توّاق، وخريره نازل، وهادر وعابرٌ محطات محاها الجفاف اللعين، واصَّاعد من أعماقها. يقول الشاعر: لكن ما سر الحمّى الصاعدة من أتون الأعماق؟ … ثم ما حكاية السراب الدافق صخابا في المحيط، كما لو أنه أصيل في الماء؟ بهذه الدهشة المسائلة يجمع الشاعر المتناقضات، ويهتم بالسر والحكاية، فلكل شيء سر دفين، ولكل حياة حكاية معلنة، تأتي السفوح عليمةً، والليل عارفا مشعلا حمرة الإمكان، وفيه تنفرج الأفراح والمباهج إناثا تصخب على صهواتها، ويأتي الملاك نشوانَ، أما الجمال الذي سيصير فهو يستدرج النبع ويضرب ويصب ويتدفق وينهمر ويضيء. لكن لا أحد منا يراه، لأننا مجرد موتى على أرصفة نرقب من خلالها الحياة التي لا تدب فينا. في الطريق لا يصحب الشاعر إلا نفسه، فهو الآخرون عندما يكون وحيدا، وهو متعدد حين يغيب الآخرون. هنا يتماهى مع النهر الذي يمشي سيرته، فهو الواحد المتعدد، المنحدر صخّابا، الذي هرمت خطاه في التنقل بين النبع والمصب/ الحياة و الشعر، المرِح الجذلان، المنهمر المغتبط دائما. هذه صفات كلها نجد لها مماثلا في ذات الشاعر. وما قلناه عن النهر ينطبق على الريح، فهي تحمل بُزاة الأعالي، وتمزق شراع القرصان، وتنهر إلى الأراضي الخفيضة كتلا من الضباب، وتقصقص أغصان الغابات لتنبت من جديد، وتبعثر الحقول، وتعنف كل باب مغلق، وتنزع الستائر من النوافذ، وتدفق الهواء في المنازل، وتطرد الكسل من غرف النوم، وتجعل العذارى ينطلقن بحرية وهي تبعثر ضفائرهن، كما أنها تكشف عن الرؤوس الحليقة عمائمها علامة انتمائها إلى الأرض، وفي النهاية تصير ثورة، تجيش المقهورين ليسقطوا النياشين، ويعود الحمام على الساحات. ذاك هو الشاعر نفسه، وتلك مهمته. أن يعبر إلى العالم ويغيره، فيجعل الشعر قادرا على الصمود في وجه المتغيرات التي يعرفها في هذا الزمن. قال الشاعر: وبكل العثرات، ستعبر العالم. لهذا نجد الشاعر تدنو منه العصافير يقدم لها الماء، واليابسة العطشى فيستدرج لها الغيم من الأعالي، إن الشاعر إنسان رحيم لا يكتفي فقط بتربية النبتةفي الأصيص حتى تستعيد عذريتها الأولى. في خضم ذلك، يستمر الشاعر في المشي، لأنه يؤمن بأن ثمة دائما طريق لا تعنيه إلا هو، مصرا دائما على عدم الالتفات، خاصة إذا توغل في المشي. وهي معان مما أشار إليه الشاعر في قصيدته "بعض من عمى" القصيدة التي سبر فيها العميق من المعاني التي يعجز الناقد الحصيف والقارئ الذكي عن كشفها، وتتبع خيوط السرد الشعري الذي يرمي بهما إلى التيه وضياع الطريق. يقول الشاعر: المشيُ أفقان: واحد في الحذاء، الآخر في النوايا، وما بينهما تاه الطريق. إن الشاعر الراحل متنبه إلى الطريق ووعورتها، فهو يملك تجربة الحياة التي مشاها عمرا، إذن فإن الوصول إلى الشعر/ نهاية الرحلة يتطلب عدم توهم أشياء قد تثبط عزيمته. لنقرأ: لأنك تمشي، لا تعتقد أن كل شيء يسير. عندما تتعب، وتتوقف، لاحظ.. الطريق من دونك يسير. إنه متبصر، وذكي، ومصر على عدم الالتفات، بهذا ترسم خطاه كتابا آخر ليعبر منه إلى الحياة بصحبة الطين الخالد. بذكاء البصيرة، وبكثير من عدم التفات، كانت الخطى تكتب سِفرا آخر من الانتماء. هكذا يكون الشاعر في طريقه التي يمشيها، وحتى إن عاد سيسلك الطريق نفسها، وسيقترف الأخطاء ذاتها، وبكل فرح سيمشي الطريق من جديد مع حبه الوارف للواحات وللريح لأنه الشاعر. هكذا نجد في الديوان مسارات متعددة، مسار الشاعر الباحث عن الشعر لكي يوطنه في زمن لم يعد يكثرت به، ومسار الريح التي تعادل الثورة، ومسار النهر الذي يمنح الحياة للأرض، ولنقل إن الأرض هي الحياة.لذلك فلا غرابة أن يصف الشاعر ذاته بأنه النهر وأن النهر طريق. أنت الطريق، لا تلتفت، تلك مهمتك. في رحلته دائما، لا ينسى الشاعر أن ينعزل عن كل آدمي [نستثني عثمان* وحده، فهو الآدمي الوحيد المذكور في الديوان، وهو الذي حظيَ بدعوة الشاعر!]، ويطمئن إلى الأراضي الخفيضة منجاه وملجأه، فيجلس إلى النبع والشجر والنهر والسرب بوصفهم خلانه. إن الاختلاء بالطبيعة البكر ونبذ المدينة وتعبها وحماها ودبيبها وحُفرها لَمِمَّا يورث الطمأنينة في نفسه.ونجد من العبارات الشعرية الكثير مما يدل على تشبث الشاعر بالأرض، والتعلق بها، مع حضور سؤال همّ الرحيل، من ذلك مثلا: تلقائيا كلما استيقظ اتجه نحو النافذة. دائما كل صباح، كما لو أنه كان يخشى على الحقل من الرحيل؟ وفي قصيدة "سراب اليقظات" تستوقفنا جملة، يمكن أن أعدها بكل ثقة مفتاح تجربة الشاعر محمد بوجبيري الشعرية، وهي قوله: لكن دعني.. إني ممتنّ للطين. إنه اعتراف يختزل مشروعه الشعري التوّاق إلى معانقة الأرض، والكتابة لها، وليس عنها. إنه شاعر الأرض التي أحبها منذ وجد على ظهرها، فجدير بها أن تفخر به. يبدو من خلال الاطلاع على قصائد ديوان "كما لو أن الحياة كانت تصفق" أن الشاعر خبير بالأرض وخباياها، وخبير بمكوناتها، ريحها وشجرها وسنبلها ونبعها ونهرها.. ويبدو لنا من بعض السطور هذه المعرفة بما تنتجه الأرضمن غلات. يقول الشاعر: السر في البذرة، والفاكهة نكهة عابرة. صحيح، إن فيه عمقا فلسفيا. تحول الذات الشاعرة: في خضم رحلتها، لا تبقى الذات على حالها، لأن التحول مطلوب من أجل مسايرة متغيرات الرحلة الشاقة نحو الحياة، ولأنها ذات قروية تمتح من الجبل صلابته، ومن الماء ليونته، فإنها تجعل لها شروطا من أجل تحقيق التحول، والانسلاخ من هاجس الحيرة إلى مكمن الانتشاء والاطمئنان، ذاك الانتشاء يكون بخدمة الأرض وتحويلها إلى مُخصب تستنبت السنابل والظلال، لعل أبرز الشروط تلك التي رصها الشاعر في قصيدته "تربة المعاني"، وهي: ✓ أن يكون الشاعر هو نفسه؛ ✓ ألا يلتفت؛ ✓ ألا يكترث؛ ✓ ألا يستبق الخطى؛ ✓ أن يكون مُصرا. وهي شروط تحوله من وضع الجهل واللايقين إلى وضع العارف المتيقن من كُنه ذاته ومكنونها. لكن هذه الشروط وحدها لا تكفي، فهناك أحيان أخرى قد يتطلب الأمر فيها أشياء أخرى، مثل الإقامة في الذات وعدم مزايلتها، في حال العصف أو العطف أو الاستكانة، لأنه لا أحد معها غير ذاتها هي، بصحبة الطين القديم والعراء الأثير. بهذا الشكل يتعالى الشاعر على كل ما هو أرضي ويتسامى على قوانين الكون، فيتماهى مع الطبيعة: غسقِها المضيء. هذا التحول، أليس تشوبه أية شائبة؟ بلى. يقول الشاعر: شؤونا نسيتها وأنت العابر آفاتٍ، إن عدم لزوم الذات الشاعرة فيه شقاء وتعب، لكن العودة إليها تحمل النشوة والانفتاح والانشراح، لا نظن أن الشاعر في تحوله، ينسى أشياء جديرة بعدم النسيان، كيف له أن ينسى وهو المهووس بالحياة تدب في كل ركن من أركان القرية، كيف ينسى ما يحمله الأصيص الطارق الذي تفتقت مكامنه بالرعشة واستمد السماد، فهو شغف أو مجرد بريق ندَّ شهقة من الرئات. كيف ينسى اليد الرحيمة التي تمتد في غفلة من الأصيص في الظلام فتنقذه من الذبول والموت في صمت. من ها هنا يأتي المعنى رجّة تقيم في كل نابت. من هنا تأبى الذات الشاعرة القروية إلا أن تصبو نحو رهانها الأبقى، وهو العودة إلى الأرض، ومَلؤها سنابلَ ذهبية. يقول الشاعر: تأبطْ معولك، إذن، وانزل إلى أراضيك الخفيضة. التحم بالأنواء، وساعة الرمضاء لقِّحْ غيمة. التحف بالرذاذ، واستنبت سنبلة تليق. وبالرغم من أن الشاعر يقر بوجود عاهات في مطلع قصيدته "ما لم يتعين لكن تبدَّى"، فإنه يعود إلى ربط صلته بالأرض، مقرا على أنه لا يكون قريبا من نفسه إلا إذا كان قريبا من الأرض، ومتيقنا من استمرار ما هو قديم فيه، وهو حب الأرض والارتباط بها برغم حداثة الرشد في المدينة.في بعده عن الأرض يجد عافيته، وفي الوقت نفسه يصاب بالعاهة. أي تناقض هذا؟! بعيدا.. بعيدا كن عافيتك. كن عاهتك، ولا تلتفت. ليس ثمة أي تناقض، إنه يقين بضرورة التحول، وإصرار على البحث عن الذات التي يلزم الشاعر أن يبتعد عنها ليعرفها أكثر وأعمق، فمع قربه منها لا يكون هو، ولا تكون هي، إنه يشاكس من أجل اليقين. في ذلك يصاحبه الإصرار القديم، فعدم الالتفات دفع لأية كارثة يمكن أن تقع، ودفع للعذاب الذي يمكن أن يلحق به، لأنه يوهمنا أنه تخلى عن الرحلة وعن الهدف. قد ترجمه الأرض بالحجارة، وكأنها تنتقم لنفسها بأخواتها. وبالإضافة إلى العاهة والعافية المجتمعتين في ذات الشاعر، يجب أن تتماهى مع النوء، وأن تصير مشبعة بالحب، وأن تتحد مع قصدها ووجهتها، وأن تتبدى. لماذا كل ذلك؟ لأن ثمة عاهاتٍ الشاعرُ هو إكسيرها ودواؤها بحسبانه النبعَ الصافيَ. نلاحظ في هذه القصيدة دعوة متكررة من الشاعر إلى ذاته من أجل التعلم، وكأن الحياة كلها تجارب يجب أن يكون مصدرها التعلم للإفادة منها، وبإلحاح دوما يتكرر فعل "تَعلَّم". ومع فعل التعلم هذا يلح السؤال، مع العلم أن السؤال هو باب التعلم ومفتاحه. إنها أسئلة محيرة تعذب الشاعر الباحث عن اليقين وهو يصوِّر الحياة والتحول فيها. لِمَ الآن سقطت منها الشفاه؟ لم العناق، وإن أصر، يسقط منه التضامّ؟ لم الأيام غدت بلا أيام؟ يستمر التعلم لدى الشاعر، ويخترق القصيدة السابقة إلى القصيدة اللاحقة، ويجعل لها فعل التعلم عنوانا "تعلم"، متصرفا في زمن المستقبل على هيئة فعل الأمر. هل الشاعر أعلى منزلة من القارئ الكريم؟ هل أمره ملزِم؟ هل يحق له أن يصدر أوامر نلزم بالخضوع لها؟ نعم، خصوصا إذا تماهينا مع ذاته، أو حلَّ فينا. في رحلته بحثا عن اليقين والذات، يجب أن يتعلم أشياء كثيرة: 1. أن يلتفتفي الوقت المناسب لأنه كل الجهات؛ 2. ألا يتسمم بلدغات الأفاعي؛ 3. عدم نسيان الواحات والظلال؛ 4. تخزين الماء؛ 5. الاشتهاء؛ 6. الحكي وإعادته. في التعلم تحدث أشياء كثيرة كذلك، هي قد لا تروق الشاعر، لكنها تفيده في غوصه نحو أعماق الذات الشاعرة. من ذلك مثلا: القلق والهواجس والحياد والضجر. ولحدوث ذلك كله أحوال: تأبين الظلال، وإيواء الورد له، واستقرار الشمس في ملكوت السماء. في خضم ذلك يطلب الشاعر اليراع، لكن لا شيء يسعفه، لا المداد ولا المكان ولا العبارة، فيختار الخروج بعيدا. أداة الرحلة ووسيلتها: ليست غير حِذاء. لكنه حذاء الشاعر الذي يمشي موقنا من النهاية، وموقنا أن الطريق سالكة برغم المطبات والعقبات، إنها الحياة ولابد أن يمشيَها حتى وإن أوهمنا في بداية الرحلة/الديوان أنه سيترك المشي. يقول: وترَكَ المشي للطريق. سيمشي ليقينه أن هناك من سوف يؤنسه: الخسران كضريبة مشي، والتعاقب/ الزمن الذي لا يكل ولا يمل، فبوجودهما يحث الخطى التي لا تسلم في كل مرة، ويأخذ العبرة من إصرار النملة، وهو يعلم أن هناك طرقا لا تؤدي إلا إلى اللامكان. أما الألم الذي يتركه المشي فهو "آية تضيء".وخطاه لا تموت أبدا، فهو يعود على خطوه القديم كلما بلي الجديد منه، إنه ماض وقاصد، صعودا ونزولا، هاربا ومنتشيا. وهو يمشي يحفُّه السؤال حتى على وسيلة المشي تلك. هل يكفي تلميع حذاء كي يعِد الطريق؟ ومن الملاحظ في الديوان أن ثمة كلمات تنتمي إلى معجم السفر تهيمن على لغة القصائد، فنجد الخطو والطريق والمسافر والحذاء والبداية و…. غير أن الضمير يعرف نوعا من التحول، ففي غالب القصائد يبرز المفرد متكلما أو غائبا، غير أن في قصيدة "كما لو أن الحياة كانت تصفق" يسرد الشاعر باستعمال ضمير الجمع الغائب، مؤشرا على فئة من الشباب غادروا القرية "ماشين" في طرقات تدخلهم إلى الحياة، وتبعدهم من ذواتهم؛ إذ إن نكران الذوات في كل رحلة هو بداية الطريق، قال الشاعر: أدركوا أن المعطل في الفهم كامِن في طريق لا يَمشي. وأن الخروج منهم أولُالطريق. في هذه القصيدة نشعر أن الهمَّ جماعيّ طغى، وأن الذات اندمجت في الجماعة وصارت تحكي عنهم وهي واحدة منهم، لأن منبعهم واحد، وطريقهم واحدة، وقصدهم مشترك. إن الحياة التي يصورها لهم الشاعر تتجدد، وتتعاقب، ويستمر فيها العبور، وهي أحوال وتحولات، غير أن الصفة التي تجمعهم جميعا هذا الجهل بالحذاء نفسه وسيلة االرحلة في الحياة، واليقين الفارغ في الوصول، والأعراف التي تصفق. قال الشاعر: وما خبروا، أن في الحذاء أحوالٌومنازل*. أحوال الرحلة والذات الراحلة: لماذا يتنكر الشاعر لجسده؟ لماذا يتبرأ منه؟ لماذا يعده احتمالا فقط؟ لماذا ليس له؟ لماذا فيه يحس بالتعب؟ لماذا يجهله؟ إنْ هي إلا أسئلة تجيب عنها قصيدة "جسدي ليس لي" التي تبلغ طولا 143 سطرا شعريا، تتدفق بانسياب وكأنها النبع الذي يحبه الشاعر، ولا تتعثر، ولا تحمل عاهات يكرهها. إن الشاعر مع جسده حال واحوال؛ فقد يتصافيا ثم يتجافيا، وقد يتواحدا ثم يسلك كل منهما طريقا له. متى؟ عندما تداهم الشاعرَ القصيدةُ، وعندما تداهم الجسدَ الرغباتُ الفانيات. هنا يتسامى الشاعر، ويجهد نفسه من أجل رحمة الجسد الضجِر، فهو يغمسه في نهر الحياة، ليعودا إلى التجافي من جديد، والحرب والعراك، فيبادر هو إلى القطيعة، مقرا للشاعر بأن الوصال صعب، حتى وإن ملك هذا الأخير عصا موسى التي تضرب البحر فينفلق طودين شامخين، إن الغرابة تفرق بينهما، وتستنبت القرح والفرح والسنابل والقصائد التي تجعل الشاعر يتشظى ولا يندثر. أقدح فيه قرَحا ومنه أغرف فرَحا أستنبت السنبلة، كما القصيدة. أكتب، وأمحو. أتشظى، ولا أتبدَّد. ومع كل ذلك فإن الشاعر يعدد الأحوال التي لا يكون جسده له: فهناك حال التثاؤب والنوم والإصرار والتعب والألفة والاندماج في الآخرين. في مقابل ذلك، يكون جسده له عندما: يعدوان على الوهاد، وقبل الزفاف، وعلى الطريق، وعلى باب الرجاء. هذا الاتصال والانفصال يستمر في القصيدة التالية، وهي "أوان"، غير أنهما يحملان وجهين آخرين، هما الفكرة والخطى، فالأفكار تلتقي، فيم الخطى لا تلتقي أبدا. كان التقاطعُ التجاورُ، ولم يكن اللقاء. في رحلته هذه، هل وجد الشاعر ما يبحث عنه؟ هل وجد ذاته، لقد طرح السؤال بإلحاح، فقال: إنما كان يذهب إلى نفسه باستمرار. هل وجدها؟ هذا هو السؤال. إنه لم يجدها، ولم يفهمها، لأن الحياة الواحدة التي يحياها لا تكفيه، إن لديه أملا في حيوات متعددة، حياة واحدة لا تفي بالقراءة وحدها، فكيف تفي بالفهم؟ خصوصا فهم النفس التي لا تفهم. هذه الدلالة تستمر في القصيدة التي تلي "أعطاب"، وهي "سراب اليقظات"؛ بحيث بدأها الشاعر بالإخبار بكمية الفهم اللازمة، وهذا الفهم يكون بالعقل وليس بالحواس، وطريقه الكتابة وما يجده الإنسان من مشاعر يسمو بها عن جسده الذي هو عثرة، لأن الحياة في حسبان الذات الشاعرة مجرد ومضة تستحق أن تعاش روحا. وتجدر الإشارة إلى أن الديوان ينشرح على مراحل هامة من حياة الذات الشاعرة، الطفولة والصبا والمراهقة والرشد والكهولة وغيرها من المراحل التي نجد لها تمظهرات في ثنايا النصوص، فمثلا: الحب في مرهلة المراهقة، بحيث وصف الشاعر الأرشيف بأنه وردي، يحتوي رسائل مختومة بأحمر الشفاه، في إشارة إلى بداية التحاب، أو تذبذب ذات الصبي في مرحلة الصبا وعدم استقرارها على حال، كما في قوله: يكفي، وأنت الصبا، والآتي في العنان، أن تقيم فيكَ، وأن تعصف، أو تعطف، أو تستكين. وتأتي الشيخوخة في نهاية التعاقب، "هُبي.. أنا العرااااء".فتجد الشاعر قد صار إلى ما صار إليه، العراء من كل حياة. الخاتمة: انتهت رحلة الشاعر، وانتهى إلى الضياع الذي يمكن أن أسمه بأنه عنوان تجربة الشارع محمد بوجبيري في هذا الديوان الذي يكرس فيه تجربته الشعرية الفذة التي تمتد على مدى عقود، منذ بداياته الأولى زمن السبعينات إلى غاية اللحظة التي أدون فيها هذه الكلمات. غير أن الضياع هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أعتبره نقيصة، أو وصمة تقل من شأن العمق الشعري الذي بلغه الشاعر وهو يرص هذا المنجز الفذ، لأن ذلك مما يبين شدة ترابط المتن الشعري في الديوان، وتشبث الشاعر بالتيمات التي اشتغل عليها، واتساق ذلك كله في إطار ديوان متماسك، شديد الإحكام، لا يمكننا أن ننتقل من قصيدة إلى أخرى إلا ونحن نحمل معنا منها بعض الصلة بما يليها. وتلك–لعمري – قمة الإجادة، لسنا في الديوان منعزلين عن ذات الشاعر الناطقة، وليس الشاعر بعيدا عن ذاته، إننا وإياه كل متكامل، وبنيان مرصوص يشد بعضه بعضا. يقوي هذا الارتباط تعالق وجدان الشاعر ومعه نحن بالأرض أمنا التي ولدتنا، وإخلاصه لها ليس في هذا المنجز وحده، بل في تجربته الشعرية ككل، التجربة التي يمكن أن أصفها بأنها مشروع شعري ممتد، لا يحيد قيد أنملة عن المسار الذي اختطه له الشاعر الإنسان المبدع القارئ الناقد محمد بوجبيري ابن حلوان الأرض الثكلى.