يمكن القول إن الرؤية الكونية في أبعادها العامة، و بانسجام تام مع نزعتها المركزية، الموغلة في تسلطها المضمر أو المعلن، معنيةٌ بإخضاع هوية العالمِ لقوانينَ منفصلةٍ تماما عن قوانين الخصوصية اللصيقة بهويات الشعوب. بالنظر إلى تجذر حالة الهوس الحداثي في دواخل النخب العربية، سيكون من الطبيعي أن تهيمن خلال العقود الأخيرة ظاهرةُ الحلم بالاندماج في فضاء الكوني على حركية الخطابات السياسية والاقتصادية والثقافية ،باعتبار أن تبني الرؤية الكونية هو المفتاح السحري الذي يتيح لهذه النخب إمكانية ولوج الصالون العالمي،الذي تتواجد فيه المقولات والأنساق الكبرى المتحكمة في تأطير هوية الكائن، وفي توجيه ما يتنازعه من مصائر ،حيث تتوقف مصداقية ما يطرحه من أسئلة، على مباركة أعضاء المنتدى الكوني، الذين يتولون أمر تكريسها بالنفخ فيها من شواظ أرواحهم المعتدَّةِ بتفردها وتعاليها، تمهيدا لتعميمها في دوامة صخب إعلامي، يشمل مختلف الجغرافيات البشرية، مهما تعددت لغاتها، أو أعراقها، ولا شك في أن كل الخطابات/ النصوص، ومعها القيم التي تحلم بتزكية أعضاء منتدى الكونيّ لها، ستكون مجبرة على الالتزام بكافة المعايير والمقومات،التي يمكن تلخيصها في شرط الارتقاء بإشكالاتها الثقافية أو الإبداعية، من خصوصيتها الضيقة والمنغلقة على قناعاتها المحلية الصنع، إلى مستوى ما يعتبر في نظر الرؤية الكونية، أسئلة جوهرية متمحورة حول « الاهتمامات الذهنية، والحضارية «للذات البشرية، وهي رؤية أمست حاليا بمثابة مِحكٍّ فِعْليٍّ وموضوعي، تُختَبر على ضوئه وبشكل حاسم، مشروعية ما تنجزه المجتمعات من مخططات، كما تختبر على ضوئه حدود ما يتميز به مُنجزها من قُدرات تفاعلية ، تخول لها إمكانية التواجد في المواقع الأمامية من المشهد الحضاري. وبموازاة ذلك، يجب التنبيه إلى ما توحي به كلمة الكوني من دلالاتٍ،تفيد خاصية الانصهار الساذج في صلب مفاهيم مخملية، يتعزز بها أفق حداثةٍ، منزهةٍ عن بؤس تناقضاتها ، فضلا عن كون التصريح بالانتماء للكوني، يتضمن عمليا ذلك الحرصُ العنيد على التموضع في الواجهة الأمامية للمشهد الحضاري، التي هي بمعنىً ما، الحدُّ الفاصل بين مستقبل حداثي واعدٍ بانتظاراته- مهما كانت هذه الانتظارات غارقة في ضحالة الأوهام – وبين ماض تقليدي يعتبر من وجهة الرؤية الكونية متقادما، ومثقلا بسجلات ومدونات اجتماعية وأخلاقية وسلوكية «تتخبط في ظلماتها»، بفعل تموقعها خارج حركية وجدلية الصيرورة. من هنا يمكن القول، إن نداء الانتماء إلى الكوني، لا يعدو في حد ذاته أن يكون دعوة للانتماء إلى فضاء استيهامي، يتيح لشعوب الهامش، إمكانية الانفلات من كوابيس أعطابها، كي تحظى ولو على سبيل التمني، بالتعايش في رحاب الأزمنة المستقبلية ،المتفردة بقوانين اشتغالها المستمدة من جماليات اليوتوبيا المتعالية، والواعدة بقيمها المثالية. بهذا المعنى تكون فكرة الكوني صالحة لأن توظف بوصفها فضاء تجريبيا،من قبل القوى النافذة، لاختبار ما تعتبره هي- ولا أحد سواها- مشتركا بين مختلف الجغرافيات الثقافية والحضارية، وقابلا لأن يُعتمد كفضاء افتراضي مصغر، تجرب فيه إمكانيات تعايشات ممكنة أو مستحيلة، بين ألوان وأصوات، تبدو ظاهريا غير مهيأة للانتظام في أي نسق مشترك،على أمل أن يسعفها هذا الفضاء الافتراضي والنموذجي، بما تيسر من عناصر الائتلاف أوالاختلاف، التي يمكن أن تساعدها على قراءة ما يموج به العالم ككل من اختلالات وتناقضات، وهو ما يتيح للآخر وبشكل مباشر، إمكانية تشريع وأجرأة القوانين الكفيلة بتنظيم العلاقات القائمة بين الشعوب، من خلال استكناه أسباب غرقها المزمن في مستنقعات خصوصياتها، والنظر مقابل ذلك، في إمكانيات تقويم هذه الأسباب،كي تتفاعل هذه الشعوب تلقائيا أو ضدا على إرادتها، مع توجهات الكوني، الذي لا يتردد في الكشف عن أنيابه كلما دعت» الضرورة الحضارية‘‘ لذلك. من هنا يمكن القول، إن الرؤية الكونية في أبعادها العامة، وبانسجام تام مع نزعتها المركزية، الموغلة في تسلطها المضمر أو المعلن ،معنيةٌٌ بإخضاع هوية العالمِ، لقوانينَ منفصلةٍ تماما عن قوانين الخصوصية اللصيقة بهويات الشعوب، بمعنى أن تكون مجبرة على تأسيس منهجية عملها،على فرضيات منقطعة الصلة عن فرضياتها الذاتية، حيث لا مجال لاقتراح قوانين نظرية مضادة لقوانينها، وحيث لا خيار للراغبين في الانتماء إلى المنتدى، سوى الامتثال لما تراه هي حقيقيا وموضوعيا. إن الأمر حتما سيكون شبيها بسرير بروكوست،حيث ليس لقدمَيِّ الخصوصية الممددة عليه أن تتجاوز بأقدامها حافته الحديدية .هكذا إذن ستكون القوانين المملاة من فوق، جاهزة للاستجابة لامتياز القوة الغالبة، وليس لِهوَى ذواتٍ هاربةٍ من عِوز مساكنها المعرفية، كما أنها ستكون مستجيبة ومنسجمة مع إرادة المتحكمين في ارتياد المنتدى،اقتصاديا وتكنولوجيا و ثقافيا. بمعنى أنها ستكون تبعا لنزوعها الانتقائي، عدوانية وإقصائية ومنزوعة الفؤاد. لذلك فإن القول بتعميم قوانين الكوني، بغاية اعتمادها أرضية للعمل المشترك الذي تنتظم به حركية العالم ،سيكون له تداعياته الكارثية على الهوامش المستبعدة من حظوة التملي بطلعة المراكز الحضارية الكبرى، والإقامة الآمنة في حدائقها، وذلك بالنظر إلى نسبية المشترك الذي لا يخلو من طابعه الرومانسي والمثالي، حيث تُستحضر دلالة الرومانسية والمثالية هنا مقابِلها الموضوعي، مجسدا في الخطإ الجسيم الذي ترتكبه الذات لحظةَ تقييمها لعلاقتها بمختلِفٍ،لا يتوانى عن المجاهرة بشراسته وعنفه، كلما ألحت خصوصية ما، على التلويح باحتمال إفسادها لهواء الكوني، الذي لا يكف عن التمحور حول ذاته المتوجسة من خطر مزاحمة هوامش تبدو له مثقلة ببؤسها التاريخي والحضاري. وهي المفارقة التي رسخت لدينا الاعتقاد بأن جمالية الكوني ليست في نهاية المطاف، سوى حجابٍ يصرف انتباهنا عن معاينة شراسة وعنف هذا المختلِف، المستبدِّ بمهمة توزيع المقامات والاعتبارات، استبدادَهُ بمهمة توزيع الوظائف المنوطة بالشرائح الجغرافية، كل منها على حدة، من أجل أن يظل الكوني، شبيها بمنتدىً محروس بكائناته الأسطورية . وهو الاعتقاد ذاته الذي يحاصر المؤتلف في أفق شاحب ذي إطلالة مؤجلة إلى أمد لا شمس تَعِدُ بالإشراق في سمائه،إنْ على المدى القريب أو البعيد.وهو التنابذ الصارخ القائم بين معادلة ملتبسة، تتشكل من طرفين متضادين يناصب كل منهما العداء للآخر، حيث ينحفر ذلك الحد الصارخ بين مختلِفٍ متعالٍ، لا قِبَلَ له بفتح أي حوار محتملٍ مع مؤتلِفٍ غير جدير بأي جوار. أيضا هو التنابذ الذي يتحول معه الكوني في عين الخصوصيات المحاصرة بتغريبتها التاريخية، إلى نار يوتوبية تنجذب لشراراتها الحارقة فراشاتٌ الإبداع المسكونة بأحلامها القزحية، والمتهيبة من ضوء أي يقظة محتملة. الغريب في الأمر أن مبدعي الهوامش المنبوذة ، إما على المستوى اللغوي، الاثني أو العقدي، هم الأكثر هوسا بالانتماء إلى جنة الكوني، مقارنة بساكنته الفعليين، وهو هوس يتضمن إشارتين بارزتين، تفيد أولاهما الإصرارَ على فك الارتباط بالمحيط الذاتي الذي يطاردهم كوَبَاء، يزري بخطاباتهم، ويحيل على خصوصيةٍ أقصى ما تتميز به، إشعاعُها المحاصرُ بفرجته الأنثروبولوجية. وبالتالي، هل يمكن القول، إن الكوني هو في نهاية المطاف، ليس أكثر من أكذوبة مزدوجة الحدين، دأبت المراكز على تلفيقها أوَّلاً قصد إقناع الهوامش بحتمية سلطها، في أفق ممارستها لاستقطابات انتقائية وغير مشروعة ، كي تتهافت ثانيا، نُخَبُ الهوامش على ادعائها، طمعا في اعتراف، يظل هو أيضا مجرد أكذوبة بيضاء، لا تستحق أن تنال ولو حظا بسيطا من التفنيد. لكن، ومع ذلك وعلى سبيل عناد أعمى أو يكاد، سنحاول نحن أيضا، ما في وسعنا ألا نكون عدميين تماما، كي ندلي قليلا بما تيسر من دلونا، في تمجيد المشهد الكوني، متوجسين من قسوة تلك الغربة القاتلة المتربصة بأجسادنا وأرواحنا فيه.