حاول مؤلفا كتاب «السيرة: نبي الإسلام بلسان صحابته»، بهجت النادي وعادل رفعت- اللذين اختارا اسما مستعارا للتوقيع المشترك (محمود حسين)- أن يقدما «صورة واقعية وكثيفة وشاملة» عن سيرة النبي، من خلال الالتزام الصارم بمناهج البحث العلمي الحديث، بعيدا عن معياري «رواية الثقاة» و«القرب الزمني» اللذين-في رأيهما- يتصلان بطبيعة ميولات المؤرخين الفكرية، إذ يجنح البعض إلى «القراءة السياسية»، فيما يفضل بعضهم «الفعل الخارق» (المعجزة) أو «البعد الروحي» للحدث. وهذا ما أكداه بالفعل في مقدمة «هذا الكتاب». فهما يقترحان وضع الحدث في سياقه الشامل، أي عدم إبعاد أي عنصر له طابع تفسيري مهم، أو أي تفصيل غني بالمعاني التي تعضدها «القراءات» (التفاسير) المختلفة والمتاحة. بعد رجوعه من مكة، مات الملك أبرهة الحبشي، وتولى ابنه مسروق العرش من بعده. ولما علم أن جيشا من فارس نزل بأرض اليمن، جمع إليه جنده. وحينما تقابل الجيشان، أرسل إليهم مسروق ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم: - اقترب منهم، وتحرش برجالهم لنرى كيف يقاتلون. فهجم ابنه على بعض الجنود الذين بوغثوا فتمكن من قتلهم. فزاد ذلك وهرز حنقا. ولما تبين للملك مسروق أن وهرز لا يقود إلا مجموعة صغيرة من الرجال، خاطبه قائلا: - ما الذي أتي بك إلى هنا على رأس قلة من الجند، بينما لدي الجند الذي ترى؟ أنتم مساطيل أنت ورجالك، سأعفو عنك وأتركك تعود إلى بلادك، ولن أطاردك. لن أمسك بسوء، لا أنت ولا رجالك. وإذا رفضت، يمكننا أن نتقاتل، كما يمكنني أن أمهلك لتفكر وتستشير مع رجالك. فقال له وهرز: - نعم، لنحدد مهلة نحترمها معا على أن لا نتقاتل إلا بعد انتهاء المهلة واتخاذ قرارنا. فقبل مسروق، ومرت الأيام؛ ولما لم يتبق إلا يوم واحد، أمر وهرز بحرق السفن الست التي حملتهم إلى اليمن من بلاد فارس. ثم أمر بحرق جميع ثياب جنده، ولم يترك لهم إلا تلك التي عليهم. كما أمر بمنحهم كل الزاد الذي يتوفرون عليه وطلب منهم أن يأكلوا كل ما يقدرون عليه، بعدها أمر برمي ما تبقى في البحر. ثم قال لهم: - إذا كنت قد أحرقت السفن، فلأبين أن ليس لديكم أي وسيلة للعودة إلى دياركم. وإذا كنت أحرقت ثيابكم فلئلا تعودوا إلى عدوكم في حالة انهزامكم. أما بالنسبة للزاد الذي رميته في البحر، فلأبين لكم أن ليس لديكم ما تأكلونه غدا. إذا كنتم مستعدين للقتال إلى جانبي بشجاعة وإقدام، فأثبتوا ذلك. أما أنا، فإنني أقسمت أن أقطع بطني بهذا السيف لأنني لن أمكن أحدا مني. فانظروا في أمركم. فقالوا بصوت واحد: - سنقاتل معك. نموت جميعا أو نظفر جميعا. فلما انتهت المهلة، وتواقف الناس على مصافهم، قال وهرز لأصحابه: -أروني ملكهم. فقالوا له: - إنه ذلك الرجل الذي يركب على الفيل عاقدا تاجه على رأسه وبين عينيه ياقوته حمراء؟ قال: - انتظروا أوامري. فوقفوا طويلا ثم قال: علام هو الآن؟ قالوا: - قد تحول على الفرس. قال: اتركوه. فوقفوا طويلا ثم قال: - علام هو الآن؟ قالوا: -قد تحول على البغلة. قال وهرز: -بنت الحمار، ذل وذل ملكه. إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم. ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس والعرب، كما أمرهم بذلك وهرز، فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه. وفي اليوم نفسه أقبل وهرز وسيف بن ذي يزن ليدخلا صنعاء. ثم أرسل وهرز إلى كسرى غنائم وفيرة أخذها من الأحباش، ومعها رسالة تقول: «لقد مكنتك من اليمن بعدما انتصرت على الأحباش»، فأمره كسرى بأن يولي سيف بن ذي يزن عليها، على أن يتعهد بإرسال خراج سنوي معلوم.