أظن أن أول درس تلقيته عن فلسطين كان من الوالد رحمه الله في سياق حديثه لنا ونحن صغار عن العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر ونجم عنه إغلاق قناة السويس وكان من نتائجه، وهذا هو بيت القصيد، أن حال دون باخرة الحجاج المغاربة والعبور إلى الأراضي المقدسة وذلك في وقت كان فيه امتطاء الطائرة غير كثير الاستعمال في الرحلة إلى الحجاز.. ولم يكن الوالد، وهو لم يتجاوز الثلاثين، يسافر حاجّا مثل سائر الحجاج ولكن مستخدما على متن الباخرة المغربية ويأمل أن يستفيد من حجة «وظيفية» لا تؤذي جيبه..وقد شاهد بأم عينيه ولامس بوعيه الآلام التي عاناها هؤلاء المسافرون الاستثنائيون وهم يقفون مكتوفي الأيدي أمام هول الآلة الحربية الظالمة ومخاطر المغامرة غير المحسوبة و من تمّ ترسخ لديه الشعور بأن قضيةً تمنع الحج عن المسلمين، أو عن بعضهم، لابد أنها شديدة الخطورة وبالتالي تستوجب التعبئة ولمَ لا الجهاد؟؟ الطريف أن الوالد قد أخذ على نفسه، في أعقاب هذه النازلة، بصورة انفرادية وقطعية، ألا يحج إلى البيت الحرام أبدا طالما ظلت فلسطين محتلة..وهو قد وفى بعهده إلى آخر الشوط ورحل عن عالمنا أواسط السبعينات من دون أن يحاول، مجرد محاولة، أن يعيد الكرة مرة أخرى.. الدرس الفلسطيني الثاني يعود للرجل نفسه، أي الوالد طبعا وبكل التأكيد اللازم، عندما تجاسر وأطلق على قارب الصيد الذي اشتراه بحرّ مالِه اسم «فلسطين» وذلك بغير اتفاق مع أي آدمي أو توصية من أية جهة معينة كيفما كانت..وقد تردد موظف الإدارة البحرية في الميناء للحظات في تسجيل الاسم وهو يمسك بالقلم بين أصابعه الحائرة..ولما تيقّن من تصميم الرجل الواقف أمامه خط الكلمة العجيبة على الورق وهو يهجس..»كما تشاء…» وقبل أن تتمكّن سلطات الميناء من استيعاب حكاية القارب الذي يمخر العباب أمامها بهذا الاسم العجيب «فلسطين»، وكان البحارة قد تعوّدوا أن يخلعوا على مراكبهم أسماء الجبال والأنهار أو القبائل التي ينتمون إليها، طلع عليهم الوالد بغريبة أخرى أدهى وأعجب من الأولى وهي رفع العلم الفلسطيني في مقدمة قاربه..وهذا لغز جديد على طاولة المسؤولين في ذلك العهد البائد، فلا أحد منهم يعلم من أين اشترى تلك الراية أو عثر عليها ولعله يكون قد خاطها بنفسه مسترشدا بصورة لها شاهدها في مجلة أو كتاب.. وعند هذا الحد تحوّل عدم رضا السلطات البحرية إلى تضايق ثم صار إلى احتقان وغضب لم يعد معهما ممكنا مواصلة السكوت، وعندها بعثوا له مَن ينبّهه إلى خطورة صنيعه وبيّنوا له مساسه كما قيل بقيم السيادة الوطنية، ثم هدّدوه بالمنع من الجولان في المياه الإقليمية، ولمّا لاحظوا أنه لم يلتفت إلى شيء من ذلك.. توصلوا أخيرا إلى إقناعه بأن يعلق إلى جانب العلم الفلسطيني راية مغربية صغيرة إشارة إلى حسن النية..وقد فعل الوالد ذلك عن طيب خاطر وبدون تردد. الدرسان الفلسطينيان الثالث والرابع نابانا عن طريق البعثة التعليمية الفلسطينية التي تولّت تلقيننا اللغة العربية في الأقسام الإعدادية بمدينة المحمدية في بحر سنة 1967 التي ستنتهي بالنكسة المعروفة..وأذكر أن معظم أعضاء هذه البعثة كانوا شبابا ذوي ملامح صارمة كما لو كانت تسكنهم رغبة قاهرة هي إقناعنا بعدالة قضيتهم وجدية نضالهم..وكان من بينهم واحد مكتنز وقصير القامة أطلقناه عليه نحن التلاميذ اسم «عظيم» لكثرة ما تتردد هذه الكلمة على لسانه خلال حصّته تنويها منه باجتهادنا واستحسانا لإجاباتنا.. وقد كان من أفضال الأستاذ «عظيم» أنه رسّخ في أذهاننا الصغيرة منطقا صوريا نادر المثال..فقد ظل يحفزنا على الحرص على سلامة النحو لأنه يمثل عنده مدخلا للحرص على العروبة وأن الحرص على العروبة هو حرص على فلسطين..وهكذا، ومن دون أن يحدثنا عن فلسطين مباشرة، كان يفعل ذلك مداورة عندما يجعل محبة النحو العربي من محبة فلسطين..ومع أنه كان يضرب بعضنا بين الحين والآخر بعصاه الخشبية على الأصابع ضربات موجعة فقد كنا نغفر له ذلك ونعتبره من باب التأديب الذي لا مندوحة منه. الأستاذ الآخر، واسمه عثمان إذا لم تخني الذاكرة، لم يكن أقل «عظمة» من زميله لأن إلى جانب تدريسنا اللغة العربية أخذ على نفسه رعاية مواهبنا الأدبية، والتي لم تكن كذلك سوى مجازيا، وظل صابرا على محاولاتنا الشعرية الركيكة قارئا ومصححا غير أنه لم يكن يترك أية فرصة تمر دون أن ينبّهنا بقوة إلى أن الشعر لابد له أن يغادر بين الحين والآخر موضوع الحب والعواطف ليكون متمحورا حول قضية إنسانية ما وأنه من الأفضل للجميع أن تكون تلك القضية عادلة من النوع الذي ينتصر له الناس الأحرار في كل مناطق العالم..ولكي يقدم لنا مثالا على ذلك كان يشير علينا بقراءة بعض الشعراء مثل فدوى طوقان وهارون هاشم رشيد ومعين بسيسو وغير هؤلاء ممن اتخذوا من القضية الفلسطينية مركزا لتجربتهم الشعرية واستلهاما من عوالمها حتى سمّوا بشعراء النكبة..وسوف نعلم فيما بعد أن هؤلاء شعراءٌ فلسطينيون رواد ألهموا مَن جاء بعدهم من كبار المبدعين كتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور الذين لم يكونوا قد برزوا بعد في تلك اللحظة الشائكة من الوعي الشعري العربي.. وفي أعقاب ذلك، وما كادت تنتهي السنة الدراسية على ذلك الإيقاع الحزين لنكسة 67، حتى تكللت جهود الأستاذ عثمان بالنجاح، وأصبح يرى بأم عينيه كيف صار نفر كثير منا شعراء صغار يعرفون معنى فلسطين ووعد بلفور ونكبة 48 بل ويجعلون منها مواضيع لمحاولاتهم مستفيدين من أجواء الاحتجاج والرفض التي غطت بأجنحتها السماء العربية من أقصاها إلى أقصاها. نصل إلى الدرس الفلسطيني الخامس، وليس الأخير قطعا، وصاحبه أشهر من نار على علم كما يقال لأن الأمر يتعلق هذه المرة بالراحل العزيز واصف منصور الذي حلّ بالمغرب سنة 1964 ضمن البعثة التعليمية إياها، وحظي بتعيينه أستاذا بإحدى إعداديات الرباط..ولم تمض سوى فترة وجيزة حتى جاوز هذا الشاعر الفلسطيني الشاب مهمته الأصلية التي هي تدريس اللغة العربية إلى مهمة أخرى جديدة وخطيرة هي تدريس فلسطين، وأصبح حضوره شيئا أكثر من مألوف في التجمعات الشعبية والطلابية، وفي المؤتمرات الحزبية والنقابية، وفي الندوات الثقافية والقراءات الشعرية وهلم جرا..وهكذا صار واصف منصور بقامته الفارهة وخطبه النارية طوال أربعة عقود هو الملح الفلسطيني في الوجبة السياسية والثقافية المغربية.. وفي المدن الكبرى، كما في القرى النائية، كان واصف منصور لا يتوقف عن الطواف بعربته لتكون فلسطين حاضرة على الدوام في كل مهرجان أو تجمّع..يأتي والكوفية الفلسطينية تتأرجح على كتفه مثل العلم الوطني وهو يحمل في صدره فلسطينه ناثرا رذاذها على الشبيبة والشيبة، منعشا الجماهير بدفئها وعنفوانها..ولذلك استحق رحمه الله أن يكون المعلم الفلسطيني الأول بلا منازع.