رواية «شراك الهوى» عمل من الحجم الصغير، يحمل عبر 125 صفحة ملامح جمالية الرواية الحديثة. وهذا العمل وإن كان الأول بالنسبة لمؤلفه الشاعر محسن أخريف إلاّ أنه، ومن الصفحات الأولى ينجح في إيقاع قرائه في شراك القراءة؛ « شراك الهوى» رواية عصرية ترصد الحياة العاطفيّة للسّارد الّذي وجد في الشبكة العنكبوتية وسيلة لبث هموم الذات والجسد والخواء الروحي. إنّنا عندما ننظر إلى العنوان « شراك الهوى» باعتباره عتبة رئيسة للنص، وإلى مسار هذا العمل من بداية الفصل الأول: «شؤون خاصة»، وصولا إلى الفصل الأخير: «العلاقة في المبتدإ محض تجريب» نجد أنفسنا أقرب إلى الرّواية الشهرزادية؛ ألم تنجح شهرزاد في إيقاع شهريار في شراك هواها من خلال الحكي المستمر وتغيير الحكايا لألف ليلة وليلة؟ كذلك نجحت وفاء الكندالي في الإيقاع بكمال في شراك هواها من خلال عمليّتي الجذب والصّدّ عبر الشبكة الالكترونية من خلال تغيير الشّخصيات المنتحلة طيلة ثلاث سنوات، وهي المدة التي إذا قسمناها إلى أيام تصبح ألفا وثمانين ليلة. كما أن هذا السّرد الشّهرزاديّ سيتحقّق عبر مستوى التّشكيل والرؤية، إذ استوعب « شراك الهوى» خطابات السّرد الرئيسة، وهي التتابع والتداخل والتوازي: أ التّتابع:
ونعني به المشاهد المركزية المنظمة وفق ترتيب زمني، وفي إطار تصوّر محدّد، ينظم حركة المشاهد في تدفقها فيشكّل خطّ السّرد الرئيسي. فالرواية تبدأ من خلال عملية استرجاع بطيئة لبداية العلاقة بين البطل وصديقته، هذه العلاقة التي انطلقت في العالم الافتراضي، وبلحظة تهديد بقطع العلاقة إذ أن البطل لم يحملها محمل الجد، فالعلاقة بحد ذاتها «لم تكن تعني له الشيء الكثير» ص 3، إنها لا تعدو أن تكون تجريبا محضا. وحتى المصادفة التي جمعتهما في اللقاء الأول يداخله الشك في أنها كانت كذلك «أي مصادفة». وباسترجاع سريع تتوالى من خلاله أسماء عديدة لفتيات جمعته بهن خانات الدردشة الالكترونية بكل مستوياتها وعلى اختلاف أشكالها. تتداعى الأسماء دون ملامح تذكر، لايجمع بينها سوى أنها كانت البادئة في إلقاء التّحية أو رمي طعم العلاقة، ورغم وعيه بما يكتنف الخطوة الأولى من التباس فهو يمضي في هذه اللعبة دون اكتراث بالعواقب فهو يعرف أنها: « تكذب، فأنتَ لم تهاتفها أبدا». كما جاء في الرواية. هذا العرض السّريع لبدايات علاقات ابتدأت افتراضية، قبل أن تتحقّق واقعيّا باللقاء بين الأطراف، سرعان ما سيتخلى عنه السّارد ليجعل من وفاء الكندالي عنصرا رئيسا لاسترجاعٍ صعبٍ، هذا الاسم سيطفو ليصبح فيما بعد المستأثر بآلية السّرد، مفسحا المجال لتقنيات أخرى على مستوى التّداخل والتّوازي، لتشكل جميعا بنية هذا العمل، ولم يمنع تراكم مكوّنات المادّة السّرديّة، وتنوعها من بروز منطق السّببيّة بين البداية أو المقدمة والنتائج. فغياب وفاء الكندالي المفاجئ في حياة البطل «كمال» يرجعه الكاتب في الفصل التاسع والعشرين، المعنون «وفاء»، والذي تتولى فيه هذه الأخيرة دور السارد، إلى معاناتها مع مرض السرطان. أما سعاد فتصبح هلامية عندما تحضر صورة وفاء لتحمل ملامحها، وبالتالي يستعيض السّارد كمال بجسد سعاد ليستحضر وفاء، وسيصبح وجود سعاد مجرد تعويض عن فراغ خلّفته وفاء دون أن تنجح أيّ أنثى في تأثيثه بشكل كامل. ب التداخل:
إن التّتابع الأفقي للمشاهد المركزيّة، التي تربط السّارد كمال مع البطلة وفاء الكندالي لم يمنع من أن يطفو أسلوب التّداخل في الرواية، فقد تعدّدت صنوف التّداخل ومنها: المونولوج، الاستدعاء في الذاكرة، الرسائل، مقتطفات من الصحافة، قراءة الأبراج… إن رواية «شراك الهوى» بالأساس رواية نفسيّة، تتجرّد من الزوائد الاجتماعية والتاريخية، وتتخلص من تداعيات الأحداث السّياسيّة اليوميّة، ولهذا يلج بنا الكاتب، عبر التّداخل إلى الانشغالات اليومية الصّغيرة للسّارد، مثل علاقته ببيته القائمة على المرحلية: «بيت الأعزب الذي كلّ شيء فيه مؤقت…كلّ شيء فيه مبني على أنه ظرفي ومرحلي، كل شيء مبني على الفردانية والأحادية «. (ص 5) «العلاقات التي تنشأ فيه مبنية على افتراض عدم الدوام» (ص 5)؛ هذا الشعور بالمرحليّة سينعكس على علاقاته التي سيجعلها مرحلية أيضا وغير جدّيّة، إلى درجة انفلاتها من ذاكرته في بعض الأحيان، فحضور كل أنثى يستدعي جهدا لتذكر البدايات التي تتخذ شكل أحلام بعيدة المنال، ثم تغدو أيضا أحلاما هاربة ما دام البطل ليست لديه الرغبة في تحويلها إلى واقع دائم، يقول: «كنتَ تحتاج إلى كثير من الوقت كي تستعيدَ تفاصيل العلاقة بوضوح، فقد عشتها وكأنها حلم، كان يبدو لك أنه لن ينتهي إلا بالاستيقاظ على آهات وأوجاع». وقوله أيضا: « فسعاد لم تكن سوى حلم بعيد في البداية، ثم بدأ الحلم في الاقتراب منكَ، وفي الاتضاح، إلاّ أنه رغم وضوحه فإنّه كان وضوحا معميا، يُدخل الإنسان في حالات من الحذر؛ الكثير من الأشياء الواضحة جدا هي أشياء غارقة في الغموض، وعلاقتك بسعاد كانت تتسم بمثل هذا النوع من الوضوح)).(ص 19) «شراك الهوى» يمكن اعتبارها رواية باطنية، فهي لا تقرأ من خلال تسلسل زمني متجانس، بل عبر مجموعة من المعطيات التي توحي بالتشتت، ورغم التّداخل في المشاهد بين التذكر والحلم، والواقع والافتراض، إلا أنه يمكننا أن نرصد تتابعا أفقيا للمشاهد المركزيّة من خلال قصة وفاء الكندالي، التي تحضر بقوة من خلال سرد الأحداث الواقعية والاستيهامات والأحلام. إنّ المونولوج الدّاخلي للسّارد يسمح بتقديم المحتوى النّفسي للشّخصيّة، ويعكس الفراغ الروحي والاضطرابات السلوكية الناتجة عن الغياب المفاجئ لوفاء الكندالي: «المساءات تمر حزينة دون وفاء، تمر الهوينى كأن لا شغل لها، وكلما مر بكَ طيفها ازدادت الساعات ثقلا في السير. مساءات لم تستطع ثرثرات النت ملأها، حتى أنك أصبحت عصبيا ومزاجيا ونزقا، ففقدت الكثير من الصداقات الافتراضية، إذ القلب أصبح لا يرى إلا وفاء» (ص 58). وهذا الحوار الكاشف للبعد النفسي للشخصية ولصراعها الدّاخلي يسير موازيا لما يحدث لهذه الشخصية في الخارج؛ خط مواز ومؤثر في نفس الوقت، إذ أن هذه الأحلام تأتي تحقيقا للرغبة في كسر حدّة الغربة والخواء الذي يحكم قبضته على «كمال» منذ الفصل المعنون ب « الفراق القارس». (ص 54). يقول السارد: «لأول مرة تعرفُ أنّ للحب معنى آخر، ووجها آخر هو الفقدان، ولأول مرة تعرف أن الفقدان يجعل الإنسان يتشبث أحيانا بالأوهام، بوهم أنها ما زالت معك، وبرفقتك، أنها تقضي المساءات معك. وهكذا اختلط الوهم بالواقع عندك، تعمد إلى خلطهما أحيانا كي تعيش لحظات متعة تقتنصها في الصباح وأنت بين النوم واليقظة، وأحيانا قبل أن تنام، لكن في الحالة الأخيرة، كنت تشعر بجوع رهيب، وهكذا اختلط عندك طعم الفقدان بطعم الجوع» (ص 57). هذا المستوى من التّوهم وأحلام اليقظة سيتطوّر عند البطل في الفصول اللاحقة إلى أحلام نوم تأتي متراوحة بين الاستيهامات المرغوبة والكوابيس غير المرغوب فيها: «تمضي وقتا ممتعا مع سعاد، لكن طيف وفاء الكندالي يسكنك ويعيش معك وداخلك، فتتذكر وكأنه حلم تلك المزح التي كنت تسر بها إلى وفاء». (ص 75). هكذا يسكن طيف وفاء الكندالي مخيلة كمال حتى تغدو موضوعا لسلسة أحلام أو منامات: «…بدأتَ تفقد الأمل في عودة الذي كان بينكما، بدأت الليالي تتخذ شكل فقدان بالنسبة لك. تقوم في الصباح ورأسك متعب من أحلام البارحة».(ص 88).»وفي ليلة أخرى استيقظتَ مذعورا وملفوفا بعرق كثير، فقد انبعثت في حلمك فتاة استأذنت بأن تقرأ عليك شعرا)) (ص 89) «..ردَّتْ: لأني سأزورك كل ليلة. قلت لها: وهل ستأتين دوما بِبَيَانِكِ وتغادرين؟ أجابت: افعل بي ما تشاء فأنت تحلم». (ص 90). ويقول السارد أيضا في نفس الصفحة: «أحسستَ بطعنتها في القلب، كيف تتجرأ وتخبركَ أنك تحلم الآن، وأنها ليست واقعا أمامك. تشعر أنها قسمت رجولتك نصفين، فاستيقظت مذعورا، محاولا أن تفند أنك كنت تعيش في الحلم وليس في الواقع، لكن العرق الذي كان ينزف منك، كان دليلا قاطعا أنك خارجٌ من الحلم، وحينما عدتَ للنوم لم تتركك الأحلام غارقا في عالم السهو، حيث لا شيء يحدث بالمطلق…وحيث تدخل في سكينة ووئام مع العالم والذات « ص 90. يحافظ تداخل الواقع بأحلام اليقظة، والاستيهامات بالمنامات، والمنامات بالكوابيس، على تقنية الاسترجاع والاستدعاء من الذاكرة محقّقا حركة مدّ وجزر في السّرد الرّوائي، وهو استدعاء لم يمنع الكاتب من رصد المسار الأفقي للحدث الروائي، المتقدم في الزمن رغم الحضور القوي للحظات زمنية منفلتة، وهذه الاختراقات تعمل على تجميد الحدث الحاضر خاصّة مع طول لحظات الاستذكار وامتداد الأحلام وتواترها. يقول السارد: «كانت وفاء طيفا يزورك في كل حين ولحظة، يباغتك في النوم واليقظة، طيف يترك آثاره على المزاج وأسلوب العيش، تتغير الأمزجة وتفاصيل الحياة الصغيرة، تتذكر أحداثا كانت وفاء محورها أو مهيجتها، كأن تفاجئك في الصباح الباكر في الفراش، وفمك ممتلئ بالرضاب الحي بعد ليلة سعيدة مليئة بالهناء، الذي لا يعكره كابوس أو إحساس بعدم الرضا عن مجريات الحياة؛ الرضى عن النفس عامل أساسي للحياة الهادئة، يستيقظ الإنسان كأنه يغادر ليلج عالما آخر مختلفا تماما..» ص 95. كما تساهم الرسائل الالكترونية في التداخل بين الأزمنة والأمكنة وتعدّد الأصوات الساردة، وهو ما يعكس تمكّن الكاتب من تقنيّة التّركيب، حيث وظّفها في انسجام بغية توحيد الرؤية، اللّهم بعض النّصوص الوصفيّة القصيرة التي قد لا تخدم السياق، والتي تدخل في إطار التوثيق للمدن (فضاء العرائش مثلا)، خاصة في عمل ينأى بنفسه عن الارتباط بمكان معين، فهو يسمو لأن يكون ممتدّا في الزّمان والمكان. ج التوازي:
اعتمدت الرّواية أيضا أسلوب التوازي، وإن كان صوته أخف وطأة مقارنة مع التّتابع والتّداخل، فعالم الشخصيات على قلته يتخذ من المقارنة والمقابلة أسلوبا معتمدا لرسم معالمها، في سكناتها وحركاتها وهيئاتها…وقد عوّضت هذه الشّخصيات التّوازي المفترض للعالم الخارجي، فلا نكاد نجد حضورا لأحداث موازية اجتماعيّة أو سياسيّة، وكأنّ الرّواية تنحصر، من خلال الافتراضي والواقعي، في رسم الملامح الجوانيّة للشخصيات؛ فحديث وفاء عن نفسها يوازيه الحديث عن مدينتها العرائش، وهو الشيء الوحيد الذي كانت تسهب في الحديث عنه؛ تتجرد من ذاتها كأنها تحكي عن وفاء أخرى. وختاما ف»شراك الهوى» نص عصري مفتوح على مداخل قرائية عدة، خاصة وأن تعدد تقنياته منحه حيوية واضحة وسلاسة أمام فعل القراءة، إنه أول عمل روائي للشاعر محسن أخريف، وبالتأكيد لن يكون آخر عمل. (*) كاتبة وناقدة، أستاذة بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لطنجة المراجع: محسن أخريف؛» شراك الهوى» ، حائزة على جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، منشورات الاتحاد، المغرب 2010 .سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي المركز الثقافي العربي، البيضاء المغرب 1991 محمد المعادي، 1 جمالية التأويل والتلقي في الخطاب القصصي والروائي بالمغرب، الخليج العربي ، تطوان المغرب، 200. 2. حدود القراءة، حدود التأويل، مقاربة نقدية في الابداع المغربي المعاصر، منشورات مرايا طنجة، المغرب، 2005.