الروائي التونسي شكري المبخوت، الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) ليس مجرد ناقد ومبدع في الخيال، بل هو محلل سياسي. في لقاء بمدينة البوغاز، سلط الضوء على الأحداث التونسية، وامتداداتها وتشابكاتها مع السياق الإقليمي المغاربي والعربي الراهن. كيف تنظر إلى كل التحولات التي يعيشها هذا العالم منذ سنة 2011؟. أولا، ما ينبغي ملاحظته هو أننا نشهد، منذ الثمانينيات وإلى اليوم، جدلا- حتى لا أتحدث عن صراع- بين ثلاثة تصورات. التصور السائد مثلته دولة الحبيب بورقيبة وامتدادها في دولة بنعلي، ما دامت دولة هذا الأخير لم ترسم مسافة عن دولة بورقيبة، وظلت تحافظ على نفس توجهاتها القائمة على مشروعية الاستقلال. لكن بني عليها تصورات تخضع للضغوط التي فرضها سياق أواسط الثمانينيات: النظام الدولي الجديد، والتوجه نحو هيمنة شاملة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بدعوى الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، وفكرة التنمية التي تقوم على الاستثمار الخارجي، إلخ. إذا، هناك نوع من التنميط للقضايا العالمية، الذي تحقق مع وصول زين العابدين بنعلي إلى السلطة. هذا هو الخط الذي ظل متواصلا ومستمرا منذ الاستقلال حتى اليوم. وهنا يكمن الإشكال الكبير. على الطرف الآخر من هذا الخط، نجد التيار الإسلامي السياسي المحافظ، الذي ظهر في تونس أواسط السبعينيات، بدعم من السلطة لمواجهة اليسار. أشير هنا إلى أن السيناريو وجد في مصر والمغرب. إذ لا يعتبر هذا السيناريو جديدا، ولا طارئا. شيئا فشيئا، كبر هذا التيار، وتمرد بعد الثورة الإيرانية. وفي مقابل هذين التيارين، وجد التيار اليساري، وفي مقدمته التيار الماركسي اللينيني، الذي كان قويا ومؤثرا من الناحية الإيديولوجية، رغم تفرعاته وانشقاقاته الكثيرة. وهذه الثوابت الثلاثة موجودة حتى اليوم. ماذا نستخلص من هذا الأمر؟ نستخلص أن ثمة أمرا ما لم يحسم تاريخيا، بمعنى أنه لم تحصل شروط الصراع، ولم يفتح باب الحوار الاجتماعي والفكري والسياسي لفض هذا الإشكال. فالصيغتان الممكنتان هما الصراع بكل ما يمكن أن يكون فيه من مخاطر، أو الحوار بكل ما يمكن أن يكون فيه من عقلانية. لكنهما انعدمتا، حيث ظلت الكفة بيد السلطة السياسية التي تقرر متى تفتح الباب ومتى تغلقه. وعلينا أن نعترف أن غلق الباب حدث في بداية التسعينيات. وكان غلقا نهائيا. وووجه الإسلاميون مواجهة عنيفة، ثم سحب البساط من الجميع، بما في ذلك اليسار، لينفرد المستبد بالسلطة نهائيا. هل يمكن اعتبار نقطة التحول هذه في مسار السلطة هي السبب البعيد لقيام الثورة التونسية سنة 2011؟ لا، أبدا. هذا مستحيل. الاعتبار الذي ترمي إليه هو ما يزعمه الإسلاميون. ما وقع هو نتاج انتشار الأفكار الحقوقية، التي ساهم حتى النظام في نشرها من خلال التعليم والخطاب الرسمي، إلخ. ومع الانفتاح على القنوات الأجنبية والشبكات الاجتماعية، ترسخت هذه القيم، وأصبح التونسي يرى الفارق بين منطوق الخطاب والواقع. كما أصبح يتبنى فكرة الحرية والديمقراطية. إذ كانت هذه الفكرة محصورة بين النخب فقط. ولكن التونسي تمرد وثار حين رأى استشراء الفساد وانعدام الشفافية وهيمنة أطراف قريبة من الحاشية على الاقتصاد والتلاعب بمصالح الناس وافتكاك وانتزاع حقوق غير مستحقة، إضافة إلى الحيف الاجتماعي والجهوي. ينبغي ألا ننسى هذا أيضا. إذا، هناك خلطة ما وقعت وأدت إلى الانفجار وتبلور المطالب. وهنا ينبغي أن نقول إن المطالب لم تكن مطالب هوية. إذ لم نسمع أثناء الثورة برفع شعار الدولة الدينية، ولا دولة الخلافة، ولا الهوية العربية الإسلامية، ولا غيرها. كانت المطالب واضحة، وهي: الحرية والكرامة والعدل. هذه مطالب الناس. لكن هناك، في تقديري، نوعا من الثأر الذي تربى في نفوس الإسلاميين، بالنظر إلى القهر الذي عاشوه، أو بحكم رؤيتهم إلى التاريخ التونسي منذ الاستقلال. إذ تمت المماهاة بين الدولة التونسية وشخصيتي بورقيبة وبنعلي. لا ننسى أن راشد الغنوشي رفض أن يترحم على بورقيبة حين توفي. وفعل ذلك أمام الملأ، حيث أعلن رفضه ذاك عبر قناة الجزيرة. وهو رد فعل ضد من اعتقد أنه قمعه واضطهد الإسلام. لنعد إلى سؤالك. لا يمكن الربط ميكانيكيا بين ما عاشه الإسلاميون من ظلم (حبس وتعذيب ونفي)، وبين أسباب الثورة. لا يقتصر سؤالي على الإسلاميين. لقد قلتَ إن نظام بنعلي سحب البساط من الجميع في التسعينيات… (مقاطعا)… كانت خطة بنعلي واضحة. إذ تبنى بنعلي منذ بيان 7 نونبر 1987 جميع مطالب المعارضة، وضمنها في خطابه. وأصبح الجميع يتساءل منذ تلك اللحظة: ما هي مطالبنا؟ ينبغي أن نعترف أمام التاريخ أن أغلب أطياف المعارضة ساندت بنعلي حينها، بما في ذلك تيار راشد الغنوشي، الذي صرح- حسبما تفيده الرواية التاريخية- أن يثق «في الله، ثم في بنعلي». قد يفسر هذا التصريح بكونه خطابا سياسيا. لكن لا بد من القول إن التيارات الماركسية الراديكالية هي التي لم تساند بنعلي، حيث اعتبرته فاشيا وانقلابيا. أفرز ما بعد ثورة الياسمين وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم. كما أفرز وثيقة دستورية غير مسبوقة في تاريخ العالم العربي، تتسع لتنظيم الحياة السياسية والحياة العامة. ومن أبرز الملاحظات قبول الإسلاميين بمبدأ «حرية الضمير». بالنظر إلى هذا الانفتاح في الخط السياسي لتيار النهضة، كيف تنظر إلى تجربة الإسلاميين منذ سنة 2011 إلى اليوم؟ تكمن أول ملاحظة في أن حركة النهضة، حين عادت قياداتها إلى تونس، استطاعت أن تعيد هيكلة نفسها بسرعة عجيبة. وظل اليسار والديمقراطيون يتحدثون ويواجهون ما يسمى ب»أزلام النظام البائد». كان الإسلاميون حينها ينظمون أنفسهم. وهنا ينبغي الاعتراف لهم بهذه القدرة التنظيمية، وبحسن استعمال خطاب المظلومية والعمل الاجتماعي والذهاب إلى الأماكن النائية للاقتراب من شعب، إلخ. وكأن عددا كبيرا من التونسيين رأوا حينها أن هؤلاء يخشون الله، وأنهم لن يحكموا إلا بعكس ما حكم به بنعلي. كان خطاب الإسلاميين ذكيا من هذه الناحية، حيث استطاع أن يروج هذه الصورة. وفي المقابل، تبين حينها ضعف التيارات السياسية الأخرى. تبين أنها لا تملك عمقا شعبيا، وتعجز عن تقديم خطاب قريبا من أفهام الناس ويفتح لهم أملا ما. وأخفقت الأحزاب المناضلة في زمن بنعلي إخفاقا مذهلا. في هذا السياق السياسي، تبين دهاء حركة النهضة في كونها لم تسعَ إلى التفرد بالحكم، وفي إشراك أطراف أخرى من المعارضة الديمقراطية. ولم يقبل بذلك سوى حزبان صغيران، هما حزب المنصف المرزوقي، الذي تكون على عجل. كانت هذه إشارة إلى أن النهضة فهمت السياق، باعتبار أن حزبا واحدا لا يستطيع الاستجابة لمطالب الثورة العريضة. كما فهمت أن التونسيين لم يعودوا يؤمنون بالحزب الواحد المهيمن، بل باتوا يرون فيه خطرا، ولا يقبلون به. وفهمت أيضا هذا الحس الثوري الشعبي. ومن هنا كانت الضرورة إلى تحالف حكومي. لكن ما دام الحزب لا يتوفر على كوادر خبيرة بالدولة، فإنه أوجد أناسا أخطؤوا حين مارسوا سياسة الدولة، بما تتطلبه من مسؤولية وجدية. ثم كانت هناك لدى حزب النهضة رغبة في تفكيك بعض أجهزة الدولة، وعلى رأسها الجهاز الأمني. وهذا التفكيك يعني إدماج موالين لها في هذه الأجهزة. ومن تمّ إدماجهم باسم العفو التشريعي العام واسترداد الحقوق وتسوية الوضعيات من أنصار النهضة الذين يمثلون عددا كبيرا داخل أجهزة الدولة، فاق أحيانا ما تحتمله. وقد بلغ ذكاء النهضة أحيانا أنها تصرفت بسرية، حتى أن ذلك أثار حلفاءها. ماذا أنتج هذا؟ مع عجز النهضة وحكومة الترويكا على حلّ مشكلات الناس، لأن سقف المطالب كان عاليا جدّا، ومع سوء الأداء السياسي ومعارضة الأطراف الأخرى، حلت أزمة ثقة وأصبح الهجوم على النهضة كثيفا. وعلينا أن نعترف أيضا أن النهضة أخفقت في حماية أرواح بعض رموز السياسة، حيث كان اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي نقطة تحول. وكانت النهضة قد سعت قبل ذلك إلى ضرب كثير من الخصوم عن طريق ما يسمى بلجان حماية الثورة، وهي ميليشيات خطيرة تتكون أساسا من المنحرفين، وظفتها لضرب الاتحاد العام التونسي للشغل مثلا. وهكذا، ارتكبت أخطاء سياسية عديدة، في نوع من الزهو والعجب بأنه لا يوجد منافس قوي قادر على إيقافها. لكن التحول الكبير، وهو الدستور الذي تحدثتَ عنه، تم بعد اغتيال محمد البراهمي، بعد أن فرض الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذا المنظمات الأخرى، مثل اتحاد الأعراف وبعض جمعيات المحامين، الحوار مع الحكومة، بمباركة من الفاعلين الدوليين. فوجدت النهضة أن لحظة الحساب قد اقتربت. لا ننسى أيضا السياق الدولي، وخصوصا ما وقع في مصر، الذي غيّر الكثير من المعادلات. بالنظر إلى كل هذه الأمور، لا يمكن القول إن الدستور تحقق بموافقة حركة النهضة. إذ هناك الكثير من الأشياء التي فرضت على النهضة، من بينها «حرية الضمير». فإذا عدنا إلى حيثيات معينة قد تبدو من باب النوادر، سنجد أن فصل مبدأ «حرية الضمير» تقرر نهائيا بعد أن كفّر أحد أعضاء المجلس التأسيسي- وهو من شيوخ النهضة- معارضا من حزب شكري بلعيد. وانقلبت الأمور بعد هذا التكفير من رد الفعل العنيف إلى موافقة على هذا الفصل. ولكني أعتقد أن النتيجة إيجابية، وليست سلبية على العموم. فيما يتعلق بصعود «نداء تونس»، تختلف الآراء والمواقف حول عوامل نجاح الباجي قايد السبسي، كيف تتوقع مرحلة «نداء تونس»؟ لا ننسى أن الباجي قايد السبسي هو من أقدم السياسيين، إن لم يكن أقدم سياسي في المدرسة البورقيبية، حيث دخل مضمار السياسة، وهو شاب: محام شاب ومقرب من الحبيب بورقيبة. فخبرته ودهاؤه السياسيان كبيران. إضافة إلى ذلك، لا ننسى أن باجي القايد السبسي هو الذي سلّم السلطة المؤقتة سلمية لحركة النهضة، بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011؛ أي أن السبسي استطاع أن يمرر الفترة الانتقالية الأولى بنجاح. ثمة أمر ينبغي أن ننتبه إليه، وهو أن الإرهاب لم يبدأ مع فترة الإسلاميين فقط. ذلك أن الفترة التي قادها السبسي شهدت عملية إرهابية، أو أكثر، وإن لم تكن بالحجم نفسه. ما يتحمله الإسلاميون هو أنهم أخطؤوا في تقدير حجم الحركات التكفيرية، حيث كانوا يظنون أنهم القوة السياسية الوحيدة القادرة على أن تجني «خراج» الحركات الدعوية. أعتقد أن هذا ما جعلها تهادن- حتى لا أسير في تأويلات ليس لي عليها أدلة دامغة. أما الأمر الآخر، فهو أن حزب «نداء تونس» لم يولد بالمال الإماراتي كما يقال. ذلك أن أطرافا سياسية أخرى، بما في ذلك النهضة، تتلقى أموالا من الخارج، حيث يجب ألا ننسى أن تونس باتت، بعد الثورة، أكثر انفتاحا على قوى خارجية متعددة، على المال الخليجي وغير الخليجي. ولابد أن الجرد سيجري يوما ما. إذ مازالت الأموال تدخل إلى تونس، دون أن يكشف على مصدرها. وهو خطر من أخطار ربط السياسة بالمال. لكن علينا أن نعترف في الحالات جميعها أن حزب «نداء تونس» يمثل معجزة في التاريخ السياسي التونسي. ذلك أن هذا الحزب استطاع، بعد سنتين من تشكيله، أن يحصل على الأغلبية في البرلمان. وبالطبع، ليس الأمر بديهيا. إذ تكون هذا الحزب من مستقلين ونقابيين ويساريين ودستوريين (يسمون «دستوريين» لتمييزهم عن «تجمعيي» بنعلي). كما وظف الحزب كثيرا من التجمعيين الذين مثلوا حزام السلامة. والتحق به أناس، ما كان عليهم أن يلتحقوا بهم، بحسب المعلن في خطاب «نداء تونس». لكني أعتقد أن التحاق هؤلاء الانتهازيين والوصوليين كان بدافع القمع الذي تعرض له «نداء تونس» من لجان حماية الثورة. ثم لا ننسى مرة أخرى أنه اغتيل قيادي من قيادييه في الجنوب التونسي، بعد أن تم سحله. كل هذا منح «نداء تونس»، بالإضافة إلى الشخصية الكاريزماتية للباجي قايد السبسي وتشغيل الآليات الانتخابية التقليدية، القدرة على الفوز بالانتخابات في تونس. لكن مشكلة «نداء تونس» هو ارتباطه الشديد بزعيمه الباجي قايد السبسي، حيث ينفرط عقده بغياب الزعيم. وما يطرح إشكالية قدرته على الاستمرار هو وجود تيارات داخله. فهل هي قادرة على أن تختلف وتتباين سياسيا، لا مصلحيا؟ لا أدري. تحدثت أعلاه عن التعاون بين تونسوالجزائر وليبيا. في نظرك، ما موقع المغرب في هذا التعاون؟ دعني أبدأ في الجواب عن سؤالك من الإحساس الشعبي العام. فصورة المغرب في ذهن التونسي هي دائما صورة ناصعة على جميع المستويات. والعكس بالعكس. هذا ما أستطيع أن أشهد به عموما. عندما تحدثت عن الجزائر، قصدت وجود هذا الجوار المباشر. ولكن الواضح أن بين المغرب وتونس إمكانات كبيرة من التعاون. ولا ننسى أنهما معا ينتميان إلى الاتحاد المغاربي، رغم أنه يعتبر من الناحية السياسية كائنا منهارا. ورغم أني لست سياسيا، ولا خبيرا استراتيجيا، لكني أعرف كل ما يهدد المغرب، يهدد كذلك الجزائروتونس. لا شك أن المغرب يعاني من المسعى الخارجي بزعزعة استقراره. ومن هنا، فالمسألة تقتضي وجود تعاون لضرب مصادر هذا الخطر. وهنا ينبغي أيضا توقف المغرب عن احتضان الحوار الليبي في مدينة الصخيرات. إذ لابد من القول إن هذا الأمر يمثل مساهمة غير مباشرة لتهدئة الحدود الليبية التونسية. هل ترى أن حل المشكلة الليبية والقضاء على الإرهاب في تونس وتجنب غموض المستقبل السياسي في الجزائر يكمن أساسا في إعادة المشروع المغاربي؟ لا أظن، لأن بعض المشاكل القائمة في هذا الوسط المغاربي لا تساعد على ذلك… رغم أن الربيع العربي أطلق أمل إحياء المشروع المغاربي… لنكن صرحاء، لم ترفع الثورة التونسية شعار الوحدة المغاربية. ولم تكن مطروحة عند مواجهة القذافي. ومن هنا، فهي ليست من المطالب الأساسي في أي بلد من البلدان الخمسة. لكن أين تكمن المفارقة؟ هي تكمن في أن التوجه الشعبي يقبل مثل هذا الأمر. مرة أخرى، يجب أن نتساءل: ما هي الغاية من الاتحاد المغاربي؟ ليست الغاية أن تصبح كتلة واحدا، بل الغاية هي أن تصبح مفاوضا كفئا مع التكتلات الأخرى. إذ تبدو الحاجة إلى هذا الأمر قائمة، ولكن الوعي بإدخالها حيز التنفيذ ليس قائما، لأسباب معروفة، من بينها مشكلة الصحراء. باعتبارك مثقفا، هل تظن أن المدخل الثقافي قد يساعد على إيجاد الحلول؟ لا أظن. إن البعد الثقافي يحقق حقا الانسجام والتفاعل والتكامل، ليس على الصعيد المغاربي، بل على صعيد العالم العربي كله، وحيثما وجدت الثقافة العربية الإسلامية. إذا، فالوحدة اللغوية والثقافية هي الجانب المشترك بين المغرب والمشرق، هي وحدة متنوعة لا تنفي الخصوصيات المحلية والجهوية والإقليمية. ولكن البديهي أن الثقافة ليست مدخلا للوحدة الاقتصادية أو السياسية، لكنه ييسرها. إذ القضية هي قضية اقتصادية وسياسية. قد أكون خيبت ظنك. ولكن الثقافة لا تستطيع أكثر من تيسير الإمكانيات، إذا وجدت الإرادة السياسية الحقيقية. وفي النهاية، ليست القضية قضية عاطفية. لا ننسى أننا أمام دول قائمة الذات، بحدودها ومصالحها ومشاريعها واختلافاتها، إلخ. هل ترى أن تونس قادرة على التغلب على الموجة الإرهابية العاتية التي تتعرض لها منذ أربع سنوات، مثلما فعل المغرب في العقد الأول من الألفية الجديدة؟ وإلى أي حد يمكن القول إن القضاء على الإرهاب رهين بمدى تحقق الديمقراطية؟ «شوف»… ليس لتونس وحدها من القوة ما يسمح لها بالقضاء على الإرهاب. في تقديري، يحتاج هذا الأمر إلى إرادة سياسية كبيرة- أظن أن جزءا مهما منها موجود، لأن الأمر أصبح يمس جوهر قيم الدولة، وهو الاقتصاد، عبر ضرب السياحة. لا ننسى أيضا أن المؤسسة الأمنية عاشت مرحلة ارتباك، ولابد أن تستعيد توازنها. ولكن السياق الإقليمي على الأقل، الذي تعيش فيه تونس، هو سياق صعب جدا، بوجودها بين بلد بدون دولة، وهو ليبيا الذي تتناسل فيه هذه التيارات التكفيرية العنيفة الداعشية وغيرها، والجارة الجزائرية وما فيها من إمكانية تسلل الإرهاب، رغم موقف الدولة والجيش الجزائريين. إذ تظهر الهشاشة في هذا السياق الصغير، حيث لا بد أن تتعاون تونس مع الدول الأخرى، خاصة مع الجزائر، على اعتبار أنها تمثل العمق الاستراتيجي لتونس، بما في ذلك الجانب الأمني. لكن الإرهاب مشكلة معقدة، وهي أصعب مما نتصور. إذ نعلم أن الإرهاب في كل البلدان مرتبط بالتهريب، الذي بات يمثل نصف الاقتصاد التونسي تقريبا. ولحل مشكلة التهريب، لا يكفي الحل الأمني. إذ لا بد من تدشين المشاريع الاقتصادية الكبرى التي تحتاج إلى تمويلات ضخمة. لقد كان الغرب يرفض تمويل الاقتصاد التونسي في زمن بنعلي، لأنه لا يحترم الديمقراطية. والآن، أصبح لنا فائض من الديمقراطية، ولكن الأموال لا تأتي. وبعض البلدان التي تتحدث بهذا المنطق، مثل فرنسا، تعيش بنفسها أزمة، ولا تستطيع أن تساعد تونس. أما بالنسبة إلى داعش، الذي أصبح غولا مخيفا، فإننا نعرف كيف نشأت، وما لها من أموال وسلاح. سؤالي: من أين يأتيها هذا؟ هل هي إمكانيات ذاتية نابعة التبرعات الناتجة عن وهم إنشاء الخلافة؟ ينبغي أن نكون سذجا بالفعل حتى نصدق أن القوة العظمى التي تتحكم في العالم لا تعرف مصادر تمويل هذا التنظيم. ففي الحرب الجدية، فأول ما تقوم به هذه القوة هو قطع الإمدادات. ولكن إمدادات داعش مازالت متواصلة. إذا، ثمة مصلحة ما في بقاء داعش ومسرحة العنف الوحشي. هكذا، هناك كثير من الأشياء لا نعرف خيوط اللعبة فيها، ولكن هناك شيء خطير ما، يدبر بعيدا عن نظرية المؤامرة، لبلدان عديدة، ربما تكون تونس من بينها… هل تقصد مشروع تقسيم البلدان العربية التي تتحدث عنها جهات كثيرة؟ ربما. لا أدري. لا أملك خبرة استراتيجية أو وثائق لا يملكها الناس عن هذا الأمر. لكن تونس توجد في مهب رياح كثيرة. ولا نعرف أين تسير السفينة بالضبط.