يشكّل هذا الديوان كأني أُفيق، الصادر عن دار أبي رقراق (2010)، في التجربة الطويلة والغنيّة والمتنوّعة لأستاذنا الشاعر عبد الرفيع جواهري مرحلة متقدّمة من الناحية الإبداعيّة والدلالية. وهو يرسّخ تلك العلاقة الراسخة والمتينة التي يقيمها الأستاذ عبد الرفيع مع اللغة العربية بتراكيبها وبلاغتها وإيقاعاتها، وانتسابه العميق إلى شجرة الشعر العربي الوارفة. قراءاتٌ متعددةٌ ومفتوحة يوفّرها لنا هذا الديون. يمكن أنْ نعتبره سيرة ذاتية شعرية تؤشّر عليها القصيدة الأولى «كأنّي أرى» حيث ينطلق الشاعر من طفولته، من حبل الصّرّة وصوت أمّه، ليستحضر تاريخ علاقته الوجدانية والجسديّة، بكلّ الحواسّ، بمدينة فاس، ويسترجع ذاكرتها، وتاريخ أسرارها الرّوحية والحضارية. كما يمكنُ أن نقرأ الديوان كرحلة، كَسَفَرٍ استعاديّ في حضارة فاس، سفرٍ مشبع بالحنين والتجلي لفضاءات فاس المتعدّدة: الاسم والجغرافيا والتاريخ…والأعلام التي طبعت مسيرة 12 قرنا. وابن عربي جاءه الفتح في مدينة فاس. فكانت الكتابة بالصمغ استكشافٌ لفاس التي «سقَتْ بِسُلافتها» ترجمان أشواق شيخ الفتوحات ابن عربي ومعراجه [الإسرا إلى المقام الأسر]. ربّما لهذا السّبب تقول كلود أدّاس في كتابها ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر، باريس، غاليمار، 1989، (ص. 182): «لو كان بإمكان ابن عربي أن يختار اسماً رمزياً لمدينة فاس، لكان سيسمّيها «نور»، لأنّه للمرة الثانية يرتقي فيها إلى منزل النور». فاس الجنة المستوحاة من ألَق المكان الشعري ومجده، دعت الشاعر لدخول جنتها بعد أن رآها بعين القلب. فتجلت له أنهار خمرها وأرائكها المبثوثة. ومن لحظة التجلي والفناء في فاس يولد الشاعر العاشق من جديد. وهي لحظة ميلاد لا يعرفها إلا من ذاق وجرّب، يقول في قصيدة «تجَلَّيْتِ لي» (ص. 81). لا بدّ من الإشارة إلى أنّ استحضار المدينة باعتبارها فضاءً شعريًّا يحضر عند شاعرنا منذ ديوانه الثاني شيء كالظّلّ حيث يوثق لرؤيته الشّعرية الغنائيّة لعدد من الفضاءات من قبيل دمشق وبيروت ومراكش. غير أنّه هنا يحتفل بمدينة فاس مستحضرًا أزمنتها وأمكنتها وحضارتها وماضيها كما عاشه الشاعر في الواقع وفي الخيال. فاس التي يقول عنها في ص. 74: «ها هيَ ياقوتتي، ما تزالْ، لها صورتَانِ: التي تتبدَّى، والتي في الخيالْ». في هذا الديوان يدخلنا الأستاذ الشاعر عبد الرفيع جواهري في عالم تأويلي خصيبٍ جد متقدم على مستوى نضج الرؤية الشعرية، بدت فيه القصيدة جسداً شعرياً متكاملاً. فقد كتب الديوان بلغة العشق الأندلسي والعشق الرّوحاني الذي يشير أكثر مما يعبّر. وهو بمثابة إعادة لكتابة تاريخ فاس كمعْلمة من معالم الرّقي الإنساني والحضاري والفكري. لذلك تحضر فاس بقوّة في الإبداع المغربي على مستوى الشعر والسرد. والمكان الفاسي في شعر عبد الرفيع جواهري ليس صوراً طفولية فحسب، ولكنه وعي شعريّ كونيّ حاضر في الكتابة، مثّلتْ فيه فاس فضاءً تخييلياً غنياً بدروبها، وأضرحتها، وأبوابها، وأسوارها، ودهاليزها، وسطوح منازلها. وهو ما جعل الشاعر يخرج من رحم فاس ليعود إليها بمتخيل شعري منفتِح على فضاءات متعددة من جغرافيتها ومن جغرافيّات أخرى. وبالتالي، فإنّ استراتيجية الكتابة في «كأني أفيق» تسير في اتّجاه التماهي مع الأماكن والفضاءات والأسماء التي تتحوّل إلى أجسادٍ تلتقط الذات الشاعرة ألَقَها ومجهولها وماضيها. إنها أبجديّة اللغة وهي تتهجّى الأبجديّة الأولى للمكان الأوّل، للبيت الأوّل، بيتِ أبي تمّام باعتبارها تكثيفًا لمتخيّل بكامله. بين ما يقال وما لا يقال ينسج الديوان حركة من النفي والإثبات، من الحضور والغياب ضمن رؤية برزخيّة تنسجم تمام الانسجام مع النّفَسِ الصوفي الذي تبنيه الكلمات والكاليغراف. مما يزيد في تلك الهالة القدسيّة التي تحيط بالمدينة. أليستْ رمزية الحرف عند المتصوفة محيِّرة للعقول بصفتها إشاراتٍ وجودية. لقد وجد الشاعر في حروف فاس طرباً وعزفاً جميلاً وتطريزًا دلاليا، فاس التي تأتي المشاهدة من عين فائها، ومن فوق قرميد سينها تحصل الرؤيا. وبين فائها وسينها يحصل التجلي، فيظهر حرف الفاء المرصع، وتبرز ألِف الفاء التي استحالت قدّاً وألِف خيزران رشيق. وهكذا تبقى المدن عند شاعرنا بحروفها وفضاءاتها كالنساء، لكل واحدة منهن سحرها الغامض الذي لا تكشفه العيون. سواء كانت فاس، أو كازابلانكا، أو تطوان، أو مراكش… (الرابسوديا الزرقاء، ص. 73). فاسالمدينة هي الجنة والميلاد والموت والانبعاث. في قصيدة «تجلّيْتِ لي» يستعير الشاعر معجم يتناصّ مع وصف الجنّة في النّص القرآني (وفاكهةٍ في الغصونِ. حدائقَ غُلْبًا… وأنهارَ خمْرٍ… أرائكَ، مبثوتَةً، سُندُسًا من حنينٍ… وطيرًا على الزّيزفونِ، وإستبرَقًا، وأبكارَ حُسنٍ، على سُرُر كاليواقيت). معجم يشكّل صدى الجنّة في سُوَر «الغاشية» و»الطور» و»الواقعة» و»الحجر» و»الرحمان». الديوانُ ينفتح على تصديرٍ يتكوّن منْ بيْتيْن شعريّيْن من التّائية الكبرىِ لابن الفارض، المسماة بنظم السلوك. وإذا كان من عادة الشعراء انجذابُهم إلى تصدير قصائدهم بجمل وأقوال مستقاة من كتّاب آخرين بهدف تكثيف وتجسير نصوصهم، فإنّ شاعرنا اختار تصديرَ الشعرِ بالشّعر. ببيْتيْن يكثّفان دلالات القصائد ويمثّلان عتبة طقوسيّة بينها وبين عنوان الديوان. لذلك لا يُعتبر هذا التصدير إضافة مجانيّة أو عنصرًا هامشيّا أو تكميليّا بقدر ما يلعبُ وظيفة بنائيّة استباقية ومدخلًا للدّخول إلى محراب القصائد. نقرأ في هذيْن البيْتيْن: فلمّا جلَوْتُ الغَينَ عنّي اجتَلَيْتُني [أيْ شاهدتُ نفسي] مُفيقًا ومِنّي العينُ بالعينِ قَرَّتِ (البيت 234) «أيْ: لمّا صقلتُ مرآةَ قلبي بالمُجاهدَة والرياضة، ورفعتُ حجابَ الرّين والغين [الغيْن عند الصوفية معناه الاحتجابُ عن الشّهود] عنّي وعن حقيقية ذاتي، شاهدتُني حالَ كوني صاحيًا بالصّحو الثاني وقرّت منّي عيني بشهود ذاتي التي هي الهوّيّة الإلهيّة المستترة بصور الأكوانِ» فعَينيَ ناجَتْ، واللّسانُ مُشاهِدٌ، وينطقُ منِّي السَّمعُ واليدُ أصغتِ (البيت 578) «أيْ أنَّ كُلًّا من العين والسمع واليد واللسان يعمل عمل غيره في هذا المقام، مقام العشق» هذا التصدير يفتح أفق قراءات متعددة: ذلك أنّ سلطان العاشقين، عمرَ ابنَ الفارض، كانت أشعاره في العشق من أعمق ما وصف أحوال المتصوفة ومواجدهم وأحوالهم وأذواقهم الروحانية. كان يرومُ الجلالَ بالجمالِ. وسلطان العارفين الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي. من هذا المقام يدخل القارئ إلى القصائد الإحدى عشرة كأنها أحد عشر كوكبًا منفصلة ومتصلة ببعضها البعض. فلولا العناوين واللوحات الكاليغرافية البهية، لخلنا أنفسنا أننا أمام قصيدة واحدة منسابة تزخر بموسيقى داخلية منسجمة وغنائيّة، مبنية على بنية تكرار جمل شعرية بعينها «كأنّي أراكِ لأوّل مرّة»، بنْية التكرار التي تتوالى معها استرجاعاتُ الذاكرة، وتتوهج بها وظيفة الغنائية للقصائد، كما أنها مبنيّة على تكرار الروي والمفردات والجرس اللفظي. هذا التصدير هو كذلك احتفالٌ بالحواسّ، بالعين والفم والسمع واللمس. وهو الاحتفالُ نفسه الذي يسري في قصائد الديون كالنّسْغ: كلّ مكوّنات ومتعلّقات فاس يراها الشاعر ويسمعها ويلمسها ويشمّها كما لو للمرّة الأولى، تنسكب خمرًا معتّقة في كأس الشاعر. المكانُ إذا لمْ يُؤَنَّثْ لا يُعَوّلُ عليْهِ أمكنة فاس التي عاد الشاعر ليربط علاقته بها شعريّا وتخييليّا تأخذ أبعادا جسدية\شبقيّة بالمعنى الصّوفي للكلمة، أي من خلال الحساسية الصوفية التي يتوسّل بها الشاعر في حنينه إلى استعادة العلاقة بها، إلى استعادتها هي في طراوتها وطفولتها وزمنها المستعاد. تتحول من مكان إلى جسد بتأنيثه قابل للاتحاد به والتّماس معه. فَعَلَ ذلك سابقا مع أمكنة أخرى (دمشق، بغداد، القاهرة، مراكش….). لذلك لا مجال هنا للحديث عن وجود مسافة بين الشاعر وبين الأمكنة، لأنّ علاقته بها ليست علاقة مبنيّة على العقل أو المنطق الظّاهري، بقدْر ما هي مبنيّة على القلب، على توارُد الخاطر، يقول: « فما كَذَبَ القلبُ ها إنّني أشاهد ما قد مضى، كَروحٍ مجنَّحَةٍ، تطوف وراءَ سحابٍ رقيقْ. أشاهدُ منْ عيْنِ فائكِ مُبتَدئي، وأُسْنِد ظهريِ إلى ألٍفِ الخيْزُرانِ الرّشيقْ» (ص. 24).من سلطان العاشقين، ابن الفارض، إلى سلطان العارفين، ابن عربي، يعني تأنيث المكان تحويله إلى مكانة، عن طريق الحضور فيه بكلّ الجوارح حدَّ الاتحاد والتّماهي: «وحينَ أراكِ… كأنّي أُراني. كأنّ الذي قد سقاكِ سقاني. تماهيتُ فيكِ، تماهيتِ فيَّ. أنا الحيُّ فيكِ، إلى حدِّ أنّيَ فانِي. (ص. 81). لنقرأ التأنيث والشبقيّة في: أموت فتتبعني من زبيبة ثديك قطرة وأعرف أن هواي هوى اليائسين، ولكن عمري في البأس يعشق عمره. أعانق فيك حياتي وتهلكتي، فكم أنت حلوة، وكم أنت مرة، وأني شهيدك، ما أعذب الموت فيك بأول نظرة». المقطع الثاني أراود في اسمك دن الحروف، (بين الشاعر والمكان-الاسم افتتان يتعمّق باستحضارِ علاقة يوسف بامرأة العزيز من خلال الفعل «أراود» ودلالاته). المقطع الثالث وها أنتِ في حُضن «زالاغَ» لؤلرةٌ، وتوتَةُ ثغرِكِ تشهدُ أنّكِ محبوبتي، وأنَّ الهوَى صارخٌ كالبريقْ. إنّه ذلك الشّبق القدسي الذي تحدّث عنه جورج باطاي وهو يحذّر من خطر التقابلات الضّدية. ذلك أنّ للأمكنة والأزمنة قدسيتَها وهالَتها التي تحوّلُ الرّمادَ جمرًا (ص.41)، ولن يحتاج قارئ ديوان «كأني أفيق» إلى بذل مجهود كبير لكي يشعر ويحس ويلمس تلك الهالة الروحانيّة التي أضفى عليها الخطُّ الكاليغرافي المغربيّ واللوحاتُ الفنية التي رصّعَ بها الفنان الراقي المبدع عبد الغني ويدة، هالةً مضاعَفَة. إذ بهذا الإسهام، ساعدنا على الكشف عن عشق جوهري رفيع لمدينة فاس، فهام بها مولدا ومنشأ وتحصيلا وروائح زكية وقببا ووديانا، وكل ما في البلدة، فكانت بفائها والألف التي ما بين الفاء وسينها : «فاسه القريبة فاسه البعيدة فاسه التي أدبرت فاسه التي أقبلت فاسه التي في إخفاء الجمال تخبئ سر سرها وتمنحه وعدها وبينه و بينها ذلك الذي لا يقال» (ها هنا مرّة أخرى وليست أخيرة تلك الدلالة الشبقيّة التي تسري في قصائد الديوان كالنّسغ، وإلا ما هو هذا الذي لا يُقال؟). فاس التي تلقت إدريس الأول في حرير دعاها وزفت له كنزة في هودج مغربي وشربت بغداد من كأسها. لذلك يرفع الشّاعر أمكنة فاسٍ إلى مستوى معنويّ ليقيم بها ومعها علاقة افتتانٍ باللغة وفي اللغة عبر تكرار وحداتٍ معجميّة وقوافٍ موقَّعَة ومُموْسَقة قُدَّتْ منْ قَلْبٍ ومنْ قُبُلٍ. أَلا يمكن القوْل إنّ اللغة التشكيليّة عند الأستاذ عبد الرّفيع تكتب هذا الجسَد الفاسي بحروف تشير أكثر مما تعبّر، تلمّح أكثر مما تتقصّد. إنّها حروف اشتهاء وتكثيف وتجلٍّ. ألَمْ تتجلَّ للشاعر فاسُ بين حرفيْ الفاء والسين؟ بينه وبين نفسه. بين الظّل والماء ص(83). هذه الألف التي تتخذّ كلّ الأشكال للينها كحرف علّة بين حرفين صحيحيْن. هناك أداة تتردّد مثل لازمة إيقاعية منذ البداية وهي «كأنّ» التي تفتتح بابَ الخيال على مصراعيه: «كأنّي أُفيق- كأني أُرى- كأني أغادر- كأني ابنُ عبّادَ غادر أندلسًا- كأنك غرناطتي- كأني أراكِ لأول مرّة- كأنك في كأس عمري- كأني أسمع- كأني أرى أنّ بغدادَ قد شربت كأسَ فاس- كأن كتابَ «الإحاطةِ» أجّلَ حتفك- كأن يراعَكَ- كأنّي أُراني- كأن الذي قد سقاكِ سقاني- كأني تراودني سِنةٌ- كأني أراود شكّي- كأني بين الحياة وبين المَنون- كأنّ حروفَ اسْمِ نهْرِكِ- كأن عشيّاتِ وادي الجواهرِ- كأنّكِ في العين طيفُ «سَدومْ»- كأنّي أناديكِ… إنّ هذه ال»كأنّ» التي يكرّرها الشاعر وكأنّها يُكِرّ سُبحةَ داخل محراب فاس هي التي تبرّر، ربّما، قراءة الديوان باعتباره أنشودة واحدة منسابة، وأنّ العناوين ليست سوى فواصل وعلامات إيقاعية. هذه ال»كأنّ» لولا الخيالُ لكنّا اليومَ في عدمٍ ……….. .ولا انقضى غرض فينا ولا وَطَرُ «كأنّ» سلطانُها إنْ كنتَ تعقلها ………… الشّرْعُ جاءُ به والعقلُ والنظرُ إنّها الأداة التخييلية التي تعطي القدرة على التمثّل، تمثّل كل شيء مهما بدا مُحالًا. كما تكمن قدرتها التركيبيّة في برزخيتها، أي في جمعها بين كلّ الثنائيات. إشارة الشاعر إلى المعراج ليس عَرَضًا، بقدر ما استحضارٌ لحدث الرّؤيا القلبيّة التي رآها محيي الدين بنِ عربي بمدينة فاس عندما حلّ بها سنة 594 ه. عالم البرزخ هو عالم الخيال بامتياز. هو «واسطة العقد إليه ينزل المعنى وإليه يرتفع المحسوس، فهو يلقي الطّرفيْن بذاته، كما يقول ابن عربي في الجزء الثاني من فتوحاته، ص. 390. عبْد الرفيع جواهري يقيم داخل هذا التقابل بين المحسوس والمعنوي. ومن داخلها يؤسّس رؤيته البرزخيّة الشعريّة والوجودية في الآنِ ذاته: «ها هي ياقوتَتي، ما تزالْ، لها صورتانِ: التي تتبَدّى، وتلكَ التي في الخيالْ. (ص. 74). ثمّ أليست العودة إلى فاس بالخيال ارتقاءً ومعراجًا معنويا نحو الفناء فيها، نحو الوحدة المفقودة. المعراج هنا باعتباره تجربة شعرية تخييليّة وسَفَرًا شبقيّا، سَفَرًا في الشّيء لا إليه.