"لا يمكن أن تكون هناك معرفة من دون ثورة عقلانية تطهر الروح من سحر الأساطير" فوكو الاعتراف أن مقاومة النزعة النفعية لن يكون سهلاً ، مادام أن الإحالة على الحاجيات تمثل لغة السلطة الانضباطية التي تنتشر في الأجساد كغاز سام، و لذلك يتعين على النزعة العقلانية أن تلعب نفس الأدوار التي يلعبها رجل الدين، و لا كن بتوجهات دنيوية، لان المجتمع الاستهلاكي يتشكل من عامة الناس الذين لا يقبلون النظرية النقدية حين تريد أن تحررهم من الهيمنة السياسية، لان خضوعهم يكون إما بدافع المنفعة، و إما بدافع الانتصار للعقيدة ، فالإنسان ذو البعد الواحد لا يمكن أن يتحمس لثورة العقل ، لأنه ينتمي إلى تلك الطبقة التي تبحث عن إشباع للحاجات ، ولذلك فان معارضتهم ليست معارضة ثورية. و من أجل تفكيك بنية الوعي الشقي عند هذه الطبقات المحافظة التي تجعل من مبدأ اللذة يبتلع مبدأ الواقع ، يجب دمجها في محيطها الإيديولوجي، ولذلك نجد ماركيوز يقول : «يوجد تحت الطبقات الشعبية المحافظة ، المنبوذون و المتخلفون عن السياق .. الطبقات المستغلة و المضطهدة، العاطلون ، و أولئك الذين لا يمكن توظيفهم و تعير حياتهم عن الحاجة الأشد استعجالا .. هكذا تكون معارضتهم ثورية حتى و إن لم يكن وعيهم كذلك» فماهية الثورة هي الوعي التاريخي، لأنه بدون هذا الوعي ستحول إلى احتجاج من أجل إشباع الرغبات ثم تنتهي ، و لعل هذا بالذات هو قدر الثورات العربية التي انطفأت كشموع العيد المقدس. فالشغف المهدد بالخوف في الحماس و الوجدان ، لن يفيد الثورات العقلانية، بل يستغل في الثورات الدينية ، التي افتقده لكل معنى بعد هيمنتها على الفضاء العام ، و بخاصة عندما طرحت مسألة الديمقراطية من خلال الحرية و المساواة بين المرأة و الرجل، و بين أفراد المجتمع، لأن الإجابة تأتي من خارج سياق الثورة ، محملة بالإقناع العقائدي، بيد أن رفض الاستبداد بواسطة الحنين إلى جراح الكينونة ، لم يكن في مستوى تطلعات كل الذين شاركوا بحماسهم في الاحتجاجات ، لان إشباع الرغبات ظل معلقاً في الوعي. لم يكن التقهقر بأفراد المجتمع إلى مجرد قطيع هو ما ينتظره الفضاء العربي المشتعل، أو دمج الدين في السياسة ، بل إن تطلعات الشعوب إلى الديمقراطية لم تفهم انطلاقا من الحرية و المساواة و الكرامة ، لأنها امتزجت بالدعوة إلى مجتمع ذي البعد الواحد، منغلق يحارب التعدد الثقافي و الاختلاف الفكري و يمنع الحريات الفردية ، ينتشر في الأجسام بواسطة أخلاق المنع ، لأن تهذيب الأخلاق بالحرمان من اللذة ، هو شعار السلطة الانضباطية. فهل كان العقل العربي ضحية هذه الثورات المزورة؟ ، هل تم تأجيل ثورة العقل لعقود أخرى من الزمن؟ و هل بإمكان ثورة العقل أن تقوم بعد هذه النكسة؟. لا يمكن للعقل العربي أن يوجد إلا إذا تقدمته الفلسفة في الزمان ، لأن الفلسفة هي التي تضع العقل في خدمة خير الإنسان : «إنها كنجمة ضخمة في النظام الشمسي للحضارة» ولذلك ينبغي على الشعوب التي لا تمتلك هذه النجمة أن تشعر بالخجل ، و تعترف بفقدانها لنقاوة الروح و النور الفطري للعقل ، هذا النور الذي قال عنه ديكارت بأنه أعدل قسمة بين الناس ، بيد أن هناك من يقوم بحرمان شعبه من هذه العدالة ، و يسمي نفسه بالعادل ، لان ما يهمه هو السلطة ، باعتبارها استثمارا لمن تحكمهم ، و بخاصة إذا كانوا من العوالم، الذين احترقت أرواحهم في الجهل و الشقاء ، و الفضاء العربي محرقة الأرواح . و من المستحيل أن تتشكل فيه الأرواح العلمية ، التي تخلق الثورات العلمية. و الحق أنه إذا كان للشعوب المتقدمة فلاسفة و علماء ، فان الشعوب المضطهدة قدسيين و فقهاء ، فالشعوب الأخرى تمنح وجود الفيلسوف شرعيته، في حين أن هذه الشعوب ترغمه على الرحيل ، أو الصمت الأبدي ، لأنها تتهمه بالجنون و الزندقة، استنادا إلى فقهاء الظلام. ها هنا تبدأ المأساة ، و يعود العقل إلى سباته الدوغمائي، و تتبخر الأحلام مع ضباب الصباح ، وتضطر الأسئلة إلى العود الأبدي، ذلك أننا نقوم بصياغة نفس الأسئلة التي صاغها فلاسفتنا القدماء، لأن الزمان العربي ثابت في مكانه ، و مع ذلك فانه لا يتمتع بنشوة الأبدية، لأنه قد أدمن الانتشاء بالعدمية، هذا التهذيب لغريزة الفناء التي تثير الرعب في الأرواح الهشة ، و تتوجه نحو عبادة الطغاة. هكذا ينطلق صراع العقل مع الطغيان، لا من أجل هزمه ، ولكن من أجل إثبات ذاته ، بيد أن الزمن ينفلت ، و الروح لا ترمم ، و يظل هذا الصراع أبدياً ، إلى أن تحين تلك اللحظة التي تحرر فيها السياسة من المقدس ، و الدولة المدنية من سلطة الفقهاء ، حينئذ سينفجر ينبوع العقل الذي ترافقه إرادة الحقيقة في اكتشافاته ، و انتصاراته على النزعة العدمية إلى أن يجعل هذا العالم حقيقياً ، بعد القضاء على الأخلاق التي تقول بان هذا العالم باطل ، و تنسى أن الأخلاق نفسها جزء من العالم، مما يجعل ماهيتها تكون باطلة. نجد نيتشه في إحدى غزواته المرحة ينشد قصيدة الحقيقة قائلا : «في عالم زائف يكون الصدق ميلا مخالفاً للطبيعة ، ولأكن أن تكون له قيمة إلا كوسيلة لبلوغ قوة زيف كبير ، لكي يتم تخيل عالم الحقيقة ، عالم الكينونة ، كان من اللازم خلق الإنسان الصادق قبل ذلك ، ولازما أن يعتقد أنه صادق» يجب عليه أن يطلق من الثقة في العقل ،و يتسلح بالمعرفة ، ولكن :»لكي يكون الصدق ممكنا يجب أن يكون محيط الإنسان كله نقياً ، يجب أن يكون الامتياز كله لصالح الحقيقة» فالدقة المنطقية معياراً للحقيقة : «الكل يسخر من الحقيقة لأن تصورها شديد الوضوح ، كما قال ديكارت». و الحال أن العقل لا يبرهن على وجوده ، إلا من خلال سلطة الحقيقة، لأنها هي ما يمنح الفكر كمنتوج معرفي للعقل أكبر إحساس بالقوة ، و ربما يكون هذا بالذات هو جوهر الفلسفة ، إنها إصغاء للمعنى، ابتهاج بالاكتشاف، احتفال بعيد الروح ، و أخيراً أنها اندهاش بالحاضر ، باعتباره فضاء للحقيقة و السعادة و الخير لأن : «الإنسان يبحث عن الحقيقة من خلال عالم لا يناقض نفسه، لا يخدع و لا يتغير ، عن عالم الحقيقة ، عالم لا معاناة فيه ، فالتناقض و الوهم و التغيير هي أسباب المعاناة». فأين توجد الحقيقة؟ و بأي أداة يمكن الحفر عنها؟ ومن هو الصانع الذي سيميزها عن الوهم؟ و من الحكمة أن نعترف بأن الحواس تخدعنا، و العقل يصحح أخطاءنا و لذلك فالعقل هو مصدر ابتهاجنا، لأنه السبيل إلى الحقيقة ، و من عادة المنحطين أن يسخروا من الحقيقة، لأنها مجانية ، ضلوا الطريق إلى العقل ، كبرت أجسامهم، و انطفأ فيهم نور العقل ، لكن ثمة حاجة إلى مرشد يوجه أرواحهم نحو العدمية ، لأنه يتوفر على مخدر للإدراك،هكذا نشأت المأساة ، و انتشر الوعي الشقي، ولم يعد بإمكان جدلية العبد و السيد أن تقوم بتحرير هذه الأرواح الشرسة ، فما معنى الوجود في قلب العلم؟ و ما معنى الوجود في قلب الوجود؟ و ما علاقتها بالإنسان و الزمان؟ ، بل و ما علاقة الإنسان بماهيته؟ و هل نسيان الوجود هو نفسه نسيان للماهية؟ ، وكيف يمكن للميتافيزيقا أن تجعل من نسيان للوجود أهم سؤال حول ضرورة الفكر؟. في كتابه للوجود و الزمان يعترف هايدغر بأن : «علاقة الوجود بماهية الإنسان هي من جهة انكشاف الوجود، علامة أساسية للوجود ، سؤال صريح أمام كل محاولة جعلت تحرير ماهية الإنسان من مفهوم الذاتية و من مفهوم الحيوان الناطق» فهمة الفلسفة هي إبداع ذلك المجال الذي يقف فيه الإنسان بوصفه إنسانا يفكر في ماهيته، و لن تكون هذه الماهية سوى العقل ، باعتباره مستقراً لحقيقة الوجود ، ولذلك ينبغي على الفلسفة أن تزيل هذا الحاجز الذي يحول بين الإنسان و علاقة الوجود بماهية الإنسان ، ولذلك يتساءل هليدغر باستغراب قائلا : ما الذي يحدث لو أن هذا العصر الحديث كله تحدد بغياب هذه العلاقة و بنسيان هذا الغياب؟ ما الذي يحدث لو أن غياب الوجود أغلق الإنسان في الموجود على الخصوص، تاركا إياه مهجورا و بعيدا عن أي علاقة بالوجود في ماهيته، بينما هذا الهجران نفسه ما برح خفيا مستوراً؟ ما الذي يحدث لو كانت هناك علامات على أن هذا النسيان سيصبح في المستقبل أشد حسماً؟ بهذه الأسئلة الانطولوجية يكون هليدغر قد وضع العقل الألماني أمام محكمة النقد، من أجل إعادته إلى التاريخ، ومما يؤكد نجاح مهمته أن هذا العقل تماثل للشفاء ، وبرهن على قدرته في اختراق الوجود، وجعل من أمته أعظم أمة في تاريخ الإنسانية ، بيد أن العقل عندنا اختفى في التراث، و بدأ يعلل وجوده بآراء دوغمائية، مما حكم على هذه الأمة بالموت التاريخي ، و إلا كيف يمكن تفسير هذا الانهيار في الوجود؟ و ما معنى هذه الحرب الملعونة ضد الإنسانية و الوجود؟ ، و كيف يمكن تبرير هذه النزعة العدمية؟ و لماذا أن الفكر العربي لم يسأل أبداً هذا السؤال؟ ، هل لأنه مكر محنط بالتراث يفسر التفسير؟ في أعماق القلق يتحدد مصير العقل الذي يتكلم اللغة العربية، ويفكر باللغة العربية الكونية، فداخل هذا التمزق في الهوية ، يجب اكتشاف أسباب تأخر الفكر، بدون أن نعيده إلى دراما التوجه السلفي ، الذي كان ينقصه الشغف بالحقيقة ، فالذي لا يتخد من الشغف نقطة بداية له لن يعرف أبداً الحقيقة ، بأن الحقيقة تضع نفسها رهن إشارة الأصفياء و الحكماء، وتدير ظهرها للعوام و الأشرار. فبأي معني يصبح العقل و الثورة هو نفسه ثورة العقل على أساطيره؟ ، و كيف يستطيع هذا العقل الذي تلقى تربية أسطورية أن يتجاوز ذاته؟هل بمجرد العودة إلى مبدأ اعرف نفسك بنفسك، باعتباره مدخلا للفلسفة؟ ، هل الجهل بالنفس يسمح بمعرفة نظام العالم و مبادئ الوجود؟ من العبث أن يجهل الإنسان نفسه، و يدعي المعرفة العقلانية ، بل و يدرس العلوم، ويمارس السلطة السياسية ، ولذلك نلاحظ أن هناك فراغاً مؤسساتياً مرعباً ، فالتعليم الجامعي انهار ، و التدريب السياسي تم تدميره من قبل سماسرة الزمان، و المخادعين، هكذا وجهت الضربة القاضية للعقل ، ولم يعد بإمكانه أن يرى نفسه في مرآة الثورة ، و لعل هذا الانتقال الصعب في التربية و الحياة السياسية قد حكم على الفضاء الشقي بانتظار الانتظار ، و بإصلاح الإصلاح.