فتح الأستاذ الباب وتبسم وقفل راجعا لأتبعه، كان يحمل طستا صغيرا وفوطا، استحييت لأني أفسدت عليه سكينة الفضاء وقلت لنفسي أوبخها أما كان أفضل أن تأتي في الوقت المحدد كالآخرين. كنت تطمع أن تفتح هي الباب لتتأكد من قيل وقال التلاميذ، لكن كلما جئت قبل الموعد وجدت الشيخ يجدد الوضوء. حر مكة ليس كحر فاس، الأزقة والمياه العذبة لوادي الجواهر تلطف القيظ، وليل فاس فوق السطوح ينسيك شمس النهار، أما في مكة فلا بديل للهجير سوى الطواف ودروس الأستاذ بعد كل صلاة العصر. ورغم ذلك في كل يوم أقول هذا المساء أرحل. حتى رأيتها وتوقف الحر فجأة ورق النسيم وغردت العصافير» ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض السيئة الأغراض لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن …وفي خلقها الذي هو روضة المزن.» في البداية سعدت بالرؤية أيما سعادة، وعند السجال في حلقات الدرس ابتهجت بذكاء التلميذة التي بزت الخلان وتجاوزتهم في الفهم والدراية. وزاد حضوري وتقوت مواظبتي حتى بدأ الغمز واللمز، فاستحال الأمر إلى اضطراب يتنقل بين حرين، حر مكة وحر الاشتياق أو برودة الغيبوبة والسرحان. كلما رأيتها تذكرت أمي الأمازيغية، تذكرت الوشم والزغاريد والنسيج. أعلم أن رقتي واستعداد حواسي وعقلي لتلذذ الجميل كله من أمي التي أرضعتني سنتين وأغدقت علي الحب والحنو الزائدين.طريق الكشف استعداد وراثي إذا. كانت الأم تغني بلغة لا أفهمها، النسوة في قرطبة وحدهن يتكلمن لغتهن، كانت العربية مستبدة وكان كل من يصنع شجرة أنساب عربية يقيم حفلا ويذبح الذبائح. لكن بحس غريب ما كنت أشعر أن وراء الأندلس شعبا يفهم الكون والملكوت أفضل من الشرائع والكتب. وحملت في قلبي عشقا لمراكش، وأقسمت أن أسافر إلى فاس والجبال الشاهقة حيث الضباب والثلج وحرب الأسود. من أمي تعلمت الرموز؛ والرسم؛ والشعر، والأسرار التي لا يستطيع العقل وحده أن يحملها. وزاد الأمر قوة وبهاء كتابة اللوح وجمال حروف القرآن. كنت أتيه في النون والهمزة والكاف، أعتبرها ديارا نقيم بها وكائنات تحدثنا، منها الفخم الجليل؛ والقوي الرصين؛ والباهت العليل. مثل البشرتماما، لبنات الكلمات وأسس المعاني والوجدان. الأمر الذي اتخذ وعيا نظريا بالعودة إلى الفيثاغورية ومن خلالها الحكمة الإشراقية والسحر الكوني وتعاليم السهروردي والجيلاني. هذه أدوات فهم «النظام» وحسنها وروعة قوامها واتساق أجزائه وفتنة المحيا، ثم فتنة القول. أن تضيف ذكاء العقل إلى فطنة حسن العيش، إلى الكرم إلى العفوية، كل ذلك في جسد حي يأكل معك؛ ويقرأ الكتب معك؛ ويجادل، ذلك هو الكمال. وأنا طفل رافقني أبي إلى ابن رشد الفيلسوف الكبير، وما أن رآني حتى سألني هل يوافق الكشف النظر، وأجبته بنعم ولا، ونظرا لاكتمال ملكة الشيخ فهم قصدي الذي يجمع المتناقض لأن حقيقة الأحوال هي التي تعنيني في حين أن الشيخ كانت تهمه حقيقة الأذهان. ومن يومه لم أره حتى شيعته في موكب رهيب، جثمانه على يسار الدابة وكتبه على اليمين، يومها أقسمت أن أغادر بلدا يقتل فيه الحكماء. «هذا الإمام وهذه أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله» سكنت فاس وهي عامرة بالعلماء والأشراف والمقرئين والصناع، وخرجت وراء الأسوار، عاشرت فيها قوما جمعوا بين الخشونة لمقاومة السباع واللين لمغازلة النساء والرقص. عشت في مراكش سعيدا حتى هزني حنين رؤية فص الفصوص وولي الأنبياء ورحلت. تعددت الطرق واخترت الصحراء لأرى البحر البرية وأستظل بالخيام والواحات. لم يكن العلم المدرس عند الصحراويين غير الشريعة لأن الكشف عندهم بالفطرة والدراية. ما أن وطئت قدماي مكة حتى فتح الله علي بتأليف كتابي الفتوحات، أكتب قبل دروس الأستاذ وأكتب بعد دروسه. كان همي أن أشرح معنى الإنسان الكامل بين الوجود والإمكان. وبين الأمر التكويني والأمر التكليفي. غير أن «النظام» فرضت أن أترجم الأشواق وأدقق في الهوى وخلصت إلى أن « لا احتجار على الهوى، ولهذا يهوى، بالهوى يجنب الهوى، وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى، ولولا الهوى في الحب ما عبد الهوى، بالهوى يتبع الحق، والهوى يقصدك مقصد صدق، الهوى ملاذ، وفي العبادة فيه التذاذ، وهو معاد لمن به عاد.» وتزوجت «النظام» «والتقينا وأصبحنا حرفا مشددا» وأنارت لي ما كان مظلما. وبالأمر أدركت الأمر فلا تسل عن الأمر.