كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني. السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة. السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات. أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية. في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة. لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد...، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد. بعد يوم قضيناه إلى جانب المرشحين للرحيل نحو الموت،غادرنا المنطقة العسكرية متجهين إلى العاصمة بغداد. كان النهار على مشارف الوداع، دخلنا الفندق منهكين في انتظار استعادة شريط هذه الرحلة حين تكون التفاصيل قد أخذت مكانها. وقتها تذكرت أن مهمة غاية في الصعوبة تنتظرني، مهمة استعادة ذلك البلاستيك ومحتوياته التي اشتريتها من زيوريخ. تطلب مني الأمر في الأول أن أبحث عن رقم غرفة صديقاي إدريس الخوري والراحل محمد زفزاف، نزلت إلى مكان الاستقبال واستفسرت عن رقم الغرفة، ما إن علمت حتى توجهت مباشرة إلى الرقم المطلوب. طرقت الباب، أتذكر أن الفاتح كان سي محمد زفزاف دخلت وأثار انتباهي أن ممتلكاتي لم يبق منها إلا قطرات لا تسمن ولاتغني من جوع، أصبت بالصدمة لكن في رمشة عين اكتشفت أن البلاستيك الموجود بين السريرين مازالت فيه بعض »الطموحات«. لم أفكر ولو لحظة واحدة واتخذت القرار بأن أنتزع ممتلكاتي، وهكذا كان بدون أن يحرك أحد ساكنا، اللهم من بعض الهمهمات من أبا ادريس ولكن ذلك لم يعد يهم. في الغد، وقبيل وجبة الغذاء التقينا في حانة الفندق. كان السلام عاديا لكن حرارة العلاقات نزلت درجات إلى الأسفل، ففهمت من الإشارات أنني طرقت باب الخروج عن الجماعة، قلت في نفسي وليكن، ما عساني أخسر، في ذات اللحظات جاءني رجل علمت من حديثه الأول أنه من السفارة المغربية ويريد لائحة بأسماء الحاضرين من المغرب. اعتذرت له بشكل لبق مفهما إياه أنني لست مخبرا وأن الطلب الوحيد الذي بإمكاني تقديمه له هو اسمي والجريدة التي اشتغل فيها. ما أن نطقت باسم الجريدة »(الاتحاد الاشتراكي« )حتى أطلق ابتسامة خفيفة قائلا إن أصدقاء درس معهم بالجامعة يعملون في هيئة التحرير بذات الجريدة، وذكر ثلاثة أسماء، هم جبران خليل ومصطفى العراقي ومحمد خيرات، مضيفا أن جبران أقربهم لأنه يسكن قريبا من مدينة برشيد. كان اللقاء الخطوة الأولى نحو معرفة ما يجري في بغداد ومعاناة أهلها مع الحرب وتأثيراتها على مناحي الحياة. في بهو الفندق الذي كنا نقيم فيه والمطل على النهر ، كانت الحركة لا تنقطع، فكل الوفود تجتمع فيه وتلتقي مع أعضاء وفود أخرى، كما كانت مجالا لنقاشات وحوارات مع وجوه ذات قيمة معرفية مشهودا لها على المستوى العربي. تحت ظلال هذه الأجواء، تعرفت،عن قرب، على الراحل عبد الله راجع الذي كان يدق باب غرفتي، بانتظام، سواء عند تناول الوجبات أو عند الخروج من الفندق لزيارة شوارع بغداد ومكتباتها ومحلاتها التجارية. وذات ليلة احتجنا سجائر وأشياء أخرى وتكلفت بهذه المهمة وبنجاح فائق، وقتها أضحى اسمي لدى الراحل هو «»عفريت بغداد««. مازلت أذكر ونحن في الغرفة جالسين منتشين بهذه اللحظة التي لا تتكرر، حتى وقف الراحل مسرعا ومغادرا قائلا إنها حمى الشعر وغاب ساعات وعاد وكأنه دخل إلى حمام ساخن، واستمر الليل يطربنا بأشعاره وبهداياه الثمينة. في الفندق أيضا كان هناك زائر غريب يطوف المكان بهندام أسود يشبه الغراب يحصي أنفاسنا وتحركاتنا، لم يتطلب منا جهدا كبيرا لمعرفة نواياه، فلدينا تجربة ليست بالقليلة أيام الاتحاد الوطني لطلبة المغرب حين كنا نشم رائحة مثل هؤلاء الغربان الذين يبحثون عن ضحايا لنهش أجسامها بسياط التعذيب وبتقارير من الوهم. لكن هذا الغراب الذي حامت حوله الشكوك تحول سريعا إلى حمام وديع وجميل، فلم يكن له أي حرج ونحن في حانة الفندق من إعلان هويته، مؤكدا أنه سر كثيرا لما علم من مسؤوليه أنه سيتكلف بالبعثة المغربية، فللمغرب والمغاربة، وهذا ما لمسناه عن قرب، تقدير وإعجاب خاصين من طرف العراقيين، إلى حد أن أحد التجار رفض أخذ النقود مقابل ما اشتريناه من حوائج، وتذكرت ذلك مباشرة بعد أن علم أننا من المغرب، بالمقابل يخص المغاربة نظرائهم العراقيين بتقدير مماثل، وقد ظهر ذلك جليا خلال الاجتياح العراقي للكويت من خلال حملات التضامن الواسعة. لم تمر إلا أيام قليلة حتى نظم هذا الرجل العراقي اللطيف، حفل عشاء في بيته على شرف الوفد المغربي، كنا جميعا ممنونين لهذه الدعوة الكريمة خاصة عندما تعرفنا على أهل البيت والأبناء وقدمنا له بدورنا دعوة مفتوحة لزيارة المغرب، إلا أن الأحداث المؤلمة التي عاشها العراق – ربما – لم تسعفه لزيارة أرض المغرب الذي كان يتمنى أن يراه ويستمتع بأجوائه ومدنه وشواطئه . كنا جالسين في غرفة الفندق وإذا بنا نحس باهتزاز يشبه الزلزال. قفزنا من أمكاننا وفتحنا النوافذ. لم نلمس أي شيء فقد كان كل شيء عاديا. لكن حاسة الانتباه ظلت قائمة، واستمر السمر إلى حدود الزمن المتاح بدون أن ندرك حقيقة ما وقع. في الصباح ،ونحن على طاولة الإفطار، تلقينا الخبر اليقين مفاده أن إيران قصفت بغداد ليلة أمس بصاروخ هز أركان العاصمة برمتها وسقط الصاروخ قرب مولاي عبد القادر الجيلالي. تأتت لي الفرصة للانتقال إلى عين المكان بفضل صاحبنا العراقي الذي أقلنا بسيارته إلى المكان الذي سقط فيه صاحبنا الصاروخ، بالفعل كانت دهشتنا كبيرة حينما شهدنا عمق الحفرة التي خلفها، حوالي الثلاثة أمتار في العمق ودائرة تمتد لنحو خمسين مترا، ولحسن الحظ انفجر في ساحة لا بنى تحتية فيها، ولم يخلف خسائر مادية أو بشرية. وكانت هذه الرحلة الاستكشافية القصيرة ، فرصة لزيارة ضريح مولاي عبد القادر الجيلالي الذي له في المغرب أصداء وحكايات وحتى مقاطع غنائية. دخلنا الضريح زائرين وباحثين في زوايا هذا المكان المقدس، كانت كيونات بشرية نادرة تؤثث المساحات الواسعة. رجال بشعور طويلة معتكفة هناك وبألبسة رثة تثير الشفقة ونساء بلغن من السن عتيا يدخن سجائر في لحظات بئيسة، كما أن وضعهن الصحي يثير المواجع، كانت مشاهد مستفزة حقا وحسب ماعلمنا من معطيات فتلك الكيونات البشرية جميعها متصوفة معتكفة زاهدة في الحياة، قصدوا هذا المكان المقدس طلبا للمزيد من الغفران منتظرين الهداية…. هذا هو قدرهم في الحياة. الحلقة القادمة الموصل وروح الإنسان الموصلي