إذا صرفنا النظر عن مدى تحقق دعوة الرئيس التونسي من عدمها حول المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وعن الدواعي التي جعلته يطلق تلك الدعوة في هذا السياق السياسي التونسي، فإن الفكرة أثارت جدلا كبيرا بين رافضين بإطلاق أو مؤيدين بحماس، وما بينهما فئة ثالثة من المشككين في مصداقية الفكرة من أساسها، أو اعتبارها إلهاء للتونسي عن أمهات القضايا. جدير بالتنويه، أن مطلب المساواة في الميراث ليس مطلبا من ابتكار الرئيس التونسي، بل هو مفصل أساسي في نضالات العديد من القوى المدنية والحقوقية في تونس، شأنه شأن مطالب أخرى تواظب الفعاليات المدنية في تونس على التحرك الدؤوب من أجلها. على أن دعوة الباجي الأخيرة، المثيرة للجدل، وبقدر ما أبانت عن غياب التنسيب في المواقف المتفاعلة، حيث تراوحت بين الرفض القاطع أو الدفاع المحموم، فإنها أيضا أعادت إلى الصدارة كل مفردات السجال السياسي التونسي، وكأن مشاغل الساحة السياسية التونسية تكثفت واختزلت في قضية المساواة في الميراث: قضايا البورقيبية وقانون الأحوال الشخصية، والهوية العربية الإسلامية، والمدونة الحقوقية والمضامين الاقتصادية والاجتماعية، كانت جميعها مضمنة في السجال الجديد الذي أطلقه الباجي قايد السبسي من قصر قرطاج. إصرار السبسي على القول إن الإرث "ليس مسألة دينية وإنما يتعلق بالبشر"، هو نقل للقضية من فضائها الديني إلى دلالاتها الحقوقية، وهو هنا يتماهى مع دعوات الحركة المدنية والحداثية التونسية منذ زمن المصلح الاجتماعي المعروف، الطاهر الحداد، ومنذ الآباء المؤسسين لمجلة الأحوال الشخصية (العام 1956). وإذا استبعدنا استحضار النوايا السيئة والرجم بالغيب السياسي في دلالات دعوة الباجي، فإن قضية المساواة تتأصل فعلا في صميم المدونة الحقوقية، أو هي قضية اقتصادية واجتماعية سليلة التحولات التي عاشها المجتمع التونسي بشكل خاص، والثقافة العربية الإسلامية في المعنى العام. قضية المساواة في الميراث هي قضية اجتماعية واقتصادية تتنزل في علاقات الإنتاج والمنظومة الاقتصادية بشكل واسع. علاقات الإنتاج القائمة ودور المرأة في داخلها اختلفا عن المنظومة الاقتصادية القائمة في فجر الإسلام، ولذلك فإن تحيين وضع المرأة والنظام الاجتماعي مع ما يسود اليوم أصبح مسألة ضرورية وملحة. هذا التحيين، الذي طالبت به العديد من المنظمات الحقوقية والمدنية، واجتهدت في البحث له عن تأصيل فقهي واجتهاد ديني ولم تعزها سبل ذلك، تحول اليوم إلى مبادرة سياسية أطلقها الرئيس، ولئن اختلفت الدواعي إلى المسألة، إلا أن الحجج والبراهين تظل قائمة، بكل ما تحتويه من وجاهة لدى المقتنعين، وما تمثله من ليّ لعنق الفقه والشريعة لدى جمهور الرافضين. والتنصيص على وجود الاختلاف في الموقف من المسألة، وتباين حجج المتحاججين، يشير إلى المياه الراكدة التي حركتها القضية، لكن السؤال المركزي الذي ظل مغمورا في غمرة النقاشات، هو الفضاء السياسي للنقاش، أي هل نحن في إطار دولة مدنية تفترض أن تكون تشريعاتها وقوانينها الناظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية مشتقة من المدونات الحقوقية والكونية، والوضعية عموما، أم تحت لواء دولة دينية مازالت تحتكم إلى المنطلق الديني في التشريع والقوانين؟ الملاحظ أن حرص العديد من القوى المدنية واليسارية التونسية على البحث عن تبريرات فقهية ودينية للفكرة، ردا على خصوم ومعارضي الفكرة يعتبر خللا فكريا ومعرفيا، إذ أن المحاججة والذود عن الفكرة يفترض أن يكونا من جنسها، وإذا اعتبرنا انطلاقا من قول الباجي نفسه، وانطلاقا من مواقف المنظمات الحقوقية التونسية، أن المساواة في الميراث هي نقلة ضرورية لتحديث المجتمع التونسي ومفصل مركزي في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، فإن البحث عن حجج دينية يصبح وكأنه ضرب من الانتقال الطوعي إلى ملعب الخصوم، وهم هنا الإسلاميون أساسا. المفارقة الثانية التي أضفت على القضية المزيد من الأبعاد السياسية هي موقف حركة النهضة ذاتها؛ التي ستجد نفسها في حرج متجدد بين موقف القيادة وموقف القواعد. هل تنسجم مع دعوة سياسية نابعة من رئيس الدولة وهي دعوة تزعم أنها نابعة من الدستور التونسي المتصالح مع مكتسبات مجلة الأحوال الشخصية، والمعترف بضرورة صونها وتحديثها وتمكينها من كل ما تحتاجه من تحيين وتحديث، أم تستجيب لأصوات القواعد الرافضة لهذه الدعوة، كما لسابقاتها، التي تقدّر هذه القواعد أنها تمثل خيانة جديدة لتطلعاتها في تطبيق الشريعة أو على الأقل عدم التناقض معها؟ المفارقة الأخرى متصلة بالتوقيت الذي أطلقت فيه الدعوة أو المبادرة، وهي دعوة لا شك أن تحققها سيحتاج زمنا طويلا بالنظر لما ستستغرقه اللجان المكلفة بالمسألة من جدل واستقطاب، إذ عدّ التوقيت استباقا مبكرا للحملة الانتخابية القادمة، أو مغازلة للحركة النسوية أو الخزان الانتخابي النسوي بشكل أوسع. على أن رداء البورقيبية الذي أسدل على الباجي قايد السبسي بمناسبة دعوته، وهو للمفارقة صادر من الخصوم كما من المؤيدين كل واستعماله للأمر، هو تعسف على المرحلة وعلى الرجلين. إذ لا مجال لاستدعاء ماض بخصوصيات محددة على حاضر بمفردات مغايرة، ولا مجال أيضا لمحاكمة التاريخ بوعي الحاضر. الباجي ليس بورقيبة. وصعوبة اللحظة الراهنة تختلف عن عسر زمن تأسيس الدولة، والخصوصيات الاجتماعية والثقافية التونسية القائمة تختلف جذريا عن العام 1956، وما كان ميسرا لبورقيبة، بكل ما كان يمتلكه من كاريزما واستبداد أيضا، لا يتوفر للباجي قايد السبسي، وهو إقرار لا يحجب شجاعة اتخاذ الموقف آنذاك. وانتظارات مجتمع اليوم وتهيّب بعض فئاته من المساس من المعتقد ليست على شاكلة انتظارات النخبة السياسية زمن الاستقلال. كل هذه الفروقات مع غيرها تجعل من تشبيه الباجي ببورقيبة، تشبيها فاقدا للوجاهة أو من قبيل الكسل الفكري الذي يستنجدُ بأمثلة التاريخ بحثا عن صواب الأطروحة أو دحضا لأطروحة. الدعوة للمساواة في الميراث، وبصرف النظر عن تحققها من عدمه، قضية حركت السجال الفكري والسياسي في تونس، ومثلت محكا حقيقيا للدولة المدنية في تونس، واختبارا لمدى قدرة القوى المدنية على الدفاع عن قضاياها ومضامين شعاراتها. البعد النتائجي المباشر للمسألة سيزول سريعا، وسيذهب في خضم التحالفات أو التوافقات، أما الأثر الحقيقي للفكرة واستتباعاتها فسيؤثر على الأجيال القادمة. ووحدها المواقف الرصينة والهادئة والمنسّبة ستظل حاضرة، ولعل في شجاعة الطاهر الحداد دليل وقرينة.