لقد قاد الهاجس "الإنسانوي" إلى تشكيل نسق عام للتفكير ولا يخفى علينا أنّ تنزيل هذا الهاجس في خطاب عصر الأنوار كان له تأثير كبير على المدى البعيد في دعم المشروع الاستشراقي الذي سيتحول من نظام سلطوي أكاديمي إلى نظام سلطوي سياسي-عسكري. إذ تطور مشروع التوحيد المعرفي إلى مشروع توحيد جغرافي، ولا نعني بالتوحيد الانسجام بين المكونات الموحدة وإنما نتحدث عن خلق شرق يشبه الغرب وبالتالي يمكن أن ينسجم معه في نسيج معرفي بل جغرافي أيضا. ولعل وعي الغرب بصعوبة تطبيق هذا المشروع على المستوى النظري فقط – إعادة بناء معارف الشرق– هو الذي دفعه إلى البحث عن سبل جديدة يتمكن من خلالها من التحكم في الشرق. وظهرت أولى مشاريع التوسع مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وحركات الاستعمار الامبريالي . ونرصد ههنا وجهين من وجوه التمثيل العسكري السيادي، الأول كان سليل الاعتقاد بأنّ الشرق ضعيف ولا يستطيع أن يسوس نفسه أما الوجه الثاني فكان إمبرياليا بالأساس هدفه توسيع الاقتصاد الغربي والبحث عن أسواق جديدة. وكما يظهر لنا مما ذكر تقف مؤسستان مختلفتان وراء هذا التمثيل. الأولى هي المؤسسة السياسية مدعومة بأفكار أكاديمية كونت صورة سابقة وجاهزة عن الشرق – يذكرنا هذا مرة أخرى بمشروع إدوارد سعيد في كشف تورط الاستشراق الأكاديمي في دعم مؤسسة الاستشراق – والمؤسسة الثانية هي المؤسسة الاقتصادية المدعومة أولا بسلطة سياسية و ثانيا بمجهود معرفي وأكاديمي كبير. وفرض الوجه الأول من وجهي التمثيل خطابا معينا ودقيقا يتناسب وهذا التصور عن التمثيل، ولا أقرب إلينا من مثال نظام الحماية المفروض على تونس من قبل السلطات الفرنسية سنة 1881. إذ تدخّلت السلطات الفرنسية في البلاد التونسي إثر عجز محمد الصادق باي عن تسديد ديون البلاد التونسية وسوء تسييره لشؤون البلاد. هذه "الحماية" التي امتدت إلى حدود سنة 1956 تاريخ الاستقلال بعد مقاومة طويلة يؤكد لنا أهمية الخطاب في تسييج المشروع الاستشراقي الغربي. إنّ التركيز على انتقاء المصطلحات و تشكيل الخطاب جزء لا يتجزأ من عملية التحكّم والهيمنة. فمصطلح "الحماية" يظهر زمن تنزيله في الخطاب ملائما للفكر الغربي الذي سعت المؤسسات الأكاديمية إلى تكوينه وتهيئته لهذا التواصل الجديد مع الشرق – تواصل الهيمنة- فالشرق كما بينه إدوارد سعيد أنّه الوطن العربي عموما لا يستطيع تمثيل نفسه وبالتالي هو في حاجة لمن يمثله. و لذلك كان مصطلح "الحماية" مناسبا لفرض تمثيل سيادي للسلطة الفرنسية على البلاد التونسية. وما يكشف لنا حقا أهمية الخطاب، انكشاف المساعي الخفية للسلطة الفرنسية لاحقا وتحوّل هذا المصطلح إلى بديله "الاستعمار الفرنسي" . وما يكشف لنا "تورّط" الاستشراق الأكاديمي في هذه المساعي هو تغيّر دور المستشرق نفسه، فهو لم يعد جزءا من مجموعة بحث بل أصبح "رسولا " للمنظمة الاستشراقية في الشرق. ونعرّج ههنا على أحد الأعلام المهمين في الاستشراق الإيطالي، " نلّينو "carlo alfonso nallino " ( 1872-1938) مدير معهد الشرق من أجل دراسة أحوال الشرق وشؤونه السياسية والاقتصادية والثقافية. وكان اختصاص نلّينو علم الفلك العربي والجغرافيا وكتب في هذا الشأن كتبا فترجم وعلّق على زيج البتّاني في ثلاثة مجلدات[14] . وما يهمنا حقيقة فيما يتعلّق بهذا المستشرق الإيطالي هو الوظيفة التي أسندت إليه من قبل السلطات الإيطالية. فبعد هيمنة إيطاليا على طرابلس عيّنته السلطات مديرا للجنة تنظيم المحفوظات العثمانية ومديرا أيضا لمكتب الترجمة [15]. واستعانت به في نقل أسماء البلدان العربية في طرابلس إلى اللغة الإيطالية وفي مسألة الخلافة أيضا التي أثارها الأتراك حينها وكانت موضوعا لكثير من المشاورات السياسية [16] وكتب نلّينو في هذا الصدد رسالة طويلة عن الخلافة وطبيعتها بشكل عام ثم الخلافة العثمانية "المزعومة" على حدّ تعبيره بوجه خاص.[17] وإذا ما دققنا النظر في طبيعة العلاقة بين المستشرق بوجه عام- نلينو مثالا– في هذه المرحلة من الاستشراق استطعنا أن نقف على الصلة الوثيقة التي أصبحت عليها العلاقة بين الاستشراق الأكاديمي والاستشراق بمؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيره. فأن يكتب نلّينو رسالة حول قضية راهنة في ذلك الوقت ليدحض مزاعم الآخر المتمثل في سيادة الإمبراطورية العثمانية لا يعني ذلك سوى تسخير السلطات السياسية والعسكرية للمعارف والدراسات لتحقيق مشاريع عملية أكثر و"ميدانية ". ثم إن هذا التزاوج المستجد للمؤسسات المختلفة للاستشراق سيدفع بمصطلح "المستشرق" إلى التطور من هاوي للشرق ثم باحث إلى خبير بالشرق. ويتنزل المصطلح الأخير " خبير بالشرق " في خطاب يبتعد بطريقة أو آخرى عن الموضوعية العلمية لينشأ في محضن معقد ومركب تتقاطع فيه الاختصاصات والمؤسسات التي تدعمه. فالخبير بالشرق لا يحدّه اختصاص معرفي علمي معيّن إنما أضحى هذا المجال مجالا مفتوحا أمام الصحافي والاقتصادي والباحث الاجتماعي والسياسي وغيرهم. ويمكننا أن نخلص ههنا إلى أنّ هذا الوجه الأول للتمثيل استمرار للنظرة الاستشراقية المدعومة بالاستشراق الأكاديمي وبمفردات أدقّ هو حسن توظيف و استثمار لها.