أصدرَ الرّوائي المصري يُوسف زيدَان، عن دار الشروق المصريّة في عام 2012، روايةً بعُنوان "مُحال"، تحكِي لنَا (الرواية) عن قصّة شابّ سُوداني خلاسي، مزدوج الانتماء العرقي، ذلكَ لأنّه من أبٍ سُوداني، وأمّ مِصريّة، يتّسمُ بطيبةِ القلبِ وصَفاء النيّة، ناهيك عن ورعهِ الدينيّ الأصِيل، وهو طالبٌ يدرُس علم الاجتماع بجامعة الخُرطوم السودانيّة، ولكنّه يسافِرُ، في العطلة الصيفيّة السَابقة لسنته الأخيرة بالجامعة، إلى مدينة "أسوان" بجنوب مصر، لكي يعملَ كمُرشدٍ سياحيّ في آثار الأقصر وأسوان، عن طريقِ مُساعدَة أحدِ أقارِب والدَتِه المصريّة، ليستقِرّ به المقامُ مع شيخ ورع وطيّب المعشَر يُسمى "الحاج بلال"، والذي كانَ صديقاً قديماً لوالدِه. في مصر يستهوِي البطل، الذي تفُور في دمائِه فُتوّة الشبابِ وصبوتُه، والتي يجتهِدُ في كبحِهَا وضبطِهَا بمَا أوتي من وازعٍ دينيّ وأخلاقِي، (يستهويه) جمالُ الفتيات النوبيات المتّوكيات، وتأسره رقّتهن وأنوثتهُنّ وحيائهنّ، لتعتمِلَ بين جوانِحه نوازِعُ الانجذاب والتّوق الغريزي الذي يعترِي الرّجل نحوَ الأُنثَى، والتي طالمَا تصوّرها في خيالِه من بين أولئك النوبيات المتوكيات اللائي شغفنهُ حبّاً، وهامَ بهنّ عشقاً، حتّى أضحت غايتُه القُصوى في الحياة أن يظفَر بعروسةٍ لهُ منهُنّ، تكُون شريكةً لهُ في حياتِه إلى مُنتهى العمر. ولكن الصُدفة المحضة ستُوقِعه في حبّ فتاةٍ مصريّة أُخرى من بنات "الإسكندرية "، اسمها " نورا"، وهي، مثله تماماً، طالبةٌ تدرُس علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وقد قدمت إلى الأقصر ضمنَ فوجٍ سياحيّ طلاّبي، تصادفَ أن كان هُو الدليل والمُرشِد لهُ. فأحبّها (نورا) حبّاً ملكَ عليهِ أقطارَ نفسِه، وبادلته هيّ نفسَ العواطف، لينعَما بحلاوةِ العشق، ولو إلى حين. مع تنامِي السَّرد تبدأُ الدائِرةُ بالضّيق على البطل، فضابط أمن الدولة 'محمد بيه' راح يضيِّق الخناق عليه، ونورا تزوّجت، والسياحة كسدَت بسببِ أحداث الأقصر الإرهابية عام 97 ، ليتمّ بعد كل هذا إلغاءُ تصريح إقامَتِه في مصر، وإزّاء 'المصائب التي لا تأتِي فُرادى'، كمَا كان يعلِّق الراوي الضمني على طول الرواية، لا يجدُ(البطل) مناصّاً منَ العودة إلى السودان، وهُناك من السودان تمَّ إيجادُ فرصةِ عملٍ لهُ، ليهاجرَ إلى دولة الإمارات الخليجيّة، حيثُ سيعملُ مُحاسباً مع رجلٍ سوريّ يعيشُ في الشَّارقة، وبسببِ أمانته تزدادُ ثِقةُ صاحب العمل به، فيقرِّبه منه، وقد كانت الشَّركة بصدد عملِ مصنعٍ للألبان في أوزبكستان، فيتِمّ اقتراح المنصب عليه ليكُون المُشرف هناك، وبالفعل يذهب إلى أوزبكستان، وهناك يتزوّج من 'مهيرة' قريبة زوجة رب عمله السُّوري، ليعُود بهَا إلى الشَّارقة، ويذهب في رحلاتٍ لإرسالِ أموال لإقامة المصنع الجديد، إلاّ أنّ القدر يتدَخّلُ فيمُوت صاحب الشّركة، ليطلُب أبناؤه تصفيةَ الميراث، فيُعطي له صديقه الذي لقَّبه بأبي بلال مبلغاً مُحترماً ليبدأ مشروعاً خاصّاً به، وراحت الأحلام تراودُه بأن يذهب إلى السُّودان ويفتح دكاناً كبيراً، لكن صديقاً له سيعرِضُ عليهِ العملَ كمصَوِّر في قناة الجزيرة في قطر، ليقبلُ الفِكرة بعد إلحاحٍ شديد من طرفِ صديقهِ، لكنّ عبثيّة القدر ستسُوق إليهِ 'أمّولة العسُّولة'، صديقة 'نورا'، والتي صادفَها في أحدِ أسواقِ قطر قبلَ رحيله إلى أفعانستان، فحكَت لهُ عن الهزائم التي مُنِيَتْ بها نورا منذ أن انقطعت العلاقة بينهُما، وكيف انتزعت الطلاق من زوجها ما إن توفيّ والدُها، ذلك أنّ زوجهَا طردَها من الشَّقة وأبقى زوجة أبيها لمُتعه الخاصّة، وقد أنجبت(نورا) منه بنتاً أسمتها 'نور'، وإن كانت في الأصل ابنته هوّ، وكأنّ القدر يعاقبُه على عدمِ رؤيته لابنته، لأنه تخلَّى عنها وعن أمّها من قبل، ويعاقِبُه ثانيةً بعدمِ إنجابِ زوجته الأوزبكستانية. بعد مدَّةٍ من التدريب يذهبُ إلى أفغانستان ضمن فريق التصوير، حيث الحربُ المستعرة بين طالبان والقوّات الأمريكيّة. وفي هذا الجزء تبدُو شاعريّة السَّرد، حيثُ يأخذُنا السَّارد في رحلة شيّقة ومثيرة فيها من التاريخ والتنوُّع الثقافي الشيء الكثير، فترصد الروايةُ مظاهِرَ البؤس والفقر، وشراسة القتال، وغيرها من مظاهر العنف والقسوة. تتكاثفُ الوقائعُ فيتم بيعه (البطل)، في مُؤمراة خسيسة، لرجال المخابرات الأمريكية، بوصفهِ إرهابيّا متمرّساً، ليُقْتَاد إلى سجن 'قندهار'؛ فيقدَّم لنا السَّارد لوحةً ثريّة عن مظاهر التعذيب والاعتقال، وأساليب القهر والإذلال والتنكيل؛ من اعتداءات بدنيّة، كالضرب والتقييد والاغتصاب، وانتهكات معنوية كالسُّخرية من الدين والقرآن، وتشبيه الرجال بالنساء، وغيرهَا من ممارساتٍ حقيرة، ممّا يكشفُ بالملموس الادّعاءات الباطِلة عن احترام حقُوق الإنسان، والتي تتنطّعُ بهَا الولاياتالمتحدة الأمركية. تنتهي الرواية، بأن يُقْتَاَدَ البطلُ، في آخر المطاف، إلى رحلةٍ مجهُولة، تكفينَا الإشارة المتضمّنة، في نهاية السّرد، إلى اسم المكان الذي وصل إليه، لنعرفَ إلى أيِّ جحيمٍ ساقَهُ القدرُ هذه المرّة، لقد قادهُ مصيرُه إلى مُعسكر 'غوانتنامو' الرهيب المتواجد بالقرب من الحدود الأمريكية/الكوبية، وتلكَ حكايةٌ أخرى . إن "مُحال" تنهضُ على تناولهاَ للشأن السيّاسي بشكل ملحُوظ، حيثُ نجدُ أنّ هُناك الكثير منَ الوقائِع والأحداث الحقيقيّة التي يُسَجِّلُهَا السَّارد في الرواية؛ كحادثة اختفاء منصور 'الكيخيا'، المُعارض اللّيبي، أثناء زيارتِه إلى مصر، أو تفجير الشّيخ الليبي محمد الخليفي، معَ مجمُوعة من أتباعِه، مسجد الثورة فِي "أم درمان" عام 1994، إلى أحداث البرّ الغربيّ في عام 1997، ثم أحداث مقتل القائِد الطاجيكي 'أحمد شاه مسعود' على يد رجلين مُسلمين رغمَ مقاوَمته للرّوس ودحرِهم، ثم بعدها يتمُّ تفجير بُرجَي التّجارة الأمريكيّين في سبتمبر 2001، والقِتال في الصّومال، والحرب عَلى القاعدة في أفغانستان، ومطاردة كلّ من له صلة بالتنظيمات الإرهابيّة، وغيرهَا من الأحداث الكُبرى التي ارتبطت بفترة المدّ الدينيّ الذي تحوَّل في آخر فتراته إلى تعصُّبٍ وغلوٍ، الشيء الذّي أدى إلى خلقِ رُؤية متزمّتة تقُوم على إلغاء الآخر المُختلِف عن الذات.