مساحة متمواجة بالنظرات مشتعلة برغبة اللقاء أطؤها كأني لم أنتظر أحدا قبلا ، ألج بتمهل شرفة مطلة على كل الأحاسيس المتضاربة، حيث تولد ابتسامات وتنبثق احتضانات شغوفة. هنا ترسو الجاذبية العاطفية لتضبط ساعتها الوقتية، لتلتف بكل بهائها حول أرواح منتظرة ، طواقة إلى جزء منها، حلق بعيدا و ها هو يؤوب إلى ظله ليلتحم به، هنا تلتئم القطع المتناثرة للروح وتتداخل الحدود ، حدود الأشواق المسافرة والعالقة في انتظار احتضانة . أحيانا ترمي بي اللحظة إلى هكذا مكان لأستنشق بعضا من المشاعر المتدفقة ،التي افتقدتها إثر رحيل حارق . أعزف لحن الأمكنة المأهولة بعواطفها لا لأني ألج مزارا مقدسا بل لأني أتعقب رائحة عابر مر من هكذا مكان . "لست ظلك المفقود و لا عاشقك المنفي لا أنت مني و لا أنا منك " ما أصعب الانتظار، يحوي التوثر والقلق ونحن رشفنا توترنا قبل سنيين فاصلة ،حيث كنا نحيك شرنقة الفراغ ونركب صهوة التمني يلفنا رذاذ بهي من الفنتازيا الحالمة التي تتقلى على نار هادئة من الخصاص المدقع . هل اختار منفاه أم فرض عليه أم فر إلى أقاصي الريح ؟ "أحس أني لا أتقن إلا مطاردة نفسي ...عانقت كل الوجوه إلى وجهي " آتي لأحضن طيفك المسافر، لأستنشقه في هذا الهواء المحمل بكل الأشواق وفي بريق العيون المحتضنة في لمسات الأنامل و تلويحات الأيدي في ثنايا الشوق الذي يهمي مثل موج البحر. "إنه آخر يوم تحت شمس الوطن ،لم أستطع استبعاد فكرة الذهاب إلى البحر ... " جئت لأختبر حنيني و كمية احتياجي إلى رفقة شيدت معماريتها في طفولة غابرة، شيء من الوشائج الثابتة التي افتقدتها بشدة "كل شيء ضباب ضباب ضباب ... رغم أني اخترت الغربة ..لم أجد من يملأ فراغات روحي و الوجوه التي عبرت طفولتي وشبابي " هل نتخيل صداقات حتى نحقق توازننا النفسي، أم هي كائنة و جرفتها ذرات السنيين بعيدا؟ لا شك أني أتهجى لغة ما في هذه الرقعة المفصولة عن البين بين ، أفتت حائط النسيان الذي يمد جداره على مشارف الذكرى ، ذكرى ظلت مشدودة إلى ذلك الرحيل المنشود الذي طالما سوده في الصفحات الأخيرة لدفاتره و هو يتغنى ب "أشيلوس" الباخرة الحالمة التي تمخر عباب "شرق المتوسط "، فتن بهذا الماء المهرق على حدود الرؤية الذي حلم دوما بعبوره ، و كان له ما أٍراد ، سافر لكن ماذا بعد ؟ لسنيين طويلة تلاشت كل الخيوط التي شيدها أمل اللقيا ، لكن ما تحقق شيء أبدا "الميناء آخر قطعة من الوطن " أعرف أني لن أجد لك ظل هنا بمحطات الانتظار المقحمة رغما عني ، هي لعبة أدمنتها والسلام كما أدمنت رسائلك . لعبة تولدت مع رحيلك الحارق الذي سعيتَ إليه سعيا وتوغلي بالمقابل في العرق الجنوبي الذي كنا نشد الرحال إليه دائما في حافلات المساء وكأننا منذورون لظلمات أخرى غير ظلمة الليل التي تصحب ممشانا القدري ،نغادر على إيقاع تشنجات و دموع من أتى بهم ذويهم حتى محطات الانطلاق ، لم تكن تلويحات الايدي تكفي لركن هؤلاء المطوح بهم إلى وظائف هلامية في الأقاصي بين مقاعد باردة بل لابد من توابل مصاحبة ، لتعزف سمفونية الرحيل الجارح تحت تشنجات و دموع المآقي الحارقة . "أرعبني صوتي ، أرض الله تغرد في شراييني و تحثني على السفر إني أجهل من سيحفر قبري " ربان فقد البوصلة ، أضاع خط الرجعة لا علاقة لذلك بأول العمر ولا وسطه فقط حاول غرس شجرته في تربة بعيدة لأن فتنته بالرحيل كانت أقوى ، فقد آمن بأن كلَُ يعزف نغمته بطريقته : "إن كان لابد من رحيل فسأختار وجهتي بنفسي "قالها وهو يدون اسمه في طابور المغادرين . مقابرنا قد نحملها معنا في تطوافنا مثل ما حمل معه ابتسامته المتقشفة و هو يلتحف هواء الأرصفة الباردة لأنها بوابته إلى الهناك . "مرة أو مرتين حاولت ترتيب نفسي حين صار الآخرون غبارا لكن ما استطعت... أنت والتاريخ بعض من عذابي" آمن أن روحه ستتحرر عبر السفر و تحررت أعضاؤه كلها، مارس هواية التيهان عن سبق عشق حتى تبخر صار نثار غبار، تشظت الجمرة المتقدة في داخله كأنه لم يكن، مجرد صدى ذكرى صار . قد يكون الحنين دافعي لتتبع هذا الكائن المختفي الذي تجزأت صورته في شوارع أوروبا حيث حلم ان يحيا و هو يراكم الغياب كما الأيام في جراب النسيان ،وغزانا فيما بعد حلم من طينة آخرى حلم استعادة ملامحه و صوته و آثار خطوه ، حلم يتخطر في كل المحطات ،كأن طيفه يركب طائرة أو يجلس في مقطورة تنقل إلينا فقط الأوهام المتحللة . "كان بإمكاني أن أتهيئ لسفر آخر ..أبعد من السفر بعد تواري المرأة التي نامت إلى الأبد في حضن الغياب السرمدي، سيذكرها القلب دوما و أجد نفسي وحيدا محمولا إلى مملكتها النورانية... فلما لا أتهيؤ للسفر "