لا شك في أن المسلسلات الدرامية عموما والتركية منها على نحو خاص تحظى بنسب مشاهدة عالية، وكذلك بنسبة إقبال مرتفعة جدا في شمال إفريقيا والخليج العربي وأنحاء كبيرة من الشرق الأوسط. وذلك لأسباب وتجاذبات سياسية وايديولوجية بالأساس. الأمر الذي كانت له إفرازات تنموية بالغة الأثر خاص، أثرت القطاع السياحي وعززت اقتصاديات تركيا، وضخت عائدات فلكية استفاد منها المواطن التركي، وانعكست بشكل قوي التأثير في قطاع الإنتاج السينمائي والفني ببلاد أتاتورك. في المغرب، نجحت المسلسلات التركية بشكل لافت في التسويق لمنتجاتها في السوق المغربية بذكاء خارق لدرجة لم يكتف فيها المنتوج التركي البروز في اللباس والتجهيز المنزلي بالرواج والتميز وتشديد الخناق على المنتوج الوطني من النسيج والألبسة فحسب، بل ارتقى بكبرياء ليحمل أسماء نجوم تركيا في الفن ومدنها ومعالم الأناضول السياحية. وبالمقابل لم تنجح مسلسلات «حديدان» البئيسة التي أقصى هدفها هو تكريس التحراميات وبلاهات فركوس وترنحات فهيد وحموضة لخياري وسرقات الناصري.. سوى في إسعاف قواميس أولاد الدرب ومدها بالوقاحة اللازمة، والرفع من منسوب السفالة و»التحرامييت» لديها في الفصول والمدارس، كما في المنتديات العامة. وذلك رغم إهدارها للملايير من الدراهم من أموال دافعي الضرائب بالمملكة. والنتيجة أن لا عربي من المحيط إلى الخليج شاهد مسلسلا أو «سيتيكوما» من حماقات فناني آخر لحظة في ذروة كل رمضان، أو نوى مجرد النية في أن يضبط «الروموت كنترول» على ذبذبات تلك «الرزية» التلفزية الثنائية التي تشرف على تخميرها وتحميضها ببلاهة منقطعة النظير، قناتا التجميد المديدي للثقافة وللفكر ببلادنا. ويستغرب ناقد فني تركي كيف أن أعمالا فنية بائرة في الوسط الاجتماعي التركي، تلقفتها شركات ومقاولات خليجية، وصنعت منها دراما فنية اجتماعية خارقة بفضل نظامها الشبكي الإشهاري المهيمن. ويكشف أحد الفنانين الأتراك في حوار صحفي عن شعوره بالفخر لتتويجه نجما للدراما على الصعيد العربي، في وقت يجهله معظم سكان بلده، ويعبر باعتزاز بالغ، كيف تحققت شهرته الواسعة بإفريقيا والشرق الأوسط وهي نفسها التي كان يحلم بجزء قليل منها في اسطنبول ونواحيها فقط، ولايتردد الكثير من الفنانين الموهوبين وغير الموهوبين من الأتراك في الامتعاض من تفوقهم المزعوم في الشهرة داخل البلد، لكنهم بضربة حظ استطاعوا تحقيق النجومية وامتطاء الشهرة في زمن قياسي في بلاد الجزيرة العربية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل مذهل وغير متوقع. ولأسباب قد تشتغل منظومة علم النفس والسوسيولوجيا سنوات لتفكيك أسرارها والكشف عن ملابساتها. ولعل هذا ما شجع قطاع الإنتاج في السينما والتلفزيون في تركيا على الاستثمار بقوة، بتخصيص رساميل باهضة، وإحداث مقاولات فنية وإعلانية صنعت الريادة وساهمت بشكل ملحوظ في تحقيق طفرة نوعية في المجال. سياسة خلق التوازنات بين دول الشرق الأوسط ونزوعات الهيمينة لدة بعض دول الخليج بدوافع ايديولوجية وغير ايديولوجية، خلقت وضعا جديدا في المنطقة، واحتل قطاع السينما والإنتاج الدرامي موقع الريادة في توجيه بوصلة القيادة، وترجيح كفة المبادرات وتحقيق الانتصارات أكثر من الجيوش الميدانية لهذا السبب وعلى ضوء التحولات السياسية والعسكرية بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، يتعين قراءة بيان الحظر الشامل الذي بدأ سريانه ابتداء من الثاني من مارس الجاري. فقد أوردت الوكالات عن متحدث باسم المجموعة (إم بي سي) في ملكية رجل الأعمال السعودي وليد آل إبراهيم ومستثمرين سعوديين آخرين، إن الحظر الشامل لبث الدراما التركية بدأ سريانه في الثاني من مارس وهو ما أكدته مجموعة (إم.بي.ٍسي) ذاتها باعتبارها أكبر مجموعة بث تلفزيوني وإذاعي خاصة في العالم العربي، مؤخرا بقولها إنها تلقت أوامر بوقف بث الدراما التلفزيونية التركية، وذلك موازاة مع تصاعد التوتر السياسي والعسكري بين أنقرة وبعض الدول العربية. وقال مازن حايك المتحدث باسم (إم.بي.ٍسي) إن هناك قرارا يشمل فيما يبدوعددا من المحطات التلفزيونية العربية في عدد من الدول بما في ذلك (إم.بي.ٍسي) بوقف إذاعة المسلسلات التركية. إلى ذلك، ومن وجهة نظر السعودية والإمارات، فإن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، والذي شارك في تأسيسه الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان، يعتبر صديقا لقوى إسلامية تعارضها الدولتان الخليجيتان. ويلاحظ المتتبعون السياسيون أن منسوب التوتر في العلاقات ارتفع نتيجة دعم أنقرة لدولة قطر، وذلك بعد أن فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصرعقوبات اقتصادية وسياسية شاملة على الدوحة العام الماضي، على خلفية اعتبارها قوة داعمة لإسلاميين متشددين. لكن دولة قطر مالكة قناة الجزيرة تنفي الاتهامات الموجهة له جملة وتفصيلا. وقال حايك المتحدث باسم المجموعة، إن الحظر يشمل جميع الدراما التركية، وسيعمل على وقف بث فوري لست مسلسلات تركية. وأضاف أن ذلك سيؤثر على الأرجح على العائدات المالية ونسبة المشاهدة التي ارتفعت بشكل مذهل العشر سنوات الماضية. التغلغل التركي في الأوساط العربية لا غبارعليه، والفضل كل الفضل في ذلك للدراما التركية من جهة والانسجام الإيديولوجي للحزبين الحاكمين بالمغرب وتركيا من جهة ثانية، وهو تغلغل تنوعت أشكاله، وتشابكت قنواته واقتحمت المعيش الأسري للمغاربة، بل وسيطرت بشكل كامل على الأذواق في اللباس والأكل في الوجهات السياحية وفي المجال الفني، ولا تكف جماعات ولوبيات على مواقع التواصل الاجتماعي في التعليق باستهجان على هذا الاستعمار الجديد للعالم العربي من قبل أتاتورك عبر الدراما التلفزيونية المدبلجة عادة بالعربية. هذا القرار يمكن استثماره إيجابيا، وذلك بفتح الفرص أمام صناعة الدراما العربية كي تتطور وتنتعش، ويكون حافزا للأبداع والابتكار في المجال، لاسيما وأن في الشرق الاوسط دول وتجارب رائدة لسد هذه الثغرة وخلق الثورة البديلة في المجال.