كثر الحديث في الأوساط الثقافية والأكاديمية في السنوات الأخيرة، عن مفهوم الأنسنة، وظهرت دراسات وكتابات تتناول هذا المفهوم، وتتحدث عن أعلامه الغربيين وعن الذين أخذوه منهم من المفكرين والباحثين العرب، وكيفوه مع بيئتهم ومع التحولات التي عرفتها المجتمعات العربية الإسلامية، التي أصبحت رحى لحروب طاحنة تغذيها النعرات الإثنية، والصراعات الطائفية، والتأويلات الخاطئة للدين الإسلامي، الذي صار ينعت بتهم عديدة أبرزها «التطرف». ولهذا، ارتأت مجلة «ذوات»، الصادرة عن «مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث»، أن تثير في عددها الجديد (العدد 35) لشهر أبريل 2017، ملف «أنسنة الفكر الديني»، وتركز عليه كإشكالية تواجهها المجتمعات العربية الإسلامية، مع تصاعد المد الأصولي والنعرات الطائفية التي تمس في العمق الفكر الديني عامة، والفكر الديني الإسلامي بشكل خاص، حيث حاولت في هذا العدد، تقديم مقاربات فكرية جدية حول الموضوع، تطرح العديد من الأسئلة وتدعو إلى التفكير في الموضوع من جديد. إن مفهوم «الأنسنة» كما ورد عند مجموعة من المفكرين العرب الذين تميزوا بالاشتغال عليه (محمد أركون وكتابه «الأنسنة والإسلام: مدخل تاريخي نقدي»- عبد الجبار الرفاعي وكتابه المرجعي «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»….)، هو دعوة لإعادة إحياء القيم الإنسانية والمكارم الأخلاقية الأصيلة الذاتية في الدين الإسلامي، القيم التي تعطلت أو تغلفت بالممارسات العنيفة للحركات الدينية الإسلامية المسيسة، وتسيجت بالتعصب والعنف، وهو أيضا رغبة في تحطيم العزلة عن الإسلام ورفع إطارها لتقويته حتى يستطيع أن يخرج من سياجه العقائدي المحصن. «الأنسنة» هي الضمان الحقيقي والوحيد للحريات الدينية، وممارسة التدين بعيدا عن السلطة والخوف والمصالح والرياء، والمنظّم الأفضل للتعددية الدينية والتعدد في فهم النصوص الدينية، وأنسنة الدين، كما يقول المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، هي «نمط حضور ل «الإله الروحي الأخلاقي» في حياة الإنسان، وبكلمة أخرى هي «تدين إنساني روحاني أخلاقي»، لا يقطعُ الصلة بالله ويجعل الدين ظاهرة بشرية خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشرية». وبهذا الشكل، جاء ملف العدد (35)، الذي أعده الباحث والكاتب السوري نبيل علي صالح، وقدم له بمقال بعنوان «أنسنة الفكر الديني بين النص المفتوح والتقاليد المغلقة»، متضمنا لثلاثة مقالات؛ الأول للباحث والأكاديمي المغربي عبد الله إدالكوس المعنون ب «الأنسنة في فكر محمد أركون» الذي يسلط فيه الضوء على ما جاء به المفكر الراحل محمد أركون، أشد المدافعين عن الفكر الإنساني في الفكر والثقافة العربية، والمنتقد للفكر المشكك في إنسية الإسلام لدى بعض رموز الثقافة الغربية، والتي يعتبرها نابعة من موقف ثقافي يصدر عن خلفية فكرية وتاريخية تضخم أطروحة الاستثناء التاريخي للمسار الأوربي الذي أنتج الحداثة، والثاني للباحث والأكاديمي الأردني إبراهيم غرايبة تحت عنوان «الأنسنة في الفكر الديني»، الذي تناول فيه تجارب التأسيس النظري لمفهوم الأنسنة في الفكر الإسلامي، واستعرض آراء عدد من الباحثين والمفكرين الإسلاميين حول أنسنة الفكر الإسلامي. والمقال الثالث للباحث المغربي منتصر حمادة، المعنون ب «العقل الإسلامي المعاصر والإرث المعتزلي.. هوامش على المتن» الذي خصه للإرث المعتزلي، ذي النزعة الإنسانية الجلية لدى ورثة الفلاسفة في المرحلة الإسلامية، والأوائل والرواد في تعميق نزعة «الأنسنة» في التاريخ العربي الإسلامي بأفكارهم المتطورة التي تحتكم إلى العقل. أما حوار الملف، فهو مع الدكتور عبد الجبار الرفاعي، أحد أبرز المفكرين العرب المهتمين بموضوع الأنسنة، والذي أصدر فيه كتب ودراسات متنوعة، والذي أشار إلى الأهمية القصوى لاكتشاف المنابع الإنسانية في الدين، باعتبارها محاولةٌ لإحياء الصورة الروحانية الأخلاقية الجمالية لله، والتحرر من كل الصور النمطية للإله العنيف الدموي المحارب التي أنتجتها العصور المختلفة. وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد 35 من مجلة «ذوات» أبوابا أخرى، منها باب «رأي ذوات»، ويضم ثلاثة مقالات: «الهوية الُمضلّلةٌ.. بيوتٌ الله الشائكةٌ» للشاعرة والكاتبة السورية فرات إسبر، و «أضلاع جسد: أدونيس والإقامة عند حدود القلب» للباحث التونسي حاتم التليلي محمودي، و»الإعلام وتجديد الخطاب الديني في مصر» للباحثة المصرية ضحى سمير؛ ويشتمل باب «ثقافة وفنون» على مقالين: الأول للناقد السينمائي الجزائري عبد الكريم قادري بعنوان: «سينما «العشرية السوداء»: تاريخ يكتب بالمرارة والدم»، والثاني للباحثة والأكاديمية السورية نوال الحلح بعنوان: «توظيف التقنيات السردية في روايات هاني الراهب». ويقدم باب «حوار ذوات» لقاء مع الفنان الفوتوغرافي الأردني محمد حنون، أنجزه الكاتب الأردني محمد منير، يتناول موضوع التصوير الفوتوغرافي بالعالم العربي والمشاكل التي يتخبط فيها، ويقترح «بورتريه ذوات» لهذا العدد صورة للمفكر والكاتب المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، صاحب «الذاكرة الموشومة»، و»الاسم العربي الجريح»، والعديد من الأعمال الفكرية والسوسيولوجية والأدبية، التي اعتمد فيها أسلوب التفكيك والنقد. البورتريه من إنجاز الباحث والأكاديمي المغربي عبد العزيز بنار. وفي باب «سؤال ذوات»، يسائل الكاتب والإعلامي التونسي عيسى جابلي مجموعة من الكتاب العرب حول موضوع شائك، بدأ يطرح نفسه بإلحاح في السنوات الأخيرة، بسبب المحاكمات التي يتعرض لها الكتاب والأدباء بدعوى الإخلال بالآداب العامة، فيما يقدم الكاتب والباحث السوري عماد صحناوي في باب «تربية وتعليم»، مقالا بعنوان: «المربية والمربي إذ يحتاجان إلى تربية». ويقدم الكاتب والأكاديمي المغربي رشيد برهون قراءة في رواية «مسلة الخليفة» للكاتب المغربي محمد الناجي، يتناول فيها صراع الرموز وبناء الذاكرة النسائية، وذلك في باب «كتب»، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث»، إضافة إلى لغة الأرقام، التي تقدم أحدث بيانات الأممالمتحدة حول اللغات في العالم، والتي تكشف عن مواجهة أكثر من ألفين و500 لغة من أصل 7 آلاف و100 لغة يتحدث بها البشر حول العالم، خطر الانقراض. يمكن تصفح المجلة من خلال الرابط التالي: https://goo.gl/XvevRU كما يمكن تحميل العدد من خلال الرابط : https://goo.gl/Un9qFW