عبد السلام أزدام حالة إنسانية وإبداعية متفردة في المشهد التشكيلي المغربي، قوامها «أسطورة شخصية» تنهض على جدليتي الظهور والاختفاء على نحو إشكالي ومثير لتساؤلات مربكة. فبعد أن شغل المهتمين بمحطتين صباغيتين لافتتين، هما: «عتبات السراب» (1992) و«مدارج العشق» (1999)، توارى فجأة عن الأنظار وذاب في سجف الغياب لما يربو عن عقد كامل من الزمن، لكنه يعود هذه السنة بحلة قشيبة وبمنجز أقوى ضمن نطاق جنس تشكيلي غير متوقع، من خلال معرضه الجديد، الموسوم بعنوان مخاتل هو: «التفاحة الموصوفة ب(المحرمة)»، الذي احتضنه في الآونة الأخيرة رواق «غي Galerie Rê» بمدينة مراكش في إطار «مراكش بيينالي 2016». ما يقرب عن عشرين منحوتة بكتل حجمية متباينة وبمنظومات جمالية متعددة، يقدمها الفنان، سواء بوصفها حضورا ماديا للصورة في الفضاء، أو باعتبارها من فنون التنصيصات والمنصبات. وهي في جماعها لا تغادر موضوعة النصف العلوي من الجسد الآدمي، لكن وفق توجه ينأى بهذه الموضوعة «الجسدانية» عن المحاكاة «الأرسطية»، ويسمو بها إلى مصافّ ذهنيّ، يغدو من خلاله المنظور النحتي مسرحا لطراز من التشخيصية المختزلة التي يمكن أن تصل إلى ضفاف التصورات المجردة. إذ إنّ المرجعية الفلسفية للفنان عبد السلام أزدام ترخي بظلالها الوارفة على سمت شخوصه ومخلوقاته «الأفلاطونية»، التي تربأ بنفسها عن كل ما هو حيواني وشهواني من رغبات إيروسية أو نرجسية أو جماعية كامنة في «اللاشعور البصري» كما ينعته «ريجيس دوبريه»، لتقدم نفسها للعين الرائية ذاتا «ديكارتية» منشغلة بهم الكون والوجود، ومنساقة صوب بحث محموم عن «الحقيقة». فالصلصال أو الطابوق المعدني، الذي يعالج الفنان عجينته المائعة علميا، كيما تتوافق مع درجات الصهر المطلوبة لعمليات التحويل والتشويه والتزجيج المنجزة داخل أتون الفرن الغازي، يتخذ في هذا المعرض هويات شكلية تنويعية، لكن تبعا لنفس المبدأ الأوليّ للنصف العلوي من الجسد الآدمي. فتارة هو منحوتة كلاسيكية وفية لمادّتها وغير مفرغة من ثقلها، مكتفية بذاتها ولا تحيل إلى أية حكاية على هامشها، تلوح في سكونيتها الأزلية بلا ملامح تعبيرية وغفلا من الأذرع والأطراف. القفا منها مخالفة للوجه، وعلى ظهرها أو صدرها تكرار مصغّر ومبهم لنفس المنحوتة، مع اعتماد تركيبات إضافية من الكوبالت والكروم وأوكسيد النحاس تضطلع بمهمة التزويق اللوني. بيد أنه يجب الانتباه إلى كون تلك «السكونية الأزلية» مخادعة بامتياز، مادام البعد الثلاثي للمنحوتة يوفر للسطوح حركة تعيش في قلب السكون، أو يصيرها «كتلة ثابتة الحركة فيها باطنية» على حد تعبير النحات المصري «آدم حنين». وتارة أخرى هي بنية دائرية ما بعد حداثية، مخترقة بتجويفين يحاصران النصف العلوي من الجسد، الذي يجاهد بغرض التنصل من شكله المبدئي، ليجاري بانمساخه القالب السّالب للمنحوتة. وعند ذاك يفقد قوانين القياس والاتساق والتناغم، ليكتسب إيقاعا جديدا. أما في طور ثالث فهي بنية تربيعية على هيئة قالب موجب مستقيم، يتراءى داخل مركزه النصف العلوي من الجسد الآدمي، وبجواره الصورة القرينة لذات الجسد، بعد أن تم تقويرها وتخريطها، وكذا تقليص حضورها إلى درجة الغياب، غير أنه في واقع الأمر «غياب يؤكد الحضور. غياب يمكن اعتباره ملكية خاصة لما هو حاضر» حسب تخريجات الناقد «ردولف أنهاين» في مؤلفه «التفكير المرئي». طبعا، لا يمكن التغاضي عن صلة مختلف هذه الهويات الشكلية المشار إليها بالأنواع المثالية للهندسة «الأوقليدية». وهي هويات متصاعدة من الفراغ إلى الدائرة، وصولا إلى المربع. وتمثل بالنسبة للفنان «استعارة علمية» للتعبير عن ملاحقته المستميتة للحقيقة الفلسفية. فنحن نتواجد في العالم بأجسادنا المفكرة، لكن حين يطال العطب الفادح والألم الأقصى هذا الجسد، ينكسر الحلم، وتمزقنا أمواس الإحباط واليأس والخيبة. وقتئذ، يصبح الجسد العليل في حالة كدر، وتخبو داخله ملكة التفكير العاقل المرح، لينحدر رويدا فرويدا صوب الجنون والعبث. نصبح أبدانا مقعرة وكليمة تحتاج إلى يد عمياء حانية وإلى آذان رخية مصغية. ومن هنا، تأكيد الفنان المتميز عبد السلام أزدام على أهمية «شعرية الإحساس بالمنحوتة»، وعلى دور كل من حواس النظر واللمس والسمع في توليد شحنة أحاسيس مكملة، تربت على كثافة المادّة وأبعادها ونتوءاتها، تصيخ إلى هسيسها وأصواتها الجوفية، وتدرك بالمآقي علاقتها بكميات الضوء ومنسوب الظلال. باختصار : تنفذ إلى الجهة الأخرى المظلمة والخفية من المنحوتة.