يُعَدُّ تخصيص يوم سنوي لاستحضار مآثر الفلسفة، مناسبة لتذكيرنا في العالم العربي بالغياب المتواصل لمباهج الفلسفة ومسراتها في ماضينا وحاضرنا. ففي الخميس الثالث من كل سنة، تحلُّ هذه الذكرى التي سنَّتها منظمة اليونسكو فنشعر بالفقدان والخصاص الذي نعاني منه في فكرنا وثقافتنا، نتيجة تهميش برامجنا في التربية والتعليم للفلسفة وقيَّمها وفتوحاتها المعرفية والاجتماعية، وحيث يستمر تعليمنا وإعلامنا في نشر وتعميم كل ما يُسوِّغ أخلاق الطاعة والولاء، ويستهين بآدمية الإنسان ويقظته. نتبين معالم الآثار المترتبة عن هذا الفقدان والتهميش، فيما نلاحظه من الانتشار السريع والمرعب، للقيم والمبادئ التي عملت الفلسفة عبر تاريخها على نقدها وتجاوزها، نقصد بذلك قيم التطرف في المجتمع والقطع في النظر. واجه مشروع تخصيص بوم سنوي عالمي للفلسفة محاولات في النظر إليه باعتباره يخدم أجندات سياسية معينة، حيث تَمّ الانتباه في السنوات الأولى لانطلاقه إلى نوعية الموضوعات التي اختيرت للنقاش من قَبِيل موضوع التسامح والسلام والتعدُّد الثقافي والانفتاح الثقافي والعولمة.. إضافة إلى انخراط بعض المؤسسات المالية الدولية في تمويل وتأطير بعض أنشطته ومؤتمراته، إلا أننا نرى أن الموضوعات المشار إليها على سبيل التمثيل، تشكِّل عينة من القضايا التي يمكن الاقتراب منها من زوايا مختلفة، حيث لا نتصوَّر أن المُؤَطِّر لمثل هذه الأنشطة، يمكن أن يُوَجِّه الباحثين لبناء مواقف وخيارات واحدة، في الفكر وفي نمط المقاربة. يمكن أن نضيف إلى ما سبق، أن المعنيين بدعم درس الفلسفة في الفكر العربي، من جامعات ومنظمات أهلية ومهنية، بادروا باقتراح موضوعات اليوم السنوي، تتعلق بجملة من القضايا التي تتوخى مزيداً من التحسيس بأهمية المكاسب الفلسفية في تطوير الثقافة العربية، وتعزيز دوائر التنوير في مجتمعنا. تتيح لنا مناسبة اليوم العالمي للفلسفة، الوقوف أمام الفراغ الموحش الذي ترتَّب عن الاقتلاع، الذي تعرض وما زال يتعرض له درس الفلسفة في أغلب البلدان العربية، سواء في المدرسة أو في الجامعة أو في المجال العام، حيث يتم استبدال برامجها أو تقليصها بمبررات غير مقنعة، مبررات يكتفي أصحابها باستعادة خطابات تُعْلِي من شأن المطلقات، مغفلين أن مجال الفلسفة يتجه للعناية بآليات التفكير الإنساني ومفاهيمه، قصد فحص المقدمات والأسس التي تسعف ببناء خطابات واضحة ومفيدة، أثناء مواجهة وبحث أسئلة التاريخ والقيم والمستقبل، أسئلة الإنسان والمعرفة والتقدم. لا بد من التوضيح هنا، أننا لا نتحدث عن فلسفة بعينها، بل نروم الإشارة إلى أهمية الفاعلية النظرية التي رسمها درس الفلسفة في التاريخ، حيث تتسع وتتنوع مجالات وحدود درسها، حدود المنطق الذي يحصرها في مجال محدَّد بسقف وجدران، ذلك أن حاضر الفلسفة الكوني منحها وما فتئ يمنحها الطابع الذي أصبحت عليه في نهاية القرن العشرين، حيث استقرت في حنايا المعارف المختلفة، وتسربت آليات عملها إلى العديد من المعارف والخطابات، لتؤسس لعملية إعادة انتشار تُوَاصِلُ من خلالها محايتثها لمختلف خطابات المعرفة وفنونها، حيث تنتعش لغة الفلسفة ومفاهيمها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما تبتكر لنفسها مفردات ورموز في الفنون والآداب وفي مجال القيم، وكذا في مباحث التقنية ومجتمعات المعرفة، كما تحضر في القانون والسياسة، هذا دون الحديث عن حضورها المؤكد في الرواية والشعر وباقي النصوص المفتوحة، سواء كانت مكتوبة بالكلمات أو بالأشكال والأصوات والصُّور. وإذا كانت أوضاع الثقافة العربية اليوم، تشير إلى مظاهر انتعاش خطابات التمذهب العرقي والعقائدي، الذي حَوَّل مجتمعاتنا إلى بؤر للاقتتال وأدخل شبابنا في متاهات مخيفة، فإن الانتصار لقيم الفلسفة في هذا الظرف بالذات، يُمكِّننا من التمرس بفضائل الانفتاح والحوار وأدوار العقل في التاريخ. إن مواجهة سقف العقائد المهيمن في حاضرنا، يتطلب مواصلة الجهود والمساعي الرامية إلى استئناف توطين القول الفلسفي في ثقافتنا. فلا يعقل أن تظل عقولنا متشبثة بآليات في الفكر لم تعد ملائمة لمتطلبات الأزمنة الجديدة التي نُعاصرها، دون أن نتمكن من الانخراط الفعَّال في بناء أدواتها في الفهم والعمل، وصناعة أحداثها في التاريخ. تُعَدُّ حاجة الفكر العربي إلى الفلسفة مسألة استراتيجية، مسألة لا ينبغي تقديم أي تنازلات في موضوعها، فلم يعد هناك أحد يجادل اليوم في ضرورة الاستفادة من الفكر النقدي والفكر التاريخي، فكر النسبية في المعرفة والحداثة ومواثيق وإجراءات العمل الجماعي الإرادية والواعية في السياسة والأخلاق، وذلك قصد مواجهة مختلف أصناف وصور الفكر الواحد، والرأي الواحد، والعقل الكلي، والنص المطلق والمغلق. ولعل اكتساب أوليات التفكير الفلسفي المشار إليها آنفاً بكثير من الاختزال، تُعوِّد الناشئة من الأجيال الجديدة في مجتمعاتنا، على إدراك أهمية التعدد والاختلاف والتسامح، ودور التاريخ في تنويع وتطوير مضمون المبادئ والقيم والعقائد، حيث تصبح دروس الفلسفة، مناسبة لتعويد الذهنيات على مواجهة التفكير المغلق، من أجل فهم القضايا التاريخية والنظرية في تشابكها وترابطها وتعقدها. إننا نذهب في هذا المجال بالذات أبعد من ذلك، حيث نرى أن دروس الفلسفة الحديثة والمعاصرة، تُمَكِّن في حال تعميم الوعي بمبادئها ومفاهيمها الأساس، من دعم الاختيارات السياسية الديمقراطية في فضائنا السياسي، ذلك أن سلاح العقل النقدي، لعب في الفلسفة دوراً بارزاً في الدفاع عن السياسة كمجال مستقل، مجال لبناء التوافقات والمواثيق التاريخية، التي تبلورها الإرادات البشرية فيما بينها داخل المجتمع، خدمة لمصالح وأهداف معلنة ومحدَّدة. فلم يعد هناك أحد يجادل في الدور التنويري والنقدي للخطاب الفلسفي في التاريخ، والذين شككوا طويلاً في الوظيفة المركزية للفلسفة في تاريخ الفكر وتاريخ المجتمع، أصبحوا يعرفون اليوم استناداً إلى تجارب ومعطيات التاريخ، الوظائف الكبرى التي يلعبها تعميم الوعي الفلسفي في تطور الفكر وتحَوُّل عمليات التفكير داخل المجتمع.