يقول الشاعر الجاهلي قيل إنه جميل بثينة من الوافر: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار و ذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا تسعفني هذه النتفة الشعرية، كمدخل معرفي، في بسط اليد على الحب المتيم ، الذي يمثله، في تاريخ الشعر الجاهلي، الشاعر جميل بثينة . بما هو يرمز إلى العشق الحقيقي، والانفعال الصادق تجاه الحبيبة ، التي كانت تسكن الدِّمَن. فالبيتان استعارة كبيرة توظف في المجال النقدي عند الباحثين والدارسين للأدب . فضلا عن مراصفتها الخلفيات النظرية التي تؤطر الأعمال الأدبية. إذا كان المبدع يتنقل بين هذه الخلفيات المعرفية، بحثا عن الحكي السردي الذي يسكنها، فمن الواضح جدا أنه لن يجد الطريق، وهو يبحث عن فتنة الحكي، معبَّدة أو مفروشة بالياسمين. كما ديار الحبيبة تماما، يقبل المبدع جدار الواقعية ، و يدق باب الوجودية، ويتمسح بالسيميائية ، في حين يقبل جدار البنيوية وما بعدها. فهو، في الحقيقة، لا يعشق هذه الجدارات وهذه البيوت ، بقدر ما هو متيم بالحكي الذي جعلها مكان إقامته . ففي هذه الخلفيات النظرية التي تؤطر العمل الادبي، لا مناصَ من طرح إشكالية تأصيل الحكي في الثقافة الانسانية بعامة. بناءا على ذلك ، فتأصيله أي الحكي السردي في الثقافة العربية، له سمتٌ شاقٌ وصعبٌ. يبدأ برحلة عبر هَرَم الادب العربي قديمه وحديثه، حاضره وماضيه السحيق. إنه، فعلا ، سفرٌ في أمَهَات كتب النقد، التي بنتِ الثقافةَ العربيةَ بالإسمنت المسلَّح ؛ بدْءا ب «البيان والتبيين» للجاحظ و«الكامل» للمُبَرِّد و«الصناعتين» لأبي هلال العسكري. وصولا إلى مقامات الهمذاني والحريري. فضلا عن كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، حيث يحمل بين طيَّاته نماذج لفن القصة في شكلها المبكر حسب الدكتور محمد الرُّميحي . ولا ضير أن نعرِّج على «ألف ليلة وليلة» وقصص الغرابة مع السندباد البحري واليقطينة. ها هُنا يكمن الافتتان بعجائبَ وغرائبَ الحكي، و من الحب ما قتل. يغدو القاصُّ ، في هذا السياق المتفاعل، قنَّاصا ماهرا. يكشف عن سحر الجمال الموجود في الطبيعة والانسان، ويحوله إلى تركيب غير منفلت في نسق معين ؛ يسحر به الغزال. فالتعبير عن رؤية الكاتب للعالم يندغم بالفن و يصطبغ بالرؤية الفنية للواقع . بالموازاة، فالسرد عطاءٌ ، كما يقول المتنبي من الكامل: أعطى الزمانُ فما قبلتُ عطاءَه وأراد لي فأرْدتُ أن أتخيَّرا فضلا عن أنه أي السرد عبارة عن مساحات شاسعة من القول والكلام والحكي السردي. وعلى ضوء ذلك، تنضافُ اللغةُ إلى هذا السَّلسبيل؛ لأن الابداع لا ينتسج إلا بها. حصانه الجموح ، صهوته جذوة من نار لا ينطفئ أٌوارها. فعند الحديث عن الابداع السردي بالمغرب، خصوصا، نستحضر تجاربَ من مختلف الأجيال، التي بصمتِ المشهد الثقافي المغربي ببصمات لا تمَّحي ومُرورَ الزَّمن. ففي جيل الستينيات، من عمر القصة القصيرة، بدأ التجريب يبحث عن مسكن قُطني آمن، فراكمت القصة المغربية ألوانا من تجاربَ واقعية تارة و وجوديّة ووجدانية تارة أخرى. ومع السبعينيات بدأت رقعة خريطة القصة القصيرة تتجاذبها أطراف كثيرة، سئموا كل شيء و عشقوا الحكي وسمفونياته العذوب، واستقطبت روَّادا جدد من مختلف مشارب المعرفة الانسانية؛ كمحمد الأشعري على سبيل المثال لا الحصر. ففي هذا كله ثمة منعطف خطير في تاريخ القصة المغربية، مع ظهور إبداعات الراحل عبد الكريم غلاب ومحمد زفزاف وأحمد بوزفور عميد القصة القصيرة بالمغرب؛ من خلال «مات قرير العين» و«بيوت واطئة»، و«النظر في الوجه العزيز» و«الغابر الظاهر». ولن ننسى ما حققه نهر الحكي النسائي الجارف، أيض، في السبعينيات مع خناتة بنونة والراحلة زهرة زيراوي، اللتين كانتا تلهجان بإدانة الواقع الذكوري، حيث ساهم ، وقتئذ، في تهميش دور المرأة الطّليعي . وبظهور قاصات مغربيات شابات وأنيقات في مطلع التسعينيات كَرجاء الطالبي في «شموس الهاوية»، ومليكة الصوطي في «جراحات امرأة» وعائشة موقيظ في ألبوم، وفاتحة مورشيد طبيبة الأطفال في «لحظات لا غير» على سبيل وقع الكلام لا الحصر. والحق أن معهن بدأت القصة القصيرة المغربية تطأ أراضيا وضفافا غير مألوفة ؛ أراض معتمة ٌ وقاتمةٌ. وعلى إثرها ، بدأ يزحف الابداع على ما يسمى ب «مملكة الطابو»؛ فاقتحم السرد المغربي بحور الهذيان الجسدي من أبواب مشرعة. بما هي أبوابُ المدينة المحرمة، التي يسكنها الإمبراطور الحالم فقط. وعلاوة على ذلك ، لا يمكن السكوت أو تجاوز ما دسَّته ربيعة ريحان، بداية التسعينيات، في حكيها في «مشارف التيه». ومنه، بدأنا نطل على سمفونيات الجسدِ العائمِ، الذي يتحدى كل أعراف مجتمع محافظ. أُسوة بما فعلته القاصة الكويتية ليلى العثمان، فحوكمت بمقتضى قوانين جارٍ بها العمل. إلى جانب ذلك ، فتاريخ الحكي هو تاريخ الألم و الحزن و المعاناة عبر عصور الابداع . معاناة مع واقع جموح غير مهادن ، لا يفهم معنى الابداع، لا يفهم معنى الحياة . تُقذف في المبدع شُحنات شيطانية فيهيم في وادي عبقر، كما هام آدم في الجنة ؛ فكشف لله عن سوْأته. ويكشف المبدع ، أيضا بدوره ، عن عورة مجتمع لا يؤمن بمعنى الخلق والاختلاف والابداع. إن هذا الأخير لا يمكن فصله عن طقوس الكتابة جملة و تفصيلا، وهذه سمفونية أخرى من سمفونيات الابداع الحالمة ، نظرا للتشاكل والتلاحم الوثيق بينهما. في هذا الاتجاه نسير غير أبهين، ونقول: إن أمير الشعراء أحمد شوقي، مثلا ، لا يبدع إلا وهو راكب على عربته يدور في بلاط الخديوي. أما شاعر المقاومة، محمود درويش، فلا يزوره طيف الابداع ، إلا و هو مستلقٍ على ظهره في غدوات خريفية، يستقبل فيها أضمومات أطياف الابداع الشعري. علاوة على ذلك، وفي السياق ذاته، نشر عبد لله أبو هيف في كتابه «الأدب العربي وتحديات الحداثة دراسة وشهادات» مجموعة من الأجوبة عن سؤال واحد، موجَّه إلى أكثر من مثقف و مبدع في العالم العربي من مختلف الأقطار ؛ كل حسب الجنس الادبي الذي يروقه. و كان من المغرب محمد زفزاف صاحب «حوار في ليل متأخر» و«بيوت واطئة»… طلب منه عبد لله أبو هيف أن يتحدث عن تجربته القصصية في المغرب، وعن الطقوس التي ترافق تَحْبيراتِه الابداعيّة فقال: «عندما أكتب لا أحاول أن أقلد أحدا … ليس المهم أن يطبل لي النقاد …المهم عندي أن أكون صادقا» مضيفا «أقضي وقتي في القراءة والنوم وأحيانا النميمة .أحب النميمة كثيرا .النميمة غير المؤذية .إنها عالم خيالي، كل شيء فيها متخيل. نوع من الخلق القصصي» انتهى كلام محمد زفزاف. طبعا، النميمة ، حسب زفزاف، جسر آمن يعبُر منه إلى عوالم السرد الإبداعي عموما . يلوك أحداثا غير أَبِهٍ بالزمن السردي ، ويراصف بها طقوس الابداع لديه. وأخيرا ، يظل الادب عبر العصور يزداد غموضا و التباسا… مادام الابداع صادرا عن مناطق غامضة في النفس الانسانية. مستمدا طاقاته وشُحناته من الرؤية والرؤيا معا، بما هما يبوصلان المبدع نحو الابداع ؛ فتغدو لغته تتلاطم بين التقرير والإيحاء. مستشرفا بها على عالم يَعُجُّ بالمتناقضات؛ ومتأثرا، في الآن ذاته ، بواقع حرون وزئبقي و دائم الطفرات.