تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. المغامرات العجيبة لسيدي حماد وموسى يورد الإثنوغرافي الفرنسي أرسين رو رواية للحادثة الانقلابية التي طرأت على حياة سيدي حماد وموسى (1460-1563) وجعلته يتحوّل من شاب سوسي يعيش حياة عادية في بلاد تازروالت إلى سائح يلبس الخرقة ويضرب في بقاع الدنيا لسنوات طوال خائضا في التجارب الصوفية الخارقة ومُقتاتا من خشاش الأرض.. وقد أخذ الباحث هذه الرواية سنة 1951 عن شيخ من قبيلة شتوكة اسمه سي إبراهيم الكونكي وفيها يحدثنا سيدي حماد وموسى بلسانه الأمازيغي عن تفاصيل ما حدث: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. هذا ما رواه سيدي حماد وموسى السملالي رحمه الله بعد أن شمله تعالى برعايته وفضله وهيأ له التنعم بمَرضاته. «كنا ذات يوم مستغرقين في لعب الكرة، وفجأة طلع علينا شخص عجوز أبيض الشعر حاملا فوق رأسه قفة من التين الطازج وخاطبنا: مَن منكم يحمل عنّي هذه القفة فيرفعه الله درجات، ويجعلُه يطوف من البلاد ما لم يشهده بعدُ نبي أو وليّ؟ ويواصل سيدي حماد وموسى: حملتُ القفة على رأسي ورافقت العجوز إلى حيث يقيم. ولكن ما إن عدتُ للالتحاق برفاقي ورغبت في الجلوس صحبتهم حتى غبتُ عن وعيي. وقد مكثت على هذا الحال ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع غادرت منزلي وتوجهت إلى مدينة مراكش حيث يعيش الشيخ سيدي عبد العزيز التباع رحمه الله ونفّعنا ببركته. آمين.. وعندما بلغت إلى منزل الشيخ خاطبني قائلا: «يا مرحبا بالشيخ المبعوث من الله، سيرفعك تعالى إلى درجة عالية ويجعلك تطوف بلادا لم يعبرها قط قبلك نبيّ ولا وليّ.» ثم ضربني على رأسي بحيث غبت عن الوجود لمدة تسعة أيام. وفي اليوم العاشر غادرت بيت الشيخ وتوجّهت قاصدا زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلّم. ولمّا وصلت المدينةالمنورة حرصها الله شرعت مباشرة في البحث عن الشيخ الفاضل سيدي عبد القادر الجيلاني (1078-1166) رضي الله عنه وأرضاه. وكنت قد عانيت تعبا شديدا لقطع المسافة بين قبر الرسول (ص) وبيت سيدي عبد القادر الجيلاني فلما رآني هذا الأخير دعاني إلى الركوب على قصبة قدّمها لي. ولكنني رفضت ما دعاني إليه بشدة وذهبت إلى حال سبيلي مشيا على الأقدام لمدة سبعة عشر يوما حتى بلغت مضارب البدو. وهناك قضيت الليلة في ضيافة امرأة تملك اثنتى عشر أتان (حمارة) من سلالة نادرة في المنطقة. وقد أطعمتني المرأة عشاء مكونا من الزبدة والحليب وظلت تلحّ عليّ لآكل قائلة: «إن عليك أن تأكل». لكن عند اللقمة الأولى أثار انتباهي وأنا أنظر إلى الأرض وجود الثور (البهموت) الذي يحمل الأرض على قرنيه، ثم وأنا أوجّه بصري إلى السماء أبصرت بالكرسي والعرش الرباني. عندها، يضيف سيدي حماد وموسى، غادرت بيت هذه المرأة متوجها ناحية الشرق. وخلال الطريق التقيت برجل يصرف وقته في الطواف على البلدان وقمت بمصاحبته لمدة أربع ليال قبل أن أتركه وأذهب إلى بيت سيدي محمد أوياسين (مجهول) الذي وجدته يرعى قطيعا من الجمال بصحبة مجموعة من البدو العرب. خاطبتهم قائلا:»احفروا في هذا المكان فإنكم واجدون قبر أحد أولياء الله.» وقد شرعوا في نبش المكان الذي أرشدتهم إليه ولمّا لم يعثروا على شيء من ذلك انهالوا علي ضربا حتى أشرفت على الموت. غير أنهم لما قاموا بالحفر مرة ثانية عثروا فعلا على القبر فتبيّن لهم أنني لست بكاذب ولكن مشيئة الله وحدها هي التي قررت في مصيري. وعندها وقف أحدهم أمامي وخاطبني قائلا:»عليك أن تنال قرعا مجددا بالعصى لكي ترتفع إلى مقام الأولياء». وقد أجبته بالقول: «مَن تكون إذن يا سيدي» فرد عليّ:»أنا عبد الله بن إبراهيم سليل المدعو عبد الله الجليل لذي تلقّى القصبة من يد سيدي امحمد أوسليمان الجزولي.» بعد تبادل هذا الحديث، واصلت طريقي شرقا لمدة سبعة عشر يوما من دون أن أتناول أي طعام غير الأعشاب. وفي اليوم الثامن عشر خاطبتني نفسي الأمّارة بالسوء وهي في غاية الغضب: «ما معنى كل هذا المسير؟» وسوف نلتقي في طريقنا بمجموعة من الأشخاص شبه عراة وكل ما يسترهم هو قطع من الجلود. بقينا في ضيافتهم ليلتين دون أن نتناول شيئا آخر غير الجبن الجاف. ثم غادرناهم لمواصلة المسير خلال اثني عشرة يوما قطعنا فيها الغابات والصحاري من غير أن نصادف أي كائن حي. عندما وصلنا إلى بلاد المتوحشين التقينا فجأة برجل أعور يرعى غنما وطلبنا منه ضيافة الله. رحّب بنا ودعانا إلى بيته الذي كان عبارة عن مغارة يُغلق بابها بواسطة صخرة هائلة لا يقوى على رفعها أقل من أربعين رجلا بينما كان يتولى بمفرده زحزحتها فتحا وإغلاقا بدون مساعدة من أحد. أشعل النار وقام بنحر كبش لإطعامنا بلحمه المشوي الذي أكلنا منه حتى اكتفينا، وعندها سألنا إن كنا بحاجة إلى شيء آخر..وقد أجبناه بأن ما أكلناه فيه الكفاية فقال لنا:»أما أنا فلم أتعشّ بعدُ، وأتساءل عمّ سيكون عشائي، لابد أن أحدكما هو الذي سيشكّل وجبتي.» وقد رددنا عليه بأن الله يحرّم أكل لحم البشر، وإذا كنتَ مسلما فإن الله قد حظر عليك ذلك..وقد أجابنا بأنه ليس مسلما بل كافرا وأن علينا أن نختار مِن بيننا مَن سيتناوله في عشائه.» وقد تطوّع كل واحد منا ليكون الضحية الأولى التي سيتعشّاها هذا الطاغية. وتذرع صاحبي بأنه لا يصلح لأي أحد وبأنني في تقديره سأكون ذا نفع للجميع..ولما سألته عما يعنيه بكلامه أجابني بأنه لا يشك في أنني سأكون مدعوا للقيام بالعديد من الأعمال الصالحة التي ترضي الله.» ومباشرة بعد ذلك سلّم نفسه للطاغية الذي أمسكه من كتفه وشرع في افتراسه. وعندما أتى عليه كان صاحبي قد انتقل إلى رحمة الله. عاد الطاغية من جديد ليلتهم بقايا الخروف الذي كان قد نحره من أجلنا، وعندما فرغ من ذلك قال لي: «في صبيحة الغد، ستكون أنت هو مَن أتناوله في فطوري.» ثم استلقى على ظهره واستغرق في النوم. عندها قمت والتقطت السفّود الذي استعمله في إعداد الشواء وجعلته يحمى على النار. ولما صار السفود أحمر غرزته في العين السليمة التي كانت تسمح له بالرؤية. ولمّا فُقئت العين وقام الطاغية مرتعبا مما أصابه في محاولة لمطاردتي والإمساك بي تسللت مبتعدا عنه وحشرت نفسي وسط قطيع الخرفان. وعندما يئس من العثور عليّ قال لي: «من أين لك أن تغادر هذا المكان؟ غدا سأُمسك بك عند الباب.» ومضى الليل وفي الغد أزاح الطاغية الصخرة التي كانت تحجب باب المغارة ثم جلس وأخذ في مراقبة الخرفان التي كانت تعبر أمامه واحدا واحدا عن طريق ملامستها أملا في القبض عليّ. وقلت مع نفسي حينئذ: «كيف لي أن أفلت من قبضته؟». وقد شاء الله أن يحميني من هذا الطاغية فأشار عليّ بأن أرتدي جلد الخروف الذي كان قد ذبحه احتفاء بنا، وخرجت مختلطا بالخرفان حامدا الله على أن يده لم تهتد إلى الإمساك بي. وقد توقفت بانتظار أن يَفرغ من إخراج جميع خرفانه. وسمعته يتساءل: «أين أنت؟ فأجبته: أنا بالخارج يا عدو الله ويا أعتى الأغواال.» ولما تيقنت من أنني أفلتّ من قبضته واصلت مسيري حثيثا باتجاه الشرق نحو خمسة وثلاثين يوما. وقد كنت حزينا ومهموما ولا أنفكّ أفكّر في صاحبي الذي افترسه الغول. ولم أكن طوال الطريق أقتات سوى بأعشاب الأرض.