تضاربت مواقفُ النقّاد والدارِسين والمبدِعين من جنس "القصة القصيرة جدّا"، ذلك أنّ كل مولود أدبي جديد وحداثي إلاّ ويفرِضُ مجموعةً منَ المواقف اتجاهه؛ فهناك من يدافعُ عن الأصالة ويتخوّفُ من كلّ ما هو حداثي وجديد، وثمة من يرحّب بكلّ الكتابات الثورية الجديدة التي تنزَعُ نحوَ التغيير والتجريب والإبداع والتمرّد على كل ما هو جامد، دون أن ننسى تلكَ المواقف المتحفظة في آرائها وقراراتها والتي تترقّب نتائج هذا الجنس الأدبي داخل أرضية الأجناس الأدبية وحقل الإبداع والنقد. من هُنا تتبادَرُ إلى ذهننا مجموعة من الأسئلة المشروعة : هل القصة القصيرة جدّا جنسٌ أدبي قائم الذات، يتميّزُ بخصائصه المتفرّدة ؟ أم أنه جنس دخيل يعارضُ مقوّمات الكتابة السرديّة بكلّ أنواعها و أنماطها ؟ وهل أصبحت القصة القصيرة جدّا ملاذَ المتكالبين على الإبداع نظراً للسهُولة ( المزعومة ) في كتابتها ؟ القاصّ و السيناريست الشاب عبد السميع بنصابر، يرى أنّه لا وُجود لمسوّغ للتفريق بين القصة والقصة القصيرة جدّا، ذلك أن " القصة قصة، سواء كانت قصيرة جدا أم لا، والتفريق يجب أن يكون بين القصة واللا قصة، فالقصة ذات الحجم القصير جدّا كتبَ فيها كبار الكتّاب مثل تشيخوف ومونتيروسو ونجيب محفوظ..إلخ.. أمّا ما نُطالعه الآن لبعض من يدّعي احتراف الكتابة في ما يُسمّيه "القصة القصيرة جدّا"، فلا أعتقد شخصياً أنهُ يدخُل ضمن فن القصة.."، الكاتب واصلَ متسائلاً : " لماذا هذا "التقصير" في حق القصة يا تُرى؟ هل لانعدام أو ضعف النفس السردي؟ هل يُمكن نزع العمود الفقري/"الحكاية" من القصة؟ ". وفي ما يخُص تكالب الغالبية العظمى على هذا النوع الأدبي، يقول بنصابر: "إن بعض الكُتاب يستسهلُون كتابة القصة لدرجة أنّهم يعتقِدُون أنّها ضربٌ من ضروب النكتة أو الشذرات الشعرية.. وهناك من ذهبَ في النقد بعيداً (وأعتقد أنه لن يعود) إلى الحدّ الذي جعلهُ يُنظّر في "القصّة القصيرة جدّا" جاعلاً منها فتحاً مُبيناً..". القاصّ ختم حديثه بالقول إن "هناك القصة التي تحترِمُ شروطها، وهناك أشياء غريبة وغامضة وأحياناً رديئة يكتبها بعض الناس.. وأرجو أن تعود القصة إلى رشدها على يد الأقلام الجادّة.. أمّا ما تمّ إصدارهُ لحد الآن من مجاميع قصصية قصيرة جدّا، فلا أعتقد أنّهُ سيحقّق طُموح كُتّابِها، ليسَ فقط لِ"قصَرِ" نظرهم، بل لأنّ القارئ ذكيّ، يُفرّقُ بين الغث والسمين.." . محمد الشهبوني، الأستاذ المبرّز في اللغة العربية، صرّح أنّ " المسألة مدارُ اختلاف بين النقاد والكتّاب. فهناك من يعتبرُها مطيّة سهلة للكتابة بالنسبة لمن يفتقِدُون لنفس الكتابة ومهاراتها، وهناك من يرى أنّ الإيقاع السريع للحياة فرضَ التعاطي مع هذا الجنس الأدبي الجديد المتميّز بالاختزال الشديد واللغة الشعرية والقفلة، وهي آخر عبارة ينتهي بها النص وتضع القارئ أمام مفارقة"، مضيفاً " أن الكتابة الشذرية والترميز والتكثيف واللغة الشعرية والقفلة من أهم خصائص هذا الجنس الجديد، وهنا تكمن صعوبته " . ومن وجهة نظر الأستاذ الشهبوني فإنّ " القصّة القصيرة جدّا شأنُها شأن كل أدب جديد ستلقى معارضة في البداية ورفضاً من لدُن حرّاس القديم والذائقة الفنية والجمالية. ولكنها إذا مَا وجدت كتّابا وأدباء يبدعون في مجال السرد والوصف من داخلها، ستشُقّ طريقها إلى القراء بيسر وسُهولة وسيتعاظم عدد مستهلكيها. وهو الأمر الذي لم يتحقّق لحد الآن على مستوى الدول العربية.." . مصطفى لغتيري، القاصّ المغربي، وخلافاً لما ذهب إليه عبد السميع بنصابر، يقول إنّ هذا الإنكار المجحف الذي تتعرّضُ له القصّة القصيرة ليسَ بالأمر الغريب، حيث "علّمتنا نظرية الأجناس الأدبية أنّ ظهور جنسٍ أدبي جديد يكون دوماً استجابة لحاجة ماسّة و ملحّة، وليس مجرد بذخ من أي نوع من الأنواع، وهذه الحاجة قد تكون فنية جمالية أو اجتماعية، للتعبير عن مستجدات لم تعُد الأجناس الأدبية التقليدية قادرة على التعبير عنها، لهذا لا ينفع أبداً أن نتخندق ضد ظهور جنس جديد، مهما كانت الحجج التي نسوقها لتبرير ذلك، وإلاّ وضعنا أنفسنا في موقف حرج، وأصبحنا معادين لسنة التطور في الحياة.."، مردفاً أنّ " تاريخ الأدب يعلّمُنا أنّ جميع الأجناس أو الصيغ التعبيرية المستحدثة وجدت مقاومة ممّن يُمكن نعتهم بمحافظي الأدب، لكن ذلك أبداً لم يمنع الجنس الجديد من شقّ طريقه نحو القراء، ثم ترسيخ قدميه، في ما بعد، في تربة الأدب. وقع ذلك لقصيدة النثر وقبلها لقصيدة التفعيلة، و حدث كذلك مع الرواية و جميع الأجناس الأدبية تقريباً إبّان ظهورها ". القاصّ المغربي ركّز على أنّ "القصة القصيرة جدّا ظهرت إلى الوجود و وجدت من يعتني بها إبداعاً و نقداً، لأن هناك حاجة جمالية و فنية لها، فتكثيفها القوي يعوّضُ إلى حدّ ما أنواعا كتابية لم تعد رائجة كالمثل و الخبر مثلاً، كما أنها تمتلكُ جمالية خاصة تفتقِرُ إليها الأجناس الأخرى، من قبيل القدرة على التقاط الإشراقات الذهنية والمواقف الواقعية الخاطفة والنوعية، التي تحفل بها الحياة، كما أنّها قادرة على صوغ المفارقات، بحيث لا ينافسها جنس أدبي في ذلك" . لغتيري شدّد على أنّ مسألة الاستسهال، التي يتخذها البعض سبباً لمهاجمة القصة القصيرة جدا، هي "ذريعةٌ مردُودة على أصحابها، فقد قيل ذلك ويقال عن الشعر كذلك، حتى اعتبره البعض "حمار المبدعين"، ولم تسلم من هذا التجنّي بعض البحور الشعرية كالرجز الذي عدّه البعض " حمار الشعراء" و هكذا دواليك" . الكاتبُ ختم حديثه بالقول إنّه يجدُ نفسه عند الحديث عن هذا الموضوع "مضطرّاً للتفكير في شعر (الهايكو)، الذي يبدو في متناول الجميع، لكن لا أحد يشتكي من الاستسهال في كتابته، عكس ما يحدُث للقصة القصيرة جدّا، لذلك فحين يحاكم بعض الكتّاب والنقاد جنس القصة القصيرة جدّا، فيتعيّنُ عليهم ? طلبا للموضوعية - أن يحتكموا إلى نصوصها الجيدة وهي متوفرة بكثرة، أما الرديء من النصوص، فلا يسلَمُ منه جنس أدبي مهما كان مكرّسا و مرسخا قدميه في المشهد الأدبي، ولعلّ ذلك يسمحُ لنَا بالقول كخلاصة : إنّ رداءة بعض النصوص ليست مبرّراً منطقيا ولا ذريعة قوية لإعدام جنس أدبي بكامله ". ومن جهته، يرى الناقد المغربي محمد يوب، أنّ القصة القصيرة جدا، شكلٌ من أشكال التعبير، ذلك لأنّها ضرورةٌ "فرضَتها ظروفُ العصر ومتطلّبات الحياة السريعة والمتسرّعة، ورغبةُ الإنسان في ابتكار طريقة في التعبير تواكب سرعة الحياة، وتتماشى مع ضغوطات المعيش اليومي، وجاءت كذلك لتتماشى مع المجتمع ما بعد الصناعي، ومجتمع المعرفة التقنية والمعلوميات، حيث إنّ الإنسان لم يعد في حاجة إلى الانتظار إلى الغد لمعرفة الخبر، بل أصبح في حاجة ملحّة إلى معرفة النهايات في وقتِها، كما هو الشأن أثناء مواكبته لأخبار القنوات الفضائية، وهي تنقلُ و تتبع الأخبار العاجلة، فجاءت القصة القصيرة جدّا كحتمية ضرورية لتلبية هذه الرغبة الملحّة، وهذه الحاجة الضرورية التي تتلاءم وسرعة وضغوطات الحياة ". الناقد يواصل كلامه قائلا إنّ ظهور القصة القصيرة جدا " لم يكن عبثاً وإنّما ظهرت لأسباب ذاتية تتعلق بدرجة القصدية والوعي عند القاص، التي تدفعُه إلى محاولة الابتكار والتجديد، كما أنّها ظهرت لتلبية رغبة سوسيوثقافية؛ فرضتها مستجدّات عصر ما بعد الحداثة التي أطلقت النار على أقدام الحداثة، التي لفظت أنفاسها في الغرب بسبب التحولات الاقتصادية العنيفة التي أدخلت الناس في عصر جديد من التطور السريع، الذي يواكب ثورة تكنولوجيا المعلوميات، وأشكال الاستهلاك والاقتصاد المعولم، والنفعية العالمية ". وفي ما يخُصّ ادّعاء البعض للسهولة في كتابة القصّة القصيرة جدّا، فالناقد يؤكّد على أنّه " كلّما كان القصّ قصيراً جدّا، كلما كان فعلُ القصّ عسيراً ومنهكاً، غير أن فرصته في إصابة المعنى تكُون دقيقة وبليغة ". إنّ القصّة القصيرة جدّا، المولود اللّقيط في نظر البعض و الجنس الثوري و الجديد من زاوية نظر البعض الآخر، صارت تسجّل حضورها اللاّفت، على الساحة الأدبية، يوماً بعد آخر، ممّا يجعل من الضرورة بما كان تناوُل هذا الجنس بالدراسة والتحليل من طرف النقاّد والدارسين، لدرء الفضوليين عن الأدب ومنعهم من ادّعاء الإبداع و الكتابة، وأيضاً لمنح هذا الجنس المكانة التي يستحقّها في النسيج الأدبي بشكلٍ عام .