وبمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية (3 يناير 2010) يقول جلالته « نتولى اليوم، تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية؛ وهي لحظة قوية، نعتبرها انطلاقة لورش هيكلي كبير، نريده تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية؛ كما نتوخى أن يكون انبثاقا لدينامية جديدة، للإصلاح المؤسسي العميق..» «… وطبقا لما رسخناه من انتهاج المقاربة التشاركية، في كل الإصلاحات الكبرى، ندعو اللجنة إلى الإصغاء، والتشاور مع الهيئات والفعاليات المعنية والمؤهلة… إننا ننتظر من الجميع التحلي بالتعبئة القوية، واستشعار الرهانات الاستراتيجية للورش المصيري للجهوية الموسعة، الذي نعتبره محكا لإنجاح الإصلاحات الهيكلية الكبرى، التي نقودها»؛ ورش يؤدي بالنهاية إلى إيجاد جهات قائمة الذات قابلة للاستمرار، تراعي يقول جلالته « اعتماد تقسيم ناجع، متكامل اقتصاديا وجغرافيا ومنسجم اجتماعيا وثقافيا». ومن بين الشروط الأساسية لإنجاح ورش الإصلاح الجهوي هذا، أكد جلالته في خطاب 20 غشت 2010 على ضرورة « إنضاجه، بالتعريف به، من خلال نقاش وطني واسع وبناء، وبالتعبئة الهادفة إلى تبنيه الجماعي والانخراط القوي لإنجاحه». الأمر الذي أكده جلالته مرة أخرى في الخطاب التاريخي ل 09 مارس 2011، من خلال دعوته إلى « تكريس الديمقراطية المحلية دستوريا» على أن تتصدر فيها الجهة مكانة تعزز « انبثاقها في شكلها الموسع من الإرادة الشعبية المباشرة المعبر عنها باستفتاء دستوري»؛ وحدد لذات الغرض خمس محاور؛ تعد بمثابة توجهات أساسية؛ تكفل توزيعا منصفا وجديدا للاختصاصات وللإمكانيات بين المركز والجهات، على حد سواء، وتتمثل في:» تخويل الجهة المكانة الجديرة بها في الدستور، ضمن الجماعات الترابية، في نطاق وحدة المملكة المغربية ومتطلبات التوازن والتضامن الوطني مع الجهات، وفيما بينها، التنصيص على انتخاب المجالس الجهوية بالاقتراع العام المباشر، وعلى التدبير الديمقراطي لشؤونها، تخويل رؤساء المجالس الجهوية سلطة تنفيذ مقرراتها بدل العمال والولاة، تعزيز مشاركة المرأة في تدبير الشأن الجهوي على وجه الخصوص، وفي الحقوق السياسية بشكل عام، على أساس أن يتم التنصيص القانوني لتيسير أحقيتها الولوج للمهام الانتخابية، إعادة النظر في تركيبة وصلاحيات مجلس المستشارين، بما يتوافق وترسيخ تمثيليته الترابية للجهات». وجاء دستور 2011، ليؤسس لتنظيم ترابي لا مركزي جديد، يقوم على الجهوية المتقدمة التي تؤسس بدورها لمرحلة جديدة ومهمة في تاريخ المغرب الحديث، حيث تضمن الدستور أحكاما ومقتضيات متقدمة جدا؛ لم تكن موجودة في الدساتير السابقة؛ أحكام ومقتضيات توجت مسارا طويلا وشاقا؛ حافلا بالتراكمات السياسية والإنجازات الاقتصادية والاجتماعية؛ و سمحت لأول مرة، بتعزيز دور الجماعات الترابية في النهوض بالتنمية الشاملة والاضطلاع السليم بمهامها الإدارية والتدبيرية؛ فحسب الفصل 31 من الدستور « تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة من الحق في: العلاج، العناية الصحية، الحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة، الحصول على تعليم عصري مُيسر الولوج وذي جودة، التنشئة على التشبث بالهوية المغربية والثوابت الوطنية الراسخة، التكوين المهني، والاستفادة من التربية البدنية والفنية، السكن اللائق، الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل او في التشغيل الذاتي، ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق، الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة، التنمية المستدامة». وهكذا، يمثل دستور2011 ضمانة أساسية لانخراط المجالس المنتخبة في اعتماد مبادئ الحكامة والديمقراطية والتدبير الحر، كأساس قوي لتدبير شؤونها وتبني اختياراتها وبرامجها وتنزيل الاختصاصات التي خولتها لها النصوص التنظيمية، وذلك من خلال الاعتراف للمجالس المنتخبة بالاستقلالية في تدبير شؤونها، دون تدخل سلطات الرقابة، إلا في الحدود التي يتيحها القانون، وكذلك بإقرار ممارستها للسلطة التنظيمية المحلية، والتي تنصب على اتخاذ القرارات والقيام بالإجراءات التي يتطلبها حسن سير المرافق العمومية بكيفية منتظمة وبغية الحفاظ على النظام العام. كما خص القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات القسم الثامن منه لقواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر(المواد من 269 إلى 276). لقد خصّصت الوثيقة الدستورية بابا كاملا للجهات والجماعات الترابية الأخرى، والذي يؤطر شروط تنظيمها وسيرها؛ كما يرتقي بالجهات ويجعلها تحتل مكانة مركزية، ليكرس بذلك مفهوما جديدا للجهة، كمجموعة ترابية منسجمة مجاليا تهدف إلى تكامل اقتصادي إداري تنموي، من أجل النهوض بالإمكانيات البشرية والطبيعية والمالية وتسخيرها في إطار منسجم ومتوازن. وهكذا نجد بأن «…التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة» (الفصل الأول من الدستور) و«الجماعات الترابية للمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات الترابية» (الفصل 135 من الدستور) أما الفصل 136، فقد جعل التنظيم الجهوي والترابي للمملكة يرتكز على «مبادئ التدبير الحر»، وعلى التعاون والتضامن؛ ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة. و «الجهات والجماعات الترابية الأخرى تساهم في تفعيل السياسات العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين» (الفصل 137 من الدستور) والذي ينتخب أعضائه بالاقتراع العام غير المباشر لمدة ست سنوات. كما نجد في الفصل 143 على أن « الجهة تتبوأ مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى». و يسعى القانون التنظيمي المتعلق بالجهات رقم 111.14، والذي يأتي تطبيقا لأحكام الفصل 146 من الدستور، والذي جاء شاملا، بحيث نص على « إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات الترابية وكيفية تدبيرها، وتنفيذ قرارات المجلس، والاختصاصات، والموارد المالية، وإدارتها وتسييرها، وشروط تأسيس المجموعات، وتشجيع التنمية وغيرها من العناصر الأساسية في تدبير وتسيير الجهات» )يسعى( إلى تحقيق نقلة نوعية نحو منظومة متكاملة للحكامة الترابية؛ أساسها تعميق ممارسة الديمقراطية المحلية والاهتمام بالتنمية الجهوية المندمجة والمستدامة والإسهام في تحديث تدبير هياكل الدولة والرفع من فاعلية ونجاعة عملها. ويحدد هذا القانون شروط تدبير الجهة لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وشروط تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، واختصاصاتها الذاتية والمشتركة بينها وبين الدولة والمنقولة إليها من الأخيرة . كما يقرر القانون اعتماد التصويت العلني؛ كقاعدة لانتخاب أجهزة مجلس الجهة، واتخاذ قرارات ومقررات المجلس، إضافة إلى تكريس مبدأ التدبير الحر في تسيير مجلس الجهة، والذي يخول بمقتضاه لكل جهة، في حدود اختصاصاتها، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، إضافة إلى إقرار تشجيع حضور النساء، والرفع من مساهمتهن في أجهزة مجالس الجهات. كذلك ضرورة احترام مبدأ المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجهة، والاستمرارية في أداء الخدمات وضمان جودتها، بالإضافة إلى تكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، مع ترسيخ سيادة القانون، والعمل على احترام مبادئ التشارك والفعالية والنزاهة. أما اختصاصات الجهة حسب القانون التنظيمي؛ فتتلخص من جهة، في تمكين الجهة من اختصاصات ذاتية ؛ تهم التخطيط والتنمية الجهوية وإنعاش الأنشطة الاقتصادية، ولاسيما منها دعم المقاولات، وتطوير السياحة، وإحداث مناطق للأنشطة الاقتصادية، والتكوين المهني، وتنظيم النقل داخل الجهة، وبناء وتحسين وصيانة الطرق القروية غير المصنفة. ومن جهة أخرى، تمكينها من اختصاصات مشتركة مع الدولة، وأخرى منقولة إليها من هذه الأخيرة، حيث تم اعتماد مبدأي التدرج والتمايز لبلورتها، واعتماد التعاقد كقاعدة لممارسة هذه الاختصاصات. وفيما يتعلق بالموارد المالية، فقد تم تمكين الجهات، حسب القانون التنظيمي، من موارد هامة؛ تتمثل أساسا في نسب لا تقل على 5 بالمائة من حصيلة الضريبة على الشركات و5 بالمائة من حصيلة الضريبة على الدخل و4 بالمائة من حصيلة الضريبة على القيمة المضافة، إضافة إلى ما لا يقل عن 50 بالمائة من حصيلة الضريبة على عقود التأمين وحصيلة واجبات التسجيل والرسوم البريدية وحصيلة الضريبة الخصوصية السنوية على السيارات. ونص القانون التنظيمي كذلك على أن تتوفر إدارة الجهة على مديرية عامة للمصالح ومديرية لشؤون الرئاسة والمجلس، إضافة إلى «الوكالة الجهوية لتنفيذ المشاريع». كما فتح أمام الجهات إمكانية إحداث مجموعات فيما بينها ومع جماعات ترابية أخرى، وكذا إحداث شركات جهوية للتنمية، بالإضافة إلى إقرار قواعد الحكامة الجيدة، والمتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر لشؤون الجهة ومراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة. لا شك أن مختلف الاختلالات السابقة ستؤثر لا محالة على تدبير النفقات المحلية، و قد تساهم في عدم تحقق أبعاد وأهداف الإنفاق المالي، الاقتصادية والاجتماعية؛ فالتحول نحو الجماعات المحلية، كفاعل اقتصادي وكمتدخل أساسي في عملية التنمية، إلى جانب الدولة، أصبح يفرض عليها ترشيد نفقاتها، بالإضافة إلى استهداف المردودية والنتائج والحصيلة، وفق مؤشرات واضحة ومضبوطة. إن حداثة تجربة اللامركزية في بلادنا ينبغي توطيدها وتدعيمها بصلاحيات جديدة وواسعة لبعض المؤسسات التي يمكنها دفع مسار الرقابة على الإنفاق المحلي إلى الأمام، وخاصة الرقابة البعدية. ويعد القضاء الإداري والبرلمان في مقدمة هذه المؤسسات. انتهى