يتطلع الشعراء الشباب اليوم إلى دور أكبر فعالية في ظل غياب الوسائل وقلة الاهتمام بالدفقات الإبداعية من طرف الأجيال الصاعدة من جهة، والفعاليات المختصة من جهة أخرى. وبين هذين النقيضين تتربع معاناة الشاعر المغربي وتتكسر جل أحلامه وسط صعوبة في نشر الأعمال والإبداعات، وقلة إقبال من طرف القارئ الذي لم تعد تستهويه سوى نقرات على الألواح، وهمهمات على وسائل التواصل الاجتماعي. عن هذه الإكراهات والحوافز، انطلقنا مع الأستاذ والباحث والشاعر المغربي «سعيد أكزناي» في حوار أدبي اجتماعي، ليكشف لنا صيرورة أعماله الأدبية، والإكراهات التي عاناها من جهة، والتي يعانيها باقي الأدباء والمبدعون من جهة أخرى. فكان الحوار على الشكل التالي: ما نحن عليه الآن، ليس سوى دفق من الماضي، فمن هي الشخصية التي يحاورنا بها الأستاذ «سعيد أكزناي»؟ من لا تاريخ له لا حاضر له، وكل نص جديد إنما ينطلق من نصوص سابقة، لم يعد الكاتب ذلك الإله الأسطوري الذي يخلق من اللاشيء، بالنسبة لي أكتب من خلفية متنوعة مختلفة تجمع ما هو أدبي بما هو فكري، ما هو قديم بما هو حديث أو معاصر، فبخصوص الشعر والشعراء كان أكثر من أثر فيّ الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إضافة إلى المتنبي، وأبي تمام، والسياب وغيرهم.. إلا أني أحب أن أشير إلى أن الكاتب المبدع هو ذاك الذي يستطيع أن يعطي أبعادا دلالية وفكرية وأسلوبية جديدة لكل تلك النصوص والثقافات التي يحاورها، وإلا لما كان سوى صورة تعكسها مرآة مشوهة. لابد لكل تألق بداية، ولابد لكل صيرورة عمل أصوات تدعم، فكيف كانت بداية تجربة أستاذنا، وما هي أهم الأسماء التي ساهمت في نضوج تجربته الإبداعية؟ سعيد أكزناي عاشقُ الشعر، حالمٌ بأن يصير يوما شاعرا، ما زلت أذكر ذلك الإحباط الذي كان يحوطني وأنا أفشل في تصفيف كلمات قد تسمى مجازا قصائدَ أو أبيات، إلا أنني لم أتخل قط عن هذا الحلم، حتى أتت تلك السنة التي التقينا فيها أستاذا أديبا وناقدا حاول جهده أن يخرج من صفوف طلبته حاملا لواء الشعر، ما زلت أذكر كلماته المشجعة، وأنه كان أول من أطلق علي لقب المبدع ثم الشاعر بعدها، كانت تلك السنة سنة الانتقال إلى المدرسية العليا للدراسة، والانتقال من حالة الإحباط إلى حالة الأمل الشعري، ما كان هذا الأستاذ، إلا أستاذنا العزيز الدكتور عبدالرحيم جيران، وشاء الله أن اجتمع في فصلنا سنتها نخبة إنسانية طيبة من الطلبة كانت لي نعم العون والسند.. هنا / هكذا كانت البداية.. نرى لك اهتماما كبيرا بالموروث العربي الفصيح، وانفتاحا على الموروث العربي المعاصر، فما الأثر الذي يستهويك أكثر من غيره، وهل لك بين الشعر العامي أي أثر؟ لابد في نظري لكل إنسان أن يمعن النظر في كل ما يستطيع من معارف وأفكار ونصوص سواء أكانت قديمة أو حديثة، محلية أو غربية، فصحى أو عامية، يجب أن يكون قارئا كونيا قدر الإمكان، فكلما اتسعت زوايا القراءة، اتسعت الرؤى، واغتنت الكتابة، وقد أشرت سابقا إلى مجموعة من الأسماء حديثة وقديمة أثرت في، وأثرت في القصيدة التي أكتبها، كما أحب أن أشير في هذا الصدد للأهمية القصوى للنص القرآني في صقل لغتي وإغنائها. في ما يخص الزجل فقراءاتي له قليلة مقارنة بالفصيح، ليس لكونه لا يرقى إلى الذائقة الشعرية، ولكن ربما لصعوبة قراءته قراءة شعرية مسترسلة لعدم وجود قواعد إملائية متفق عليها تساعد في ذلك، وأيضا في اختلاف اللهجات .أنا أحب أن أسمعه من أفواه شعرائه أكثر. صدر لأستاذنا مؤخرا ديوان تحت عنوان: «هذيان رجل يحمل وجهي»، وهو مخاض تجربة أيام بين أعماق الطبيعة في جبال نواحي تطوان، وهمسات بين الجامعة وأسوارها على ما نعتقد. فما هي ظروف وسياق كتابة هذا العمل الشعري المتألق؟ لكل ما ذكرت أثره في صياغة هذا العمل، ولا يخفى على من يتتبع نصوصي اهتمامها البالغ مثلا بالمعجم الذي يستقي كلماته من حقل الطبيعة، إلا أن السياق الأهم لهذا العمل سياق فكري ذهني، فهو عصارة تجربة ذاتية في البحث عن الماهية والغائية في هذه الحياة، بحث أرهق هذه الذات سؤالا فارتأت أن تفرغ بعضا من شحناته على الورق، فكان الديوان. يعيش الشاعر المغربي شبه معاناة في ظل نقص الاهتمام وقلة الموارد والدعم، فإلى ما ترجع هذه الحواجز التي تقف أمام المبدعين في تطوير إبداعاتهم: العوائق عديدة أمام كل ما هو جميل وجاد، وليس الشعر فقط، وإن كانت بصدد الشعر أكثر حدة، فالديوان الشعري لم يعد يلاقي إقبالا قرائيا يشجع دور النشر التي لا تطمح في عموميتها لغير الأرباح المادية التي تجنيها من وراء المبيعات، ولهذا هناك من يحلو له أن يعنون العصر بعصر الرواية. ونفس الأمر يقال عن إبداعات الشباب مقارنة بإبداعات « الكبار « -مجازا- فالقارئ قلما يقبل على إبداع شاعر شاب غير معروف، فنحن مصابون بداء الأسماء لا النصوص. أما إذا عرجنا على الجمعيات والأندية والمنظمات الثقافية الني يفترض أن أصحابها من ذوي الرؤى الفكرية والإبداعية فحدث ولا حرج، توقيعات واستدعاءات بالجملة لا تراعي الجودة بقدر ما تراعي أحد أمرين، الانتماء (سياسي، فكري، إبداعي)، أو الصداقة. لكن هذه العراقيل إن كانت تعرقل فعل النشر والوصول إلى أكبر عدد من الجماهير، فهي لا تعرقل الإبداع، الشاعر الحقيقي يحب الظل ويشتغل فيه بصمت أكثر مما يحب الأضواء، والزمن هو الناقد الحقيقي. هل يمكن للظروف المادية وقلة الاهتمام بالشاعر من طرف الجهات المسؤولة أن تقف أمام تطوير إبداعاته وتخريجه للعيان، وهل ترى في الفضاء الإلكتروني فضاء أوسع لنشر ما عجز عنه الأوراق؟ قلت سابقا أن هذه الظروف لايمكنها أن تعرقل التجويد الشعري عند الشاعر الذي يشتغل بحب وبمصداقية. أما فيما يخص القراء والفضاء الأزرق، فهو فعلا قد ساهم في إبراز مجموعة من الأسماء وسهل التعرف عليها من لدن المهتمين، فالنشر الورقي كما تعلم يخضع لشروط عديدة بعيدة عن الجودة كما أشرت سابقا، لكن للأسف هذا الفضاء تزحف عليه الرداءة في كل يوم أكثر من سابقه كما هي الحال في كل ما هو جميل في مجتمعاتنا المتخلفة. كيف ترى مستقبل الشعر والشعراء في المغرب وخارجه، في ظل هذه الوضعية، وهل يضيق حجم النخبة كلما تقدمنا، وإلى ما ترجع هذا الانغلاق والشرخ بين النخبة الأدبية والقارئ؟ على مر الزمان أثبت الشعر قدرته على الخروج من منطقة الظل واكتساح الأضواء مرة جديدة، لأن شعر وجدان الإنسان، ولا يمكن للإنسان أن يتخلى عن وجدانه رغم ما صار إليه العالم الحديث من نزعة مادية، ولعل الدليل على ذلك بعض الأسماء الشابة التي صارت تفرض نفسها هنا وهناك. أما بخصوص الهوة بين «النخبة» و «القارئ» فهي ترجع في نظري إلى مجموعة أمور منها ما يعود إلى النخبة – وإن كنت لا أحبذ هذا النعت – ومنها ما يرجع إلى القارئ، فما يرجع إلى النخبة يمكن أن نربطه ببعدها عن القارئ ومشاكله الاجتماعية والثقافية والسياسية وميل النص الشعري في كثير من الأحيان إلى أن يكون طلاسم لا يتمكن من فكها حتى القارئ المتخصص، وبحكم عملي مدرسا بالثانوي التأهيلي أرى كيف يعلل تلامذتنا، بوصفهم قراء الغد، بعدهم عن الشعر بعسر فهمه. أما ما يرجع إلى القارئ فقد أصبح في أغلبه ميالا للأمور السهلة والبسيطة حد الابتذال مما أفقده الذوق السليم الذي يمكنه أن يميز من خلاله جميل النصوص من سيئها، وهذا راجع بالأساس إلى التدني الذي يشهده قطاع التعليم ببلادنا. في نظرك، ما هي أبرز الحلول للنهوض بالميدان الثقافي والأدبي في البلاد، وهل ترى الجهود المبذولة من طرف الوزرات الوصية ذات أهمية؟ اقتراح حلول ندعي من خلالها أنها كفيلة بتحويل الوضع الثقافي إلى الأحسن أمر صعب وعسير، لأن الأمر لا يتعلق بالجهات الوصية فقط، مثل الوزارة، اتحاد الكتاب..، بل يتعلق بمنظومة شاملة ومتعددة يلعب فيها المثقفون دورا كبيرا جدا، وربما دورهم في تدني الثقافة أكبر من غيرهم، فقد طغى على ثقافتنا ما يحلو للبعض أن يسميه بالنقد الإخواني، وهذا النوع من النقد تكمن خطورته في تزكية الرداءة وقبر الجمال. جهود الوزارة الوصية يجب أن تنصب في نظري كي تكون ذات جدوى على الكشف عن الطاقات الخلاقة الجديدة وتقديمها للجمهور، كما تجب مراقبة الإصدارات بإلزام كل دور النشر بوجود لجنة قراءة مختصة للأعمال المقدمة للنشر. ماذا تعني الكلمات التالية في قاموسك أستاذي: (الطبعية، الحياة، الأمل، المقاومة): الطبيعة : هي القصيدة في أبهى حلتها، إنها موطن الروح التواقة إلى الجمال. الحياة : هي أن تترك بصمةإيجابية للأجيال القادمة بعد انتقالك إلى العالم الآخر. الأمل : الرئة التي يتنفس بها الوجود. المقاومة : بث الجمال في عالم يسوده القبح. كلمة أخيرة للأستاذ العزيز: في الأخير أود أن أشير إلى كون الكتابة بمختلف أنواعها ومشاربها، ليست ترفا جماليا أو ثقافيا، إنها ضرورة للحياة وواجبنا تجاه العالم.