حصل محمّد نبيل مُلين على دكتوراه في التاريخ من جامعة السربون، وعلى دكتوراه في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس. وهو يعمل باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، وأستاذا في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. أصدر سنة 2013 كتابه الجديد « السلطان الشريف : الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، الرباط»، وهو يناقش في هذا الحوار، تقييمه للراهن السياسي المغربي وحدود الإسلام السياسي والقوى المستقلة عن السلطة، فيما سيقدم في الجزء الثاني من هذا الحوار وجهة نظره -وخلاصات مؤلفه الجديد - في المخزن من التأسيس واليوم والتحولات التي شهدها. كيف تقيم الدستور بعد أكثر من 3 سنوات من اعتماده؟ رغم أن دستور 2011 هو ثمرة حراك دولي ووطني استثنائي، إلا أنه يعكس إلى حدّ كبير المرحلة البرزخية التي يعيشها المغرب منذ سنوات. إذ تحاول هذه الوثيقة التوفيق بين مجموعة من المتناقضات. فهي من ناحية تعترف بسيادة الشعب وتنادي باحترام حقوق الإنسان وتؤكد على فصل السلط الخ. لكنها من ناحية أخرى تريد الحفاظ على السلطات الواسعة التي تتمتع بها المؤسسة الملكية. وهذا يعني باختصار أن النظام المغربي نظام هجين (مختلط) فهو ليس سلطويا بالمعنى التقليدي للكلمة، كما أنه مازال بعيدا عن الديمقراطية بمعناها الغربي. والحاصل أن هذا النص يعبر عن حالة التوتر والتردد، بل نقل عدم الثقة (في النفس وفي الغير) التي تسود المعترك الاجتماعي المغربي نتيجة التحولات العميقة التي يشهدها على أكثر من صعيد. يضع دستور 2011 المغرب إذن على مفترق الطرق: التراجع أو المراوحة أو الإصلاح. ولئن كانت كل هذه الاختيارات صعبة ومكلفة فإنها تتوقف بشكل كبير على تطور موازين القوى على أرض الواقع وعلى المتغيرات الدولية في السنوات المقبلة. { هل يمكن في نظرك تأويل الدستور الحالي ب»تأويل ديمقراطي» دعني استحضر مقولة منسوبة إلى علي بن أبي طالب: «القرآن بين دفتي مصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال». إن كان نص سماوي يتحمل تأويلات كثيرة ومتناقضة فما بالك بوثيقة دستورية تمت صياغتها بسرعة بالغة وفي ظروف مرتبكة. وحتى وإن لم يكن الأمر كذلك فطبيعة الصراع السياسي تحتم وجود تأويلات مختلفة لأسمى قوانين البلاد ومن بينها التأويل الديمقراطي. وهذا التأويل يحتاج إلى مجموعة من المقومات الذاتية والموضوعية يمكن أن نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: ظروف وطنية ودولية مواتية، وجود نخب فعالة تحمل هذا التأويل، وجود قواعد شعبية تساند هذا التأويل، إنتاج خطاب فكري وإعلامي يؤيد هذا التأويل، تفعيل هذا التأويل من خلال الممارسة السياسة والجمعوية وحتى الفردية، تفعيل هذا التأويل من الناحية الإجرائية من خلال القوانين التنظيمية والمدونات القانونية والدعوات القضائية التي تؤسس للسوابق. وهذا يرجعنا إلى إشكالية موازين القوى على الأرض. { لننزل قليلا من المجرد، ونتوجه نحو الخارطة السياسية الموجودة الآن بالمغرب، هل تظن المغرب يتوفر على توازنات تمكنه من التأويل الديمقراطي؟ إلى حدّ الساعة التأويل الديمقراطي صعب رغم وجود مجهودات فردية وجماعية متفرقة، لأن موازين القوى في صالح الملكية التنفيذية. فالمؤسسة الملكية على رأس تحالف واسع يسهل لها الاحتفاظ بصلاحياتها. إذ تتحكم في الأجهزة الأمنية وجزء كبير من الجهاز الإداري والكثير من وسائل الإعلام وجزء لا يستهان به من المجال الاقتصادي. كما أنها توظف خطابا وطقوسا بشكل شبه يومي للتأكيد على مركزيتها. زد على ذلك الظرف الدولي غير المناسب جراء الأزمات التي تشهدها الدول التي عرفت ثورات منذ 2011 . ومع هذا كله يبقى العائق الأساسي أمام التأويل الديمقراطي، بل الانتقال الديمقراطي هو انعدام البدائل بمعنى عدم تواجد تحالف واسع داخل المجتمع المغربي قادر على قلب موازين القوى تدريجيا لصالحه. { لكن حزب العدالة والتنمية يقترح نفسه مشروعا بديلا بشعار «إسقاط الفساد والإستبداد»؟ إسقاط الفساد والاستبداد يستوجب وجود ترسانة فكرية وإعلامية وقانونية وإدارية وسياسية جرارة وموارد بشرية مهمة لا يتوفر عليها حزب العدالة والتنمية مثل أغلبية الأحزاب الوطنية. لذلك تبقى هذه المقولة مهما كانت نية أصحابها مجرد شعار انتخابي لا يسمن ولا يغني من جوع هدفه استقطاب جزء من الطبقة المتوسطة الوليدة التي تتطلع إلى اسماع صوتها والمشاركة في مسلسل صناعة القرار بشكل من الأشكال. { لكن ألا تحتوي أوراق الحزب مشاريع في وجهة نظرك؟ تقديم برامج سياسية من أبجديات العمل الحزبي. فعلى غرار أغلبية الأحزاب المغربية ينشر العدالة والتنمية برامجه. لكن هل هذه البرامج نتاج لعمل فكري عميق وتراكم معرفي سميك وتجربة ميدانية على مدى عقود أم أنها مجرد اجترار لكتابات وتجارب أخرى لا علاقة لها بالواقع المعيش؟ وحتى إن كان الأمر كذلك فالحزب لا يتوفر على الموارد البشرية الكافية والنفوذ اللازم لتطبيقها لأن هندسة النظام المغربي لا تسمح لأي حزب بالحصول على أغلبية مطلقة في المجالس المحلية والوطنية وبالتالي في الحكومة ودواليب السلطة. وهذا ما حصل مع الاتحاد الاشتراكي في نهاية التسعينات ونسبيا مع حكومتي حزب الاستقلال في نهاية الخمسينات. تطبيق البرامج الحزبية مرهون إذن بقلب موازين القوى في المعترك السياسي وهذا على امتلاك رؤية واضحة واستراتيجية سليمة ومشروع مجتمعي متماسك ونخبة قادرة لا مجموعة من الشعارات. { هل أفهم من كلامك أن حركات «الإسلام السياسي» عاجزة عن تغيير الأمور؟ لقد عجزت الحركات الدعوية التي وصلت إلى السلطة في بلدان مثل أفغانستان والسودان وغزة ومصر عن تغيير الأمور كما عجزت الحركات اليسارية والقومية التي سبقتها وذلك راجع أساسا إلى قراءتهم الخاطئة لواقع وتطلعات مجتمعاتهم والنقص في الموارد البشرية وضبابية الرؤيا السياسية الخ. زد على ذلك أن الحركات الدعوية كما تبين ذلك العديد من التجارب التاريخية تجد صعوبة كبيرة في التحول إلى حركات سياسية لأن ذلك يتطلب مجموعة من التغيرات الجذرية لاسيما التحول من جماعة منغلقة على ذاتها تدعي تملك الحقيقة المطلقة إلى تجمّع يتفاعل مع العالم. لأن هذه الامور تجبرها على التخلي نسبيا أو كليا على ركائز نجاحها الأولي مثل المبادئ الفكرية والقواعد الشعبية دون إيجاد أدوات بديلة أو مكملة على الأقل. لا أقول إن التحول مستحيل لكنه صعب المنال ويحتاج للكثير من المجهودات والطاقات والوقت. ولكن هذه المقومات قلّ ما تجتمع لحركة دينية. وإذا عدنا إلى الحالة المغربية نجد أن الحركات الدعوية التي توغلت في المعترك السياسي في الأربعين سنة الأخيرة لم تأت بالجديد في المجال السياسي اللّهم الخطابات «الأخلاقية» و»الطهرانية». تخليق العمل السياسي شيء جميل ومطلوب لكنه يجب أن يقوم على مشاريع سياسية حقيقية وقابلة للتطبيق. { هل يعني ذلك أننا محكومون بالديكتاتورية كمعطى نهائي في المنطقة بدل إعطاء الفرصة لهؤلاء الفاعلين الذين تقول إنهم يرتكزون على الخواء؟ الطروحات التي تقول بنهاية التاريخ اثبتت عقمها. نحن في منطقة في طور إعادة التشكل ولا أحد يمكن أن يتكهن بالمنحى الذي ستأخذه الأمور. زد على ذلك أن لكل حالة خصوصياتها وتعقيداتها وسيرورتها. الخروج من السلطوية لا يتوقف فقط على الناحية الإجرائية لاسيما العلمية الانتخابية ولكن كذلك على مقومات أخرى تحدثنا عن بعضها باقتضاب أعلاه. فالفوز في الانتخابات لا يعني بحال من الأحوال الوصول إلى السلطة وهو ما حدث في دول مثل مصر وتونس والمغرب. وهذا ليس بالجديد. لقد حصل نفس الشيء في مناطق أخرى حول العالم لاسيما في أمريكا اللاتينية. الوصول إلى السلطة يستوجب إخضاع مجموعة من مراكز القوى عبر صراع رمزي وفعلي. لذلك فمقولة «إعطاء الفرصة» تبدو ساذجة لأن العمل السياسي ليس ملائكيا بل تدافع مكيافيلي كل الوسائل فيه مباحة كما يبين ذلك جيدا المثالين التركي والأوكراني. { من ينافس الإسلاميين الآن؟ هذا السؤال يستدعي استحضار أغلبية الفاعلين في المعتركين الديني والسياسي. ففي المعترك الديني يجب عليهم مواجهة السلفيين والصوفيين والمؤسسات الرسمية ومجموعات دينية أخرى محلية وأجنبية. أما في المعترك السياسي فهم يواجهون العديد من التشكيلات والمجموعات التي يهمها استمرار الوضع القائم كما يواجهون بعض التيارات المعارضة على اختلاف مشاربها. أضف إلى ذلك بعض التيارات التي أفرزها حراك 2011 ولم تتبلور بعد. وهذه المنافسة راجعة بطبيعة الحال إلى اختلافات عقائدية وفئوية وطبقية ومناطقية ومصلحية. التحالفات المرحلية ممكنة لكنها عامة هجينة ولا تصمد طويلا أمام التناقضات البنيوية كما هو الحال بالنسبة لمحاولات التقارب بين بعض الحركات الدعوية واليسارية في المغرب. فالتحالفات على المدى الطويل يجب أن تقوم على أرضية فكرية متجانسة وأهداف متقاربة لا على الحسابات المرحلية الضيقة. هذا ويجب القول إن العرض السياسي الحالي مهما كانت مرجعيته لا يرقى للتطلعات ولاسيما شرائح واسعة من الطبقة الوسطى الوليدة التي تبحث عن بدائل للعمل السياسي التقليدي. { ألا ترى أن اليسار يملك نخبا أو على الأقل كان يملك نخبا في وقت سابق؟ من المجازفة الحديث علميا عن يسار في المغرب بل هناك عدة أحزاب وحركات وتيارات ذات مرجعية يسارية. لكن ما يفرقها يكاد يكون أكثر مما يجمعها. هذه الأحزاب والحركات والتيارات امتلكت وتمتلك الكثير من المهارات الفردية كما هو الشأن بالنسبة للفاعلين الاخرين. المشكل الأساسي هو تحويل هذه المهارات الفردية إلى عمل جماعي مؤسساتي تراكمي يقوم على رؤيا طويلة الأمد قادرة على التعبئة والضغط وبالتالي جلب التغيير. والحاصل هو أن أكثر اليساريين عاجزون عن تجديد خطاباتهم لمواكبة متطلبات المرحلة كما فعله غيرهم في مختلف أنحاء العالم وغير قادرين على تجديد نخبهم من خلال الانفتاح على شرائح اجتماعية جديدة وبالتالي توسيع قاعدة الاستيعاب والضغط. سيكون هذا الأمر صعبا خصوصا أن مجموعة كبيرة من هذه الجماعات اليسارية اختارت السهولة منذ سنين وتبنت النموذج التقليدي القائم على الشخصنة والتحالفات المناطقية والعائلية والمحسوبية والبحث الدائم عن الغنيمة. { هل ذلك يجعلنا في ورطة تكرار أنفسنا ولا يمكننا أن نجد مخرجا؟ إعادة إنتاج نفس النخب واجترار نفس الخطابات لا تؤدي عامة إلا إلى حلول ترقيعية. إن أية عملية إصلاح أو تغيير أو انتقال تقوم على مجموعة من المقومات لاسيما إيجاد نخب ونخب مضادة قوية. وذلك مخالف تماما «للمهدوية السياسية» السائدة التي تراهن على الشخصية المثلى والجماعة المثلى والحلول المثلى. بينما السياسية نسبية بامتياز. لهذا يفترض وجود أطراف متعددة تتدافع من أجل السلطة فالتدافع يصنع بالإضافة إلى عوامل أخرى لا يتسع المجال لذكرها معترك سياسي تنافسي. أما في حالة وجود فاعل أساسي واحد فسمة المعترك السياسي تكون الارتخاء مما يسبب قلة الالتزام والعزوف والميوعة.