من المسلمات، أو يكاد يكون، ما يطفو على السطح من اختلاف و تطاحن الإيديولوجيات، مرده بالأساس إلى طغيان الاعتقاد أحادي القطب والناجم عن تبني طروحات و مقولات غير قابلة للدحض على الإطلاق، وهو اتجاه أقرب، إلى حد بعيد، من الدوغماتية. إن نزعة من هذا القبيل، والمتمثلة في الرفض المطلق لأي فكر يتقاطع، أو يخالف أفكارنا السائدة، أو المعتقد بها، مرده بالأساس إلى اختلاف في المرجعية والتاريخ، ومن تمة إلى طغيان التعصب الفكري الذي يعد بحق حاجزا أمام كل معرفة جديدة، وهو ما يسمى بالنزعة اللاشكية، أي اعتناق التوجه دون ريب ولا شك في عدم صدقه أو صحته، وهو إشكال سببه عدم الانفتاح على الأفكار والتوجهات المخالفة للرأي . مجرد وقفة تأني تجعلنا أمام حقيقة لها نصيب كبير من الصحة، مفادها أن الاختلاف غالبا ما يعود إلى اصطدام الدلالات والمعاني، كما يكون مرده إلى سوء ضبط المفاهيم والعبارات، هذا الخلط في المقاربات الدلالية يتغدى أيضا على اختلاط الفكر بالسلوك، والعادة بالفكر، فتغيب الموضوعية، وتنتصر الذاتية، وكلها عوامل تنتج تعطيل التفكير وتشوش عليه . إن عالم الأفكار يستدعي عادة توحيد آليات إعمال العقل، كما يتطلب توحيد المبادئ والمنطلقات، وإلا فالكل على صواب، أو العكس، فكل اعتقاد أو مبدأ يسقط في مسألة الزعم بإطلاقية آرائه ومعارفه، بمعزل عن فكر الواقع، فهو يزيغ عن الصواب. إذا كانت الإيديولوجيا نسقا فكريا معتقداتيا، ومنظومة شمولية تفاعلية لمختلف مناحي الشأن العام: اقتصادي، سياسي، اجتماعي، تربوي، فلابد لها أن تعكس درجة الوعي المجتمعي إلى أبعد مدى، لذا نجدها تتمخض عن الواقع الروحي المنسجم والكيان الاجتماعي، إلا أن العيب في بعضها، أنها تنطلق من حقائق معينة، فتزكيها وتؤمن بها، لكن تغيب أخرى لأجل خدمة طروحات وتوجهات محددة، فتجعلها سجينة أفكار بعينها، وفي كثير من الأحيان فإنها تسقط في الذاتية، مما يجعلها دوغماتية الأساس والتوجه، بسبب النظرة أحادية الجانب، التي يقيدها الانتماء، وإملاءاته. تفرض فلسفة المعرفة لذا التوجهات الإيديولوجية، صنع الوعي الجماعي الذي ينطلق من الواقع ليتم توجيهه في اتجاه التغيير، ليس بالضرورة إلى الأحسن، بل إلى واقع تريده إيديولوجيا ما, أما الفعالية، فتكمن في صنع واقع سوسيولوجي معرفي خالص، بعيدا عن الانتصار لهذا التوجه أو ذاك، لهاته الإيديولوجيا أو تلك، لهذا فإن جوهر الإشكال يكمن في كونها ليست أداة للتحليل، ولا هي آلية لبناء منظومة الأفكار، المعاني والدلالات، بل هي منظومة تفاعلية لصنع فكر يدعم الطرح ويزكيه، ويخلق واقعا يدين بالولاء لهذا التوجه السياسي الحزبي أو ذاك، وهو توجه يعمل بمعزل عن فلسفة الواقع. يتطلب الأمر التحلي بروح التسامح، في مدلوله الفلسفي، كما يفرض دراسة متأنية للواقع، ليتم تشخيص علله، ثم استحضار عناصر الإخفاق، تبيان الثغرات، بهدف صناعة البدائل، للحصول على نتائج، في النهاية، قادرة على إنتاج فكر بعيد عن الدوغماتية، أقرب إلى العلمية، الواقعية، الموضوعية، باعتبارها أساسيات تعكس علم الاجتماع السياسي الحقيقي .